مقتلة الجولان إذ تتعدى الاعتدال والممانعة
حسن شامي
غداة مقتل 23 فلسطينياً وسورياً وجرح العشرات على يد قوات إسرائيلية قرب الأسلاك التي تفصل الجولان السوري المحتل عن الوطن الأم، قدّم وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك تشخيصاً شديد الاقتضاب لحيثيات المقتلة، وهو يبدو صائباً في نظر كثيرين.
رأى باراك أن زحف مئات الفلسطينيين في ذكرى النكسة هو من تدبير النظام السوري للتخلص من الأزمة التي يتخبط فيها، وأن النظام هذا سيسقط خلال مدة تتراوح بين ستة وتسعة أشهر. وكان الرجل نفسه قد دعا الإسرائيليين، بعد فترة قصيرة من اندلاع الانتفاضة السورية، إلى عدم الخشية من سقوط النظام من دون أن يفصح عن المعطيات التي يستند إليها والباعثة، وفقه، على الاطمئنان إلى مستقبل سورية ونزاعها المفترض مع الدولة العبرية لاسترداد الهضبة المحتلة منذ 1967.
يمكن الإقرار بصحة توصيف باراك في ما يخص السياق الداخلي السوري وسماح النظام، على غير عادته، بتسخين الحدود الجولانية هرباً من الاستحقاقات و«التنازلات» المتوجبة عليه وتبريراً لخياره الأمني، المصحوب بقمع دموي وشرس، في معالجة أزمة سياسية وبنيوية عميقة.
لم ينتظر أهالي مخيم اليرموك لا تشخيص باراك ولا تصريحات المسؤولين الدوليين عن المقتلة كي يهاجموا بعفوية صادقة، أثناء تشييع شهدائهم، مقر تنظيم الجبهة الشعبية – القيادة العامة احتجاجاً على استخدام أبناء المخيم «لحماً للمدافع». سقط في المواجهة عشرة قتلى من الأهالي برصاص التنظيم الذي اتهم عناصر مسلحة بمهاجمة مقره.
التوقف عند توصيف باراك لا يعود إلى دقته المزعومة، بل إلى اندراجه في معمعة رسائل وإشارات متقاطعة يتلوى على إيقاعها حاضر سورية ومصيرها. يمكن الجزم بأن النظام السوري الغارق حتى أذنيه في الهروب الأمني إلى أمام أراد التلويح بنقل المعركة من الداخل نحو الحدود. ولا يهمه أن يحاكم أخلاقياً على استخدامه الورقة الفلسطينية استخداماً نفعياً وأداتياً، فهذا من مقتضيات المناورة السياسية وحساباتها وفق ما يستدل من تجارب ونزاعات كثيرة في العالم. وقد صدرت قبل حادثتي الحدود الجولانية، في ذكرى النكبة ومن ثم النكسة، تصريحات في هذا المنحى عن شخصيات نافذة من دون أن تكون رسمية. رسالة أهالي مخيم اليرموك الغاضبين تفصح عن الرفض الأخلاقي للتلاعب الصلف والبارد بقضيتهم العادلة. تصريح باراك هو أيضاً رسالة إلى الداخل الإسرائيلي والعواصم الكبرى مفادها أن هدوء جبهة الجولان أمر «طبيعي» وأن توتـيـرها مـن قبـل نظـام تـتآكل شرعيته مخالف، ليـس لوضع مستمر وهادئ منذ عـقـود بل للـطـبيعة وقـوانيـنـها مـمـا يجــعل الرد الإسرائيلي الوحشي على مدنيين عزل أمراً طبيعياً جداً لا يلتفت إلى تصنيفات الاعتدال والمـمانعة الـشـائعة عـربياً، بل إلى فائض القوة الإسرائيلي وتكريسه قانوناً طبيعياً. وقد صادق غير مسؤول غربي على هـذه الرسـالة مع دعوة خجولة إلى عدم استخدام القوة المفرطة. وفي هذا المعنى تكاد رسالة باراك تكون وحدها ذات طابع برنامجي في الأمد المنظور على الأقل.
كثيرون يرون بحق أن افتعال التوتير على جبهة الجولان ممجوج لأنه فاقع الانتهازية والمصلحية الضيقة. فهو لا يخاطب الداخل الوطني ولا حتى القاعدة الاجتماعية للنظام. إنه ابتزاز موجه أصلاً إلى القوى الغربية المندفعة نحو مزيد من الضغوط على النظام ليس بالضرورة لإسقاطه بل لإضعافه على الأرجح في انتظار «نضوج الثمرة». ويأتي في هذا السياق مشروع إصدار قرار من مجلس الأمن لإدانة سورية ومصادفة اكتشاف النشاط النووي السوري غير الشرعي مما دفع بوكالة الطاقة الذرية إلى رفع القضية إلى مجلس الأمن.
هذا النوع من الابتزاز للحفاظ على الاستئثار بالحكم والتفرد بالسلطة يتعارض من حيث المبدأ مع الثقل التاريخي والشعبي لحقل مستجد أنشأته الانتفاضات العربية من دون أن يتضح بعد أفقها الذي يبقى مفتوحاً على شتى الاحتمالات. ويظهر أن النظام السوري تأخر كثيراً في التقاط حمولة هذا الحقل الواعد بصراعات وتجاذبات كثيرة، وإن في قوالب وأشكال مختلفة، والتكيف مع متطلبات التمدد فيه. وليس مستبعداً أن يكون هذا التأخر لعلّة بنيوية في تكوينه تجعله قليل الالتفات إلى التحولات والتجارب الواقعية وشديد التعلق بالصورة الخيالية التي يصنعها العقل الأمني ويفرضها واقعاً وحيداً. نضوج الثمرة لا يعني نقل الموقع السوري من «الممانعة» إلى «الاعتدال» كما يتراءى لهواة الاصطفاف شبه القبلي خلف عناوين جامعة مانعة لا يعرف فيها لأي قضية رأس ولا ذنب إذ تصلح للسجال والنكاية والمناكفة. والمصطلحان المرفوعان مثل علمين وشعارين للنزاعات الإقليمية مشتقان من تصنيفات ضختها الإدارة الأميركية للتمييز بين «إسلام معتدل» وآخر متطرف. وكان التمييز هذا، خصوصاً بعد اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) يستند إلى معيار واحد هو التعاون مع القوة الأميركية إلى حد التضحية بأي قدرة على التفاوض لحماية الاستقلال الوطني. إنها فقاعات إيديولوجية لا يتجاوز عمرها، في الزمن الإعلامي الذي نعيشه، أعمار استهلاكها القصيرة. وقد تلقف الإسرائيليون المعزوفة ولم يجدوا صعوبة في ترجمتها إلى مسعى لتحويل السلطة الفلسطينية إلى جهاز من المتعاونين مع القوة التي تحتل أرضهم.
الانتفاضات العربية وجدت صداها الفلسطيني، خصوصاً مع تبدلات الأداء المصري، فسرّعت المصالحة ومنحت طرفي الانقسام قوة تفاوضية سيجرى اختبارها في الأمم المتحدة في آخر الصيف مع مشروع إعلان الدولة الفلسطينية. ويعني هذا أن الاستحقاق الفلسطيني سيكون حاضراً بقوة في أفق الحراك العربي. وهناك حالياً سباق ومناورات كثيرة، أطلسية وغير أطلسية، للتحكم بمسار التحولات القادمة عبر النفاذ إلى قلب الحقل السياسي الناشئ الذي سيضع على المحك أزمنة تاريخية وبنى اجتماعية متفاوتة يصعب اختزالها وتذويبها في زمن إعلامي سريع حافل بالأفكار والأحكام الجاهزة.
وقد تكون التطورات الفلسطينية الأخيرة من الاعتبارات التي دفعت النظام السوري إلى تسخين الحدود في الجولان. ذلك أن هذه التطورات ترمز إلى إعادة صياغة للمسألة الفلسطينية ولحقل التجاذبات الإقليمية الذي تندرج فيه بطريقة تتعدى فولكلوريات الاعتدال والممانعة. بعبارة أخرى، قد يكون صحيحاً أن النظام السوري تلاعب دوماً بالورقة الفلسطينية، من بين أوراق أخرى، لتحسين مكانته وإدامة سلطته. لكن الصحيح أيضاً هو أنه لم يخترع المسألة الفلسطينية ولا احتلال الجولان السوري. من المفهوم أن يحض مثل هذا السلوك المنفعي، كما حصل مؤخراً، على رمي الطفل مع الماء الوسخ. فكما أن الرد على استخدام المحرقة اليهودية لتبرير السياسات الإسرائيلية لا يكون بنفي المحرقة أو التقليل من قيمتها كاختبار للفظاعة البشرية، كذلك الأمر في ما يخص المسألة الفلسطينية.
الحياة