مكافحة الفساد غير قابلة للتحقيق في سورية
دفع طارق 25 ألف ليرة سورية (500 دولار) ليُخرج إبنه المعتقل من إحدى فروع الأمن. يعرف الأب أن إبنه لم يقم بأي فعل يعاقب عليه القانون، لكنه يعلم كالكثيرين من أبناء المحافظات التي تشهد إحتجاجات ضد النظام منذ نحو 9 أشهر أن رجال الأمن يقومون بإعتقال العديد من الشباب ليقاضوا أهاليهم بمبالغ مالية.
بالنسبة إلى طارق التجربة التي عاشها مع إعتقال إبنه مثال على الفساد المنتشر في الدوائر الأمنية، وهذه الظاهرة ليست جديدة لكنها تفاقمت في الآونة الأخيرة. المحامي عمار يرى أيضاً أن حالات الرشوى المستشرية في دوائر الأمن قديمة لكنها في هذه الأيام تستغل أحسن إستغلال. فالمواطن السوري يسمع ما يحصل مع المعتقلين في الفروع الأمنية ويصبح على استعداد لدفع مئات الآلاف من الليرات السورية حتى يتم إخراج الشباب من هناك، وهو ما يستغله رجال الأمن ليقوم بعضهم بالتفاوض مع أهالي المعتقلين بعد حجزهم بساعات على ما يمكن أن يدفعوه من أموال لإخراج أبنائهم. ووفقاً لعمار فإن أجر بعض رجال الأمن في هذه الأيام يصل وسطياً لمليون ليرة سورية (20 ألف دولار تقريباً) في الشهر.
إبتزاز أهالي المعتقلين ظاهرة تتداخل فيها عوامل عدة: السلطة المطلقة التي وضعها النظام في أيدي الأجهزة الأمنية في سورية، العنف الذي يمارس بحق المواطنين العزل وإستغلال منصب معين من أجل الحصول على المال. الفساد بشتى أنواعه ليس جديداً على سوريا وعلى مؤسساتها الحكومية.
من الممكن أن نبدأ بالحديث عن الفساد من شرطي المرور الذي يطلب مبلغاً متواضعاً لغض النظر عن مخالفات مرورية، إلى رئيس البلدية الذي لا يمنع البناء المخالف في مدينته لقاء حصوله على مبالغ متفق عليها، إلى الوزراء الذين يستلمون “عمولات” من رجال الأعمال ويفرضون عليهم شراكات مربحة، إلى أعضاء القيادة القطرية والقومية الذين باتت مكاتبهم مكاناً للتوسط بين رجال الأمن والناس العاديين.
ويعترف عضو بارز في حزب البعث (رفض ذكر إسمه) بأن الفساد بات “ممارسة شبه يومية” بالنسبة للذين يتبوؤون موقعاً ما في السلطة أو في مؤسسة أو وزارة: “وهذا يعني أن المكافحة تتطلب نفحة جديدة غير تقليدية، قوامها الإعلان والشفافية والجرأة في الطرح، وتفعيل مواد قانونية وعلى رأس كل ذلك الإعلام”. ويضيف العضو في الحزب الحاكم قائلاً بأن الإعلام يتناول هذه الأيام بعض جوانب الفساد البسيطة لكنه لا يجرؤ على الحديث عن فساد الكبار وفساد الدوائر الأمنية.
الفساد وفقاً للإتفاقية العربية لمكافحة الفساد تعد “ظاهرة إجرامية متعددة الأشكال ذات آثار سلبية على القيم الأخلاقية والحياة السياسية والنواحي الإقتصادية والإجتماعية”، فيما تراها منظمة الشفافية العالمية “إستغلال السلطة من أجل المنفعة الخاصة”. أما البنك الدولي، فيعرّف هذه الظاهرة بأنها “إساءة استعمال الوظيفة للكسب الخاص”.
ويعتقد الخبير الإقتصادي السوري قدري جميل أن من أهم أسباب إرتفاع نسبة الفساد في سورية هو إنخفاض منسوب الحريات مما يجعل الأشخاص الذين يستلمون الرشوة مصلحة في إنعدام الحريات في المجتمع ويصبحون في مأمن من الإنتقاد والفضح.
وإذا عدنا بذاكرتنا إلى الأسابيع الأولى للإحتجاجات الشعبية، نذكر الشعارات التي كان يرفعها المتظاهرون ومنها المطالبة بالقضاء على الفساد ومحاسبة الشخصيات ذات النفود المستفيدة منه مثل رجل الأعمال وقريب الرئيس رامي مخلوف الذي يعد رمز الفساد في سورية.
وعلت أيضا من داخل الأوساط الموالية للنظام أصوات منادية بإنشاء “هيئة مكافحة الفساد” ولجنة قضائية مستقلة وقرارات إلزامية التنفيذ في سياق مشروع الإصلاح الذي تكثر رموز السلطة في الحديث عنه في الآونة الأخيرة. الحكومة الحالية برئاسة عادل سفر لبت جزءً بسيطاً من هذه الدعوة وقررت تشكيل”لجنة لمكافحة الفساد”، ولكن ليس من مهامها محاسبة أي طرف أو إصدار قرار إلزامي، ليكون رأيها إستشارياً لا أكثر.
وتهدف هذه اللجنة الحديثة التأسيس إلى تحديد وتوصيف جرائم الفساد وآلية ملاحقة ومعاقبة مرتكبيها، وإقتراح الآليات اللازمة لتعزيز النزاهة وأعمال مبدأ الشفافية مع ضرورة إقتراح الضوابط اللازمة للوقاية من الفساد وآليات مكافحته. يضاف إلى ذلك إقتراح الآليات اللازمة لاعمال مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص والعدالة. لكن ومنذ صدور القرار في صيف 2011 لم تخرج اللجنة بأي قرار أو فعل يشير إلى أنها موجودة على خارطة إصلاحات النظام الحالي سوى تقريرها اليتيم حول أسباب الفساد وطرق معالجته.
بالأرقام
منظمة الشفافية الدولية صنفت سوريا في تقريرها السنوي لعام 2010، في المرتبة الـ127 عالمياً من أصل 180 دولة، والمرتبة الـ15 عربياً في قائمة المنظمة للعام نفسه، وتحسن ترتيبها بمقدار درجة واحدة عن المرتبة التي احتلتها عام 2009. ومن المعروف أن مؤشر منظمة الشفافية يرتب الدور طبقاً لدرجة ومستوى الفساد بين المسؤولين وفي المؤسسات الحكومية. وبذلك يعد تقرير المنظمة الفساد في سورية مشكلة وباء مزمن يهدد إقتصاد الدولة. أما “لجنة مكافحة الفساد” فقد ركزت في تقريرها على التهرب الضريبي والجمارك والمنافذ الحدودية والشرطة وقطاعات رخص البناء كبؤر يجب الإنتباه إليها، إضافة لضرورة إصلاح القضاء السوري لإعتباره العنصر الأساس في مكافحة الفساد.
ويرى الخبير الإقتصادي قدري جميل أن الجهات التي أشارت إليها اللجنة في تقريرها تعد المناطق الأكثر فساداً والأكثر إهداراً للمال. ومن الملاحظ أن اللجنة لا تذكر المؤسسات العسكرية والأمنية وممارساتها في إبتزاز أهالي المعتقلين بالإضافة إلى هدر مئات الملايين من الليرات السورية على عدتها وعتادها ومهامها دون أن تنشر أو تفصح عما فعلت وأين ذهبت هذه الأموال وهو ما يؤثر سلباً على الحالة الاقتصادية في سورية.
ومع غياب الإحصائيات الحقيقية في سورية نجد أن وزارة المالية ولأول مرة تصدر إحصائية معتمدة تقدر بها حجم الفساد في الأشهر الـ(19) من العام الذي يسبق عام 2010 بنحو 5 مليارات ليرة سورية (100 مليون دولار تقريباً). ولكن أرقام الخبير قدري جميل تناقض إحصائية وزارة المالية وتشير إلى أن نسبة الفساد من الإقتصاد الوطني تبلغ 30% من الدخل الوطني.
إقتراحات وأفكار
الإعلام أحد الحلول المقترحة من قبل مسؤولين سوريين لمكافحة الفساد منذ زمن ليس بالقليل. وقد قام بعض الصحفيين بالفعل بفضح حالات فساد ولكنهم تعرضوا إلى مضايقات من قبل عدد من المسؤولين ومن مدراء الصحف. وفي ظل عدم وجود إعلام مستقل في سورية وغياب حرية الصحافة والتعبير، فلا يمكننا أخذ هذا المقترح على محمل الجد.
مقترح آخر يطرح تفعيل دور المواطن الذي بإمكانه تقديم تقارير حول حالات فساد يلاحظها في مؤسسات أو وزارات. وتعد هذه التقارير والملاحظات التي يقدمها وسيلة إدانة وعلى أساسها تباشر الجهات المعنية تحقيقاتها. وأبدى العديد من الموظفين استعدادهم للمساعدة في أي قرار لمكافحة الفساد. الشرط الأساسي لتطبيق هذه الفكرة هو وجود أدنى درجة من الثقة بين الموظف أو المواطن من جهة وبين صاحبي القرار في المؤسسات الحكومية. ومن الصعب تصور أي علاقة إيجابية في الظروف الحالية بين المواطنين ومؤسسات الدولة. ومن المستبعد جداً أن يكتب طارق مثلاً تقريراً بما حصل مع إبنه في فرع من فروع الأجهزة الأمنية السورية ويرسله إلى جهة حكومية ما، بانتظار محاسبة رجل الأمن المسؤول عن الإعتقال والإبتزاز!
ويشير رئيس تحرير جريدة حكومية سابق (رفض ذكر إسمه) إلى ضرورة الإنتباه إلى سياسة الأجور وإعطائها دوراً كبيراً في المعالجة، على أساس تجديد الكوادر المؤهلة، وإعطائها الأجور المناسبة الكافية لمنعها عن التفكير بالمال الحرام وعدم الإعتياد عليه: “هناك منافذ يمر منها الفساد، يجب إغلاقها!”.
وربما الخطوة الأهم لمكافحة الفساد، وهذا ما إقترحه تقرير “لجنة مكافحة الفساد”، هو الإصلاح القضائي، ويعني ذلك في المقام الأول عدم ممارسة ضغوط من طرف سياسيين وحزبيين وأقرباء الرئيس وعدم سيطرة الدوائر الأمنية على الساحة القضائية، مما يجعل الإصلاح القضائي تابعاً لعملية الفصل بين السلطات. والسلطة القضائية اليوم في سورية أبعد ما تكون عن الاستقلالية.
المقولات عن مكافحة الفساد هي جزء من خطاب الإصلاح الذي يردده النظام منذ إندلاع الإحتجاجات في مارس/آذار الماضي، لكن وفي خضم صراعه من أجل البقاء الآن، ليس من المتوقع أن يقوم بأي خطوات جدية.
http://damascusbureau.org/arabic/?p=1689