صفحات الثقافة

ملف جريدة السفير عن بدر شاكر السياب

عمـــود الســـيّاب

عباس بيضون

حينما يخطر بدر شاكر السياب تخطر معه تلك الحكاية الممجوجة عمن يملك براءة اختراع قصيدة التفعيلة. أحسب أن النقاد ومؤرخي الأدب أضاعوا وقتاً ثميناً في هذا البحث ولست أعلم أن شأناً من شؤون التاريخ استدعانا كل هذا الاستدعاء، بل أزعم أن ليس من باب أهمل في حياتنا وثقافتنا بقدر ما أهمل التاريخ. نعم تعاركنا طويلاً على الأنساب وأظن أن علم الرجال هذا نال قسطاً غير قليل من اهتمامنا. بل أزعم أن هذا لم يكن انشغالاً بالتاريخ بقدر ما كان انصرافاً عنه، ذلك أن صحة الأنساب لا تقر بشيء للهجنة والخلطة والتلاقح والتمازج وهذه هي مكونات الواقع وسبيله إلى أن يصبح تاريخاً. أظن أن هذا الجدل حول الأسبقية في قصيدة التفعيلة ينتمي إلى علم الأنساب أكثر مما ينتمي إلى علم التاريخ. وكأننا بذلك نخرج الشعر ونخرج الثقافة كلها من الهجنة والاختلاط ونزعم لها نسباً صافياً. آن ذلك نضيّع التاريخ فيما نضيعه. كل بحث انتهى إلى مصدر وما فات الأكثرين أن الاختلاط والتغرب والتلاقح كانت مسار هذا التطور وحلقاته وأدواره. ثم ماذا يعني أن يكون المرء أولاً في هذا الفن أو ذاك. ماذا يعني أن يخلص الفن الواحد فيكون له أب معلوم صريح ويكون بذلك فناً شريفاً طاب أصله وتحدرت سلالته كابراً عن كابر. هكذا يقال اليوم إن قصيدة التفعيلة صريحة العروبة بخلاف قصيدة النثر التي هي فاسدة النسب، وترشق قصيدة النثر بأنها ليست من موروثنا ولا هي مدخولة النسب فحسب بل هي من زنا ثقافي.

هذا الجدل حول أسبقية السياب حصره في هذا الباب. انشغلنا بنسب الشعر عن الشعر، والحق أننا ضيعنا كثيراً وأكثر مما نظن في مسألة الأنساب هذه. الأرجح أن السياسة قامت على ذلك والإيديولوجيات تطعمت به والمخيلة الأدبية والسياسية امتلأت منه والرؤى والتطلعات لحقته. الأرجح أن هذا البحث ظلم السياب بقدر ما ظلم قصيدة التفعيلة، والغريب أن هذا الجدل لا يزال رغم أن قصيدة التفعيلة أنتجت كلاسيكييها، وقد يكون السياب أول هؤلاء الكلاسيكيين. ثم أن السياب ليس مخترعاً. وقد يكون هذا الباب أوهى صفاته فقارئ السياب لا يزال يشعر أنه مد في البيت الشعري بقدر ما قَصَره وأنه قد يكون أسال العمود الشعري وأرسله أكثر مما حطمه أو كسر فيه. الأرجح أن السياب فجّر العمود الشعري بمعنى أنه فجر كل طاقته وكاد أن يستنفدها. هذا الجانب حيوي جاذب في شعر السياب بمقدار ما يبدو عمله على تفتيت العمود وتسييله جاذباً وحيوياً. هكذا يمكننا أن ندرج السياب في ما بعد العمود.

مثل هذا الجدل يجعل من السياب قاعدة في الشعر وتمريناً وقالباً فحسب، ما يعيننا على قراءته أو ما يجعل نصه منمذجاً منمطاً من البداية فلا نقرأه إلا لنقيس عليه. الحق أن ما أسميه تسييل العمود وإرساله أو ما بعده قد يكون من أكثر ما يجذبنا إلى السياب، لكننا بقدر من الاستحياء وقدر من المعاندة وقدر من التردد لا نقر أن ما جذبنا هو تماماً ما نرفضه في ضميرنا. لا نقر بأن «عمودية» السياب الخاصة به هي ما يستدعينا إليه وأن غناءه، الذي هو ترسل للعمود وتمديد له، هو النَفَس الذي يشق قلوبنا ويملأها بالحنين واللهفة. كأن إدراج السياب في تاريخ الشعر وتاريخ القصيدة المعاصرة هو ما يمنعنا عن قراءته بدون مسبقات وبدون نمذجة جاهزة. إذ يشق علينا أن نفكر بأن تجربة السياب لم تكن لتدمير العمود أو إزالته بقدر ما كانت بالدرجة الأولى ارتكازاً عليه وتطويراً له واستخداماً ذكياً لقدراته. لكأن جزءاً من جاذبية السياب هي في هذه المزاوجة وذلك الانتقال بين نغمين. أحدهما تفكيك والثاني إرسال وتسييل. لكأن السياب في قصائد عصماء مثل «غريب على الخليج» أو «مدينة بلا مطر» يسحرنا حين يجعل من القصيدة وحدة لحنية. هذا ما كان ويبقى مضمراً مطوياً في إمكانات العمود الشعري. وبالطبع لم يكن بدر شاكر السياب أول من امتحن قدرات هذا العمود. فالتفكيك ما لجأ إليه شعراء الموشحات وقد اعتمده السياب لكنه أخرج معه قدرة هذا العمود على السيولة والامتداد.

مع ذلك نحن لا نزال في اختراع السياب، والسياب كان قبل كل شيء شاعراً وما صنعه في شعره لا يزال يغرينا ولا يزال يجذبنا. في شعر السياب نجد الشعر حاضراً كمكان. إنه ذلك الحيّز الذي تتوافد عليه من مصادر شتى أشياء تملك القدرة على أن تنتظم في ما يشبه الواقع، وعلى أن تتلاقى وتندمج وتشتبك في ما يبدو في النهاية أسطورة ماثلة تنبني وتتشخص وتصنع مقابلاً واقعياً أو يشبه الواقع أو يحمل، كما قال ناقد فرنسي، ذكرى الواقع. ذكرى تنكشف شيئاً فشيئاً وتملك دائماً إيحاءات حسية أو حواسية، فنحن لا نسمع اللوعة والحنين فحسب بل ننشق التراب ونسمع الماء الصدئ ينز في المجاري ونتلمح عالماً من التناسل والتوالد والاجتماع والافتراق. عالماً ليس من الحواس لكنه يملك ما يقابل الحواس، بل هو نوع من اختلاطها وحدودها ومقامها. هكذا يمكن للشعر أن يكون «رحلة» متتالية متتابعة وإن في المكان نفسه. هكذا يمكن للشعر أن يعاش جسدياً وأن يعاش داخلياً وأن يكون مقابلاً آخر للنفس ومشهداً موازياً لها.

شــاعر اغتيــل فــي الــورش النقديــة

علاوي كاظم كشيش

لم تدخل قصائد شاعر من الشعراء الى ورش النقد مثلما أدخلت قصائد السياب، ولم تتوان هذه الورش عن اجتلاب مناهج نقدية تعمل بمعزل عن مذاق هذه القصائد، فأخذت تفكك وتركب وتفترض وتقوّل القصائد وتحمّلها ما لم تحتمل وما لم يرد منها الشاعر ذلك المراد. على ان هذا الطرح لا يستثني الجهود القليلة التي قرأت ونقدت قصائد السياب لأنها قصائد وليست لأنها أطروحات تحتمل الفرضيات بأنواعها.

فالمناهج السياقية ممثلة بالمنهج الاجتماعي والتاريخي والنفسي والأسطوري، والمناهج النصية كالمنهج الفني والمنهج البنيوي والمنهج الأسلوبي، إضافة الى المنهج التكاملي والمنهج المقارن، هذه كلها تبنت قصيدة السياب وأجرت عليها ما عندها من مقولات وإجراءات وتطبيقات هي أضعف من تنظيراتها. لكنها أفصحت عن أمور، منها:

ـ عزل القارئ الذي يشكل ركنا كبيرا في قصيدة السياب جريا على جميع القصائد، والمقصود بهذا القارئ، ذلك القارئ الذي يصاب بعدوى القصيدة ويدخل مناخها وتضاريسها وهو على إحساس عال بزلازل القصيدة وهديرها، لا يحمل مساطر ولا مقاييس ولا أحكاماً مسبقة، وإذا صح لنا أن نسميه، فهو القارئ الفطري الذي ما زالت رادارات القراءة والتلقي ومجساتها عنده قادرة على الالتقاط البكر الصافي.

والأمر الآخر، أن الخطاب النقدي طغى على موجة الإيصال التي طمح فيها الشاعر لأن توصل قصيدته عذراء الى القارئ، تحمل كل أوجاعها وجمالها وقبحها أيضا، بلا عمليات تجميل وترقيع وإخفاء عيوب وإبراز مفاتن غير موجودة في جسدها.

وأمر آخر، هو أن السياب بذاته دخل برضاه الى مسرح إعلامي ليبشر به رائدا من رواد الشعر الحر بإجراء شكلي أزاح فيه وحدة البيت والعدد الثابت من التفاعيل (والتعبير السائد في الدراسات حطّم بدل أزاح) مسبوق به لأكثر من عقدين، (خليل شيبوب، وأحمد زكي أبو شادي…) ولم يثبت هذا الادعاء حول أسبقية السياب أو نازك الى ريادة الشعر الحر أمام الدقة البحثية، فتاريخ الشعر العربي الحديث يقول إن أول قصيدة منشورة تحت عنوان أو مصطلح (الشعر الحر) هي قصيدة محمود حسن اسماعيل في رثاء أحمد شوقي في شباط 1933.

وتثبت القراءة الفاحصة أن قصيدة (هل كان حبّا) للسياب، وقصيدة (الكوليرا) لنازك، المكتوبتين في نهاية الاربعينيات من القرن الماضي، تكشفان بجلاء عن صدور كلتا القصيدتين/تجريبياً عن قصيدتي أنور شاؤول المنشورة في جريدة العراق سنة 1929 وقصيدة محمود حسن اسماعيل المذكورة آنفا.

يضاف الى ذلك أن اعتراف السياب ونازك بتأثرهما بالشعر الغربي قد غلب على اعترافهما بالتأثر بشعراء المهجر وحركته أبولو خاصة، ولا سيما في التوجه الرومانتيكي لدى شعرائهم ومنهم محمود طه المهندس وأحمد زكي أبو شادي.

لهذا أُنتج الخطاب النقدي حول السياب وكأنه مرافعات نقدية تحاول استحصال وثيقة ابتكار، وكلما اتسع البحث ظهرت منافذ وثغرات مهمة وأصبح القطع بالأحكام والدلائل بعيدا. فعدد التفاعيل في السطر الشعري أُنجز عليها كثير من النماذج الشعرية منذ الرابع الهجري، كذلك التدوير، ثم ما جرى على السطر الشعري في الموشحات الاندلسية خاصة، إذ كان منها ما يخضع للعروض ومنها ما هو نثري نغمي، تجد كثيرا منه في (دار الطراز في عمل الموشحات) لابن سناء الملك.

هذا النتاج أو الخطاب النقدي بكل تفرعاته وإنجازاته، أثبت أننا نفهم الحداثة في مقصورات تشكيلية أو وزنية أو نثرية، لا من حيث هي أولا وقبل كل شيء تجربة جديدة عن رؤية جديدة للإنسان والعالم، في مقاربة جديدة للأشياء بلغة شعرية تجدد أشكالها وطعومها.

ولذلك ضاع السياب الشاعر وقارئه المصاب بالعدوى في خضم الدراسات والتعليقات والمرافعات والبحث عن إنجاز (يحطم) البيت الشعري العربي أو يستثمر الوزن بصرفة ما أو يجد تصالحا بين النثر والوزن على الأقل. مع أن ناقدا مثل أبي حيان التوحيدي قال قبل ما يزيد على الألف سنة: إن خير الكلام ما كان نظماً في ظل نثر أو نثراً في ظل نظم وسماه (الانتثار) بالثاء.

رحل النهار

منذ القراءة الاولى للسياب وبدون معرفة سابقة به وبمأساته ومرضه وتداعياته، كان في ديوانه (منزل الأقنان) وخاصة منه قصيدة (رحل النهار)، قصيدة قد طغت في تأثيرها على قارئ تلميذ يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاما في الدراسة المتوسطة قرأ هذا الديوان بعد قراءته في اليوم نفسه لديوان أوس بن حجر، وكانــت قصيدة (رحل النهار) أكثر مذاقا وطعما ونقــاوة توصيل من قصــيدة (أنشــودة المطر) التي هي امتداد للرجــز العربي وقد فــشي فيها النظم وقيّد العبارة مثلما فــشي عليها إعجــاب المدرســين المتوارث الســياقي فنــقلوه الى تلاميذهــم ليختــصروا السياب بها.

لقد كان السياب مفترقاً مهماً جعل هذا القارئ يبحث عن الشاعر الحر وليس عن الشعر الحر، إذ ان الأشكال لم تشكل عائقا أمام الإبداع ولهذا ظل الشعر حرّاً في جوهره يحتل أي شيء شكل يشاء، ومثلما ان قدم الأشــكال لم يعق الإبداع، فإن حداثة الأشكال كما يزعم من زعم لم تنفع كثيراً من التجارب الفجة. لهذا وجد هذا التلميذ القارئ للسياب أن مشكلة الشاعر الحر لم ترس لها حلول أو نظرية على الأقل تقود الى تطبيق يصح على كثير من القمم الشعرية، على أن الشاعر الحر موجود هناك في الــكواليس خلف الواجهات وفي طرقات الإبداع الوعرة التي هي صعبة المرتقى على الباحثين عن الجاهــز والمصطف والمجتلب قديما وحديثا. وعلى هذا القياس البسيط فإن السياب لم يكن شاعرا حرّاً ولا شعره، فهو كان متذبــذبا بين أن يختار أو لا يختار. ولذلك أصبح سهلا هو وشعره علــى الدراسين. ثم أدخله الإعلام المتعاطف الى مصاف الرمز وظل الحكــم الحقــيقي عند قارئه المستبعد الذي تم اغتياله مع الشــاعر، وهو وحده (القارئ) الذي يشم روائح قصــائد الســياب ويتمثل المضيء منها وهذا على قلته فإنه إبداع سيابي لا يندثر باندثار بويب.

الخراف المهضومة

قارئ السياب يؤمن بأن الشعر كلام مقيد غير حر، ويفرّق بين الكلام الشعري والشعر في جوهره المتغلل في الأشياء والأفكار، وهو جوهر لا يختلف عن السحر إلا في الأدوات، وإن كان العرب قد وصفوا البيان بالسحر، كما في الحديث النبوي الشريف.

وقارئ السياب يؤمن أيضا بأن لا شيء أكثر ابتكارا ولا أشد شخصية من أن يتغذى الإنسان من الآخرين، ولكن ينبغي هضم هذا الغذاء، فالأسد مكوّن من كباش مهضومة. كما قال بول فاليري.

ولقارئ السياب أن يؤمن بأنه لا يوجد شعر قديم وشعر جديد، بل هناك فقط شعر جيد ورديء، مضيء ومطفأ. فلو كان الأمر على الأشكال والتقليعات والقدم لما قرأنا قصائد تعود الى مراحل زمنية قبل الميلاد، وليس لهذا تفسير سوى أن هذه القصائد ما زالت شفرتها تضيء وتنمو، والامثلة كثيرة على ذلك.

والعجب ممن أراد أن يطيل قامة السياب بالاعتماد على ما وجده من (ثورة وتحطيم) لشكل البيت الشعري العربي المتوارث، وهو يغفل عن أن الفارق بين الشكلين في إنجاز السياب كان ضئيلا جدا. فقصائد السياب بلغت مئتين وأربعاً وعشرين قصيدة، منها مئة وإحدى وعشرون مما يسمى بالشعر الحر، ومئة وثماني عشرة قصيدة مما يسمى بالشعر العمودي. فضلا عن أن السياب حاول تطويع البحور المركبة كالطويل والمديد والخفيف ولم يفلح في تجربته، لأن النظم عنده كان يصارع العبارة ويقطع السلسلة اللغوية وتدفقها ويحولها الى نظم متشنج في أغلب القصائد حتى الرجزية منها كما في أنشودة المطر.

من بين جيش من النقاد استطاعت الناقدة سلمى الخضراء الجيوسي أن تنصف السياب بقولها في دراستها (السياب والتجديدات الشعرية، مجلة نزوى، العدد6، يوليو1996): «إني أشعر إذ أدرسه بأني أدرس مشروعا لم يكتمل، وبأن الحكم على إنجازاته حكم منقوص، لأننا لا نعرف كيف كان شعره سيتجه بعد ديــوان (أنــشودة المطر) لو لم يضطر الى الاستسلام الى المرض والذكريــات والتــشوقات الشخصية».

فالسياب اغتيل شاعرا منذ أن أدخلت قصائده الورش النقدية التي كان همها كتابة خطابها لا قراءة السياب شعريا، وضاع ذلك الشاعر الذي كان يشكل بينه وبين قصيدته حراكا جماليا يتذبذب بين الفطرة والتصنع وهو يسعى جاهدا ليصبغ نصه الشعري بأصباغه هو، بعد أن استقى من موارد كثيرة متنوعة وجلب أدوات أكثر وحاول تطويعها لخصوصيته الجنوبية العراقية، أي حاول أن يصطاد بكل تلك الأدوات ما في جيكور وبويب والعراق من شعر ليعمل حتى المرض ويخاطب قارئا يقرأه حتى المرض أيضا، لأن قارئه فيه نشوة الطفل الذي خاف من القمر، قمر جنوبي يتخفى بين غابات النخيل. وقد فصل الدارسون بين السياب وقارئه حد الاغتيال. فمتى نذهب لاكتشاف هذا الشاعر الكبير بقارئه، وننزله عن المسرح الدعائي والإعلامي والدراسي ونجلس معه على ضفاف بويبه الحزين كالمطر. فهذا الشاعر على عكس قياس بول فاليري، أسد أكلته خرافه المهضومة.

(كاتب عراقي)

الحداثــي بــلا ادّعــاءات

محمد شعير

فى مرضه الأخير، كان امل دنقل يغيب ويعود ليكرر مقاطع من قصائد أحبها. كانت قصائد بدر شاكر السياب هى الأكثر ترديداً لديه. كان أمل يدرك بحسه الإنساني قيمة هذه القصائد، لا باعتبار السياب رفيق مرض، بل للقيمة الفنية التى ضمتها هذه القصائد. «… وفى العراق جوع ….ما مر عام والعراق ليس فيه جوع ..»ردد أمل، وبعد سنوات طويلة من رحيل الاثنين ردد شباب جدد ولدوا بعد رحيلهما القصيدة ذاتها، لكنها كانت هذه المرة شعاراً فى التظاهرات، بينما تتساقط قنابل أميركا العنقودية على العراق ..نهتف مثلما هتف السياب: «الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام حتى الظلام هناك أجمل/ فهو يحتضن العراق»..

عاد السياب إلى الميادين وقتها.. بعد فترة من النسيان ربما، لم يدخل فيها متحف التاريخ، بل ظلت أشعاره هنا باعتبارها ملهمة.. ولكن ماذا الذي بقي من السياب؟ في أي طبقة من طبقات الشعراء يضعه الشعراء ما بعد السبعينيات؟

سألت الشاعر إبراهيم داود أجاب: سهو النقلة العظيمة في القصيدة العربية بعد الرومانسيين. ورغم ان البعض يحسبه شاعرا تقليديا إلا أنه لم يكن مشغولا بفكرة الحداثة فكرياً، ولكنه في عمق أشعاره هو حداثي. ويمكن أن نضع بجواره في مصر محمود حسن إسماعيل، كلاهما دعامة أنقذت الشعر من الصيغ الذهنية المعملية التي انحازت للحداثة بدون أن تعلن ذلك أو يكون لها دعاوى كبرى. تلميذه النجيب فى ذلك هو أمل دنقل، رغم أن أمل كثيرا ما كان يعلن تلمذته على يد حجازي، إلا أن الحقيقة أن نقاء روح الشعر يتمثل فى التجديد الذي قام به السياب بدون ادّعاءات كبيرة .. ولولا السياب ومحمود حسن إسماعيل كان هناك نازك وصلاح عبد الصبور، فقد كان لتجديدهما «ظهر» قوي استندا عليه هو السياب وإسماعيل.

على سرير مرضه، كان أمل دنقل يكرر أبيات شعرية لشعراء أحب قصائدهم، كان السياب واحداً من أهم ملهميه، ترك بصمة مهمة على أشعاره، تقول الناقدة عبلة الرويني زوجة صاحب «لا تصالح»: «السياب شاعر مهم ليس فقط في تجربة أمل الشعرية وإنما في حياة جيل كامل من الشعراء المصريين، ضاعف من أهميته الربط النقدي والإنساني فى تجربتهما المشتركة مع المرض». ترصد الرويني السمات الحياتية المشتركة بين الاثنين: «رحلا شابين بعد رحلة من مواجهة الموت عبر الإصابة بمرض مميت، لكن تجربة مرض السياب جعلته «بكاء» يستدعي تراث البكاء العراقي، تجربة من الحزن يقول السياب: لكَ الحَمدُ مهما استطالَ البلاء ومهما أستبد الألم لكَ الحمدُ إن ٌ الرزايا عطاء وإن المَصيبات بعض الكَرَم» ..بينما أكسبت تجربة الموت أمل دنقل صلابة ، وقدراً من الشفافية في تناول التجربة، يبعدها أن يكون فيها شيئا من الانكسار».. تضيف عبلة: عندما قرأ يوسف إدريس قصيدة أمل «الزهور» قال : «أدركت أن أمل وصل إلى الرؤية المتكاملة ولا بد أن يموت».. ما أعنيه ان تجربة أمل لم تصب بالانكسار بعد تجربة مرضه. ترى عبلة أيضا أن تجربة أمل اقرب إلى تجربة شعراء العراق بسبب حسها القومي، على عكس تجربة مجلة شعر اللبنانية ..الريادة الشعرية العراقية أقرب لمزاج الشعراء المصريين من تجربة الشعراء الشوام المغرقة في الغموض إلى حد كبير».

العلاقة بين السياب ودنقل هي محور كتاب الشاعر احمد طه، أحد ابرز شعراء جيل السبعينيات، الكتاب المخطوط يحمل عنوان: «الموت بين السياب وأمل دنقل». يرصد فيه بتفصيل رحلة المرض الأخيرة فى حياة الشاعرين.

المرض لم يكن وحده مكوناً لتجربة السياب الشعرية، هناك الفقر والغربة، حسب تعبير الناقد الدكتور جابر عصفور، الذي يرى أن: «أنشودة المطر قصيدته الأهم هي نتاج رحلة غربة استمرت عاما هروبا من حكم نوري السعيد، هي قصيدته الأهم، والديوان الذي يحمل العنوان نفسه يمثل مرحلة النضج الحقيقي في حياة الشاعر». أهم مظاهر هذا النضج كما يرصد عصفور: «اختفاء الذات الرومانسية فى الديوان، واقتراب الشاعر من الموضوعية في مواقفه وفي صياغة هذا الموقف صياغة فنية، كما اتسعت دائرة اهتماماته الشعرية لتشمل كل القضايا المؤرقة لذاته المبدعة، التي لم تعد منفصلة عن ذوات الآخرين، كما اتسعت ثقافة الشاعر انعكاساً ناضجاً في شعره، فظهرت آثارها فى استغلاله الخصب للإسطورة والموروث الشعبي، وتطوير لشكل القصيدة، وتقريب الصلة بين لغة الشعر ولغة الحياة، وأهم من ذلك الوصول ببناء صور قصائده درجة راقية من النضج الفنى، ليصل فى بناء هذه الصور إلى صيغة جديدة، تآلف فى داخلها الموروث الشعري العربي مع المؤثرات الأجنبية فى الشعر الإنكليزي وتفاعل معها وخاصة شعر إليوت وإديث ستويل».

ويضيف عصفور: «الشكل الموسيقي الجديد لقصيدة السياب لم يكن منفصلا عن محتواها الفكري، لقد نبع من ذلك المحتوى وساعد على تأكيده وبلورته، ومكن الشاعر من التعبير عن موقف فكري مختلف عن موقف الشاعر الإحيائي والرومانسي وكان ذلك التجديد فى الشكل الموسيقي للقصيدة تعبيراً عن رغبة الإنسان العربي فى تجاوز واقعه وتخطيه على واقع أفضل، فكل حركة تجديد في الفن تعبير عن رغبة الإنسان في تجاوز مستوى الضرورة فى الحياة».

إذا كانت القاهرة قدمت السياب للمرة الأولى عندما نشر ديوانه الأول: «أزهار ذابلة» عام 1947 ..فإنها أيضا قدمت أحدث كتاب عنه ..صدر فى عام 2012 عن المجلس الأعلى للثقافة بعنوان: «السياب.. أزهار ذابلة وقصائد مجهولة وروائع»، كتب مقدمته الشاعر حسن توفيق الذي قدم دراسة مهمة مستفيضة عن شعر بدر شاكر السياب. ضم الكتاب ديوانه الأول، وعدداً من القصائد التي لم تنشر فى دواوينه، وهي عشر قصائد تمثل مرحلة الرومانسية المبكرة التي مر بها الشاعر فى مقتبل حياته الفنية والمعيشة فى الوقت نفسه. بينما تمثل القصيدة التاسعة منها مرحلة الالتزام الماركسي، وهي قصيدة تحمل طابع النبوءة بأحداث انتفاضة تشرين 1952 فى العراق. أما القصيدة العاشرة والأخيرة فإنها تمثل مرحلة الارتداد إلى الرومانسية خلال فترة مرض الشاعر فى أواخر أيامه. إلى جانب هذا، هناك ثلاث قصائد لم تنشر فى دواوين هي الأخرى، وقد خصصها لمدح عبد الكريم قاسم.

(كاتب مصري)

بـدر شـاكر السـيّاب.. شــخص مــن مطــر

محمد علي شمس الدين

÷ الشاعر والقصيدة

يقول الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب (1926ـ1964) في إحدى قصائده: «إن إلهنا فينا»، وربما تخيّلته واقفاً في «جيكور» مسقط رأسه في أبي الخصيب من جنوبي العراق، في العاصفة وتحت المطر، ويجيل طرفه بين خرائب المدينة وغابات النخيل المتجددة الخضرة، كشخص تموزي أو أسطوري من ماء، وربما سمعته يتمتم «أواه لو ينيف/ إلهنا الفتي لو يبرعم الحياة لو يفجر الرعود والبروق والمطر/ ويطلق السيول من يديه»… وربما تحرك السيّاب على ليونته وهزال جسمه، واستدار على نفسه كعاصفة، ومضى يتدفق منه الماء والشعر حتى الموت.

قصيدة بدر شاكر السيّاب، مثله، تشبه العاصفة. حتى مركزها يتحرك.

÷ أنشودة المطر: المركز والحلقات

سيكون في الإمكان رسم هندسة بنائية دائرية لقصيدة «أنشودة المطر» للسيّاب، على الرغم من انها ليست قصيدة شكل، بل هي ذات سياقات وتدافعات صورية وإيقاعية، وذات وجد تلقائي عارم قد لا يسمح بالتوقف أمام ترتيب قصدي لمداميكها وحركاتها. تقرأ من أي مكان أتيتها وتدور كالعاصفة. إلا أن سياقاتها المتلاطمة لم يسعها سوى أن ترتسم على صورة مركز تدور حوله دوائر وحلقات كثيرة، تبدأ كل واحدة منها من نقطة، ثم تنغلق على ذاتها، لتبدأ حلقة أخرى حولها، وهكذا منذ انفتاح القصيدة الأول، حتى انغلاقها الأخير، على نقطتها المركزية التي هي «المطر». والصورة الدائرية هذه لقصيدة السيّاب، تخرج بها عن التقليد الصوري السابق عليها لمداميك القصيدة العربية الكلاسيكية، التي تأتي أفقية وعمودية في وقت واحد، ومتراصة كفيلق يتقدم. على أن الشكل الجديد لأنشودة المطر يحمل معه علامات شعر جديد، مختلف عن سابقه، قدمه السياب كأحد رياديي الحداثة الشعرية العربية في ستينيات القرن العشرين، فصورة القصيدة هي صورة الطيران أو الدائرية، ولا تحتمل، لأول وهلة، الثبات والركود.

حول «المطر» الذي هو المركز، تتحّلق حلقات، وأولى هذه الحلقات، «عيناكِ» التي تتخذ في دورانها حول المركز صوراً كثيرة ليست بعيدة عنه، وهي صُور مائية على العموم، أو رعوية مشتقة من فعل المطر في الريف العراقي، حيث يتم قران متواصل بين المطر والنخيل والطين، والصُور الرعوية هذه، تتدرج من غابات النخيل فالشرفات المفتوحة في الريف على القمر، فالكروم ورقصة الأضواء (كأنها الأقمار) في قاع النهر ساعة رجة المجذاف له، ونبض النجوم في قاع العينين/ النهر.. ومن ثم الحزن الذي هو ضباب أوسع من النهر بل «كالبحر سرّح اليدين فوقه المساء»، وما يستثيره من رعشة البكاء في الروح، أنشوة الوحشية للخوف والحزن، في النفس الواقعة (كطفل) وسط هذا الإنشاد الرعوي الساحر، تتقاطر فيه أقواس السحاب التي تشرب الغيوم، والقمر الذي يخيف الطفل فينتشي بخوفه. والعصافير على الشجرة التي يدغدغ صمتها هذا الإنشاد الأول. وهو أول إنشاد باستورالي سنفوني للمطر.

إننا، من خلال الحلقة الأولى أو المقطع الأول، نعثر على لازمة إيقاعية للقصيدة، ستتكرر في سائر المقاطع والحلقات، وهي شبيهة بإيقاعها الصوتي والصوري بحبات المطر حين تنزل على النخيل أو الطين:

«مَطرْ..

مَطرْ..

مطرْ..»

الحلقة الثانية من القصيدة، هي حلقة الغيوم أو حركتها. والغيوم هنا ليست مجرّد انطباع بصري لكتل رمادية متحركة في السماء، ويسح منها المطر (كالدموع) بل هي غيوم داخلية، بمثابة بكاء داخلي في صدر الشاعر، ينعقد في صور شتى ويتجسد في تداعيات من الحياة والطبيعة، غير بعيدة عن حزن المطر. ويبدأ المشهد بالغيوم التي لا ينقطع ما تسحّه من دموعها، برغم تثاؤب المساء، وهي دموع تبدأ من الغيوم، لكنها تتواصل في كل ما يشبه دموع الغيم أو المطر من أحزان… في الطفل الذي يهذي بعودة أمه التي لن تعود، بل هي نائمة (هناك) في قبرها جانب التل، «تسُفُّ الترابَ وتشربُ المطر»، وفي الصياد الحزين، وهو يجمع شباكه الفارغة، ويغني لأفول القمر، لاعناً الأقدار والمياه… وتعود «لازمة» الحركة الثانية التي هي صورة الحلقة الثانية، لتكرّر الإيقاع أو تستعيده:

«مطر

مطر

…»

تواصل صورة الغيوم/ الحزن دورتها التي بدأتها، وكأنها لم تنقطع باللازمة من خلال أسئلة وصور مباشرة حول الحزن الذي يبعثه المطر في النفس البشرية. حين «تنشج المزاريب» وتزداد وحدة الوحيد، ويراق الدم، ويتداعى الجياع، والحب والأطفال والموتى (معاً) كمتشابهين.. ويأتي المطر نفسه مع أمواج الخليج، حيث تمسح البروق سواحل العراق بثمارها الجميلة: «البروق والمحار»، إلا انها لا تشرق، بل الدم يدثرها في ليل العراق، وتستحيل الصورة البصرية إلى صرخة.. صراخ يصيح بالخليج:

«أصيح بالخليج يا خليجْ/ يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى/ فيرجع الصدى/ كأنه النشيجْ: يا خليجْ/ يا واهب المحار والردى».

الحلقة الثالثة التي تختتم بها القصيدة، وتكتمل حول مركزها، هي حلقة المطر نفسه.. الذي يعود فينطلق من المركز ويدور في الحلقة الختامية، مستعيداً جميع عناصره السابقة، ومحتشداً بعناصر الطبيعة والنفس في مكانها أو منزلها (العراق)، بين الحزن والغناء، واليأس والأمل، والجوع في قلب الحصاد، والعطش في قلب الماء، وقطرة الدم الملتبسة التي «تراق من دم العبيد» فتزهر أو تبتسم في فم الطفل الذي يولّد الحياة من الموت، وفي القطرة الصغيرة من مطر العراق، التي تتسع لهذه الصور والمشاهد والاحتمالات. هنا يضخ بدر شاكر السيّاب روحه الشعرية الهائلة.. ويبدأ حلقة الختام، أو رقصة الختام، يما يشبه التوجس من عناصر تشكّل المطر في العراق، والعراق على امتداد تاريخه الطويل، في حضارته، هو وليد اقتران المطر بالطين، من ألواح سومر وأكاد، وأنكيدو وإنليل وجلجامش حتى السيّاب.. ذلك ما أمسك به الشعر في «أنشودة المطر»، ففي الحلقة الأخيرة من هذه القصيدة الإنشادية الملحمية، يهجس الشاعر برعود العراق وبروقه المخزونة في السهول والجبال، وأنه «سيفض عنها ختمها الرجال»، فتتدفق كالسيل، وتغسل آثار عاد وثمود من الوادي… والحلقة هنا ليست وصفية حزينة، بل هي حلقة تحوّل وولادة.. وإخصاب.. ولو شئنا اختيار الكلمة الأكثر دلالة في أسماء ما ينزل من السماء من أنواع الماء، ابتداءً من الضباب وهو ماء معقود في الغيم، فالرذاذ وهو الماء الخفيف، فالسح فالمطر فالغيث، لوجدنا أن السيّاب يبدأ بالمطر، لكنه ينتهي بالغيث، حتى ولو لم يغيّر المفردة، فالمطر في اللغة غير مقترن بالخصب بالضرورة، بل لعله أقرب لعقوبة تنزل على الأرض من السماء، بل لعله بهذا المعنى رجيم (دينياً وقرآنياً)، وهو تدميري مقرون بالعاصفة، لا سيما في سورتي «هود» و«الحاقة»، ففي الآية 67 من «هود»، أخذ للذين ظلموا بالصيحة، وفي الآيات من 6 حتى 11 «من سورة «الحاقة» وصفٌ لهلاك «ثمود» بريح صرصر عاتية «سخّرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية» (الآية 7) «إنّا لما طغى الماء حملناكم في الجارية» (الآية 11).

نعثر على مثل هذا المطر المدمر، في مقاطع من الأرض اليباب لإليوت، وهنا استلهام لتراث ديني ثيولوجي للمطر والعاصفة، نجده في اليهودية والمسيحية والقرآن.. هناك مثلاً، مطر وليد للعاصفة المدمرة، وارد في كتاب «أيوب» من التوراة.. حيث يتكلم الرب من الزوبعة أو العاصفة، لا ننسَ أيضاً العواصف والأمطار المدمرة التي وصفها بعض شعراء الجاهلية، كامرئ القيس في معلقته، حيث في الأبيات الأخيرة من هذه اللامية، ما يشبه السيل بسبب غزارة الأمطار، ويستعمل فعل «يسحّ» للمطر، ويصوّر جذوع النخيل وهي غارقة في الماء.

المطر، على العموم، في الثيولوجيا واللغة، هو مطر رجيم، أما الماء الرحيم النازل من السماء، ماء الخصب والرحمة والإحياء، فهو الغيث (يراجع ابن منظور في لسان العرب، جذر م ط ر). ولعل بدر شاكر السيّاب، بغريزته الإبداعية المتوقدة، أكثر مما هو في تدقيقه اللغوي، راوح في قصيدته «أنشودة المطر» بين المعنى الرجيم له والمعنى الإخصابي الرحيم، وذلك من الحلقات الأولى بل السطر الأول «عيناكِ غابتا نخيل ساعة السحر» حتى الحلقة الأخيرة… المنتهية بجملة «ويهطل المطر» بمعنى الخصب، على انه يبقى ثمة التباس في هذا المقطع، لا نعلم على وجه التحديد، بعده، في أي اتجاه تتحد عاصفة السياب ومطره، أفي اتجاه الخصب أم في اتجاه الملح والدمع والنشيج؟

فالشاعر في القصيدة شكّاك. يقول: «ما مر عام والعراق ليس فيه جوع»، ويقرن المطر بالدموع، وبدم العبيد… يقول في مقطعه الأخير:

«مطر

مطر

مطر

في كل قطرة من المطر

حمراء أو صفراء من أجنّة الزَهَرْ

وكل دمعة من الجياع والعُراة

وكل قطرة تراق من دم العبيد

فهي ابتسام في انتظار موسم جديد

أو حلمة توردت على فم الوليد

في عالم الغد الفتي واهب الحياة

ويهطل المطر»

ثمة بحث عبقري حول هذه المسألة، ظهر في كتاب عنوانه بالانكليزية «A new Reading of Badr shakir al-sayyab» Hymn of the Rain «قراءة جديدة لبدر شاكر السيّاب في أنشودة المطر» لتيري دي يونغ (Terri De Young)، نقلته من الانكليزية للعربية العراقية سحر أحمد، من شركة الغدير للطباعة والنشر، البصرة 2011، عدد النسخ 250 نسخة، عدد الصفحات 33 صفحة.. ترى في نهايته، أن المقطع الأخير للسيّاب، لأول وهلة، يبدو كأن الشاعر يميل به إلى الحياة والغد الفتي، في مقابل الدم والجوع والعري. وأن المطر الهاطل هو رمز هذا الإخصاب.. فلربما حسم الشاعر تردده في النهاية ولعثمته تجاه ما يجعل الحياة ممتلئة بوعود المطر.. هذا التردد الذي نجد صداه في حذف مفردة من سياق لا يتكرر حرفياً، بل يأتي به الشاعر عاملاً حين يكرر المقطع أمام الخليج، حاذفاً منه في المرة الثانية، لفظة «اللؤلؤ» التي ترمز للأمل.

يقول:

«أصيح بالخليج يا خليجْ

يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى

فيرجع الصدى

كأنه النشيج

يا خليجْ

يا واهب المحار والردى»

فلماذا أسقط الشاعر «اللؤلؤ»؟ بالتأكيد لم يحصل ذلك سهواً. ثمة أسطورة شعبية قريبة من شعوب الأبيض المتوسط، تقول إنه في إبريل (نيسان) من كل عام، تنحسر الأمطار، وتهب العواصف، يخرج المحار من أعماق البحر، إلى السطح، حيث تفتح المحارة صدفتها، وحالما تسقط في جوفها حبة المطر، تعود إلى القاع، حيث تكبر القطرة وتصير لؤلؤة.

لماذا حذف السيّاب اللؤلؤ وأبقى المحار الفارغ؟

ثم لماذا يستعمل فعلاً غير يقيني هو «أكاد» حين يتحدث عن وعود المطر:

«أكاد أسمع العراق يذخر الرعود».

في ذلك ميل، على الأرجح، إلى رؤية سوداء للقصيدة، وعلى الأقل مرتابة. ولعله نشيد الذات الفردية للسياب، هنا، وهو نشيد ارتياب، في مقابل نشيد آخر أو صوت آخر هو صوت الجماعة «أنشودة المهاجرين»، الذي هو إنشاد عال، في حين أن صوت الذات السيابية حزين وخفيض. والصوتان يتجاوران لكنهما لا يتقاطعان، فصوت المتكلم الناطق في القصيدة، هو أقرب ما يكون للواقف على الأطلال، بكائي ويائس، على غرار شعراء المعلقات الجاهلية، في حين ان صوت الجماعة هو الذي أملى نهاية القصيدة، حيث تتجمع من قهر هذه الجماعة، وأحزانها، شبهة أمل…

وفي كل حال، فليس ثمة ما يؤكد على وجه اليقين، إن نهاية القصيدة تنطوي على أمل. فلعل الصوت الأخير أو الثالث للمطر، هو صوت غامض وملتبس، بل لعله حيادي، لا يمدنا بشعور بالفرح بمقدار ما هو الريبة.. إذ أن الشاعر لا يتخلى عن المعنى المتقلب الرجراج لمفتاح قصيدته المطر»…

فأي مطر هو الذي يهطل؟

وكيف؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى