صفحات الثقافة

ملف جريدة السفير عن مدينة حلب


أشــلاء حلــب

نبيل سليمان

مقابل جامع الميدان كان، من اليمين وأنت قادم من الجابرية: بيتنا الذي سماه جمال باروت: برلمان الشباب، وأنا سميته في «المسلّة» كعبة الأحباب، لكنني الآن أسميه أنفاس الصبا، من مات منهم ومنهن ميتة ربه أو فقعاً: فواز الساجر ورياض الصالح الحسين وحامد بدرخان ومصطفى الحلاج ومن ضاعت أسماؤهم مثل أشلائهم في السجون أو في مجزرة الكلاسة أو في مجزرة المشارقة أو في مجزرة مدرسة المدفعية، أما من هاجر أو من هُجِّر أو من صارت طبيبة أو من صار كاتباً كبيراً أو من شاخت، فأولاء هم من عاشوا ليبلغوا هذا الزمن الحلبي السوري الذي تستوي فيه أشلاء الأحياء والأموات.

في العصف الحلبي، كما في العصف السوري في نهاية سبعينيات ومطلع ثمانينات القرن الماضي، وإذ تلبّس العصف بالاغتيالات الطائفية، انتقلتُ ـ أي هاجرتُ أو هُجِّرت: لا فرق ـ من حلب إلى اللاذقية، وبعت ذلك البيت ـ البرلمان ـ الكعبة ـ الأنفاس، لكنني ما زرت حلب مرة من بعد إلا أسرعت إلى رصيف الجامع، وتهجدت لشرفات ونوافذ ذلك البيت، غير أن البيت صار أشلاء للتو، تملأ بها هذه الفضائية هذه الشاشة فيرأف بك تقنين الكهرباء لتنقطع رسالة المراسل وتعتم الشاشة وتكذب عينيك، لا، هذا ليس البيت نفسه، ربما كان بيت محمد قجة أو بيت وليد إخلاصي، بل هو بيت جمال باروت أو بيت سعد يكن أو بيت عمر حجو، لا لا، تلك كانت أشلاء بيت نذير جعفر أو بيت سعد الدين كليب أو بيت فيصل خرتش. ولكن لماذا لا تكون أشلاء بيت المتنبي أو أشلاء قبر السهروردي وأشلاء القلعة أو.. يكفي، لا تعد.

كل البيوت صارت بيتاً هو حلب، تماماً مثلما صارت كل المدن مدينةً هي حلب، ولكن لو صح ذلك، فماذا صارت سورية على يد الثوار والمجاهدين والجيش الحر والمهربين والجهات المختصة والطائفيين والوهابيين والقاعديين والميغ الروسية والبومبكشن التركية والفضائيات النارية والعياذ بالله من شر غاسق إذا وقب؟

في يوم، في شهر، في سنة، (رحم الله عبد الحليم حافظ) سوف ينتهي الزمن الحلبي السوري الذي تستوي فيه أشلاء الأحياء والأموات. عندئذٍ سيبطل السؤال (ماذا صارت سورية) ليصبح السؤال: ماذا ستصير سورية؟ وسواء أكنت لا أزال حياً أم صرت شلواً، فها أنا ذا أجيب على السؤال: ستصير سورية كما يشاء لها شباب وشابات المظاهرات السلمية والوحدة الوطنية، أي كما تشاء أشلاء البشر والتاريخ.. أشلاء حلب.

(روائي)

مـن ينقـذ حلـب؟

شوقي بغدادي

الآن جاء دور حلب فما عسى المفجوع بمحبوبته أن يقول وهو يراها تموت أمام عينيه؟ لن تموت حلب بالتأكيد، غير أن حلباً أخرى قد تحل محلها حين يختفي هواة النغم الذي كان يهابهم محمد عبد الوهاب حين زار حلب، وحين ينقرض أحفاد المتنبي وسيف الدولة وعمر أبو ريشة ولؤي كيالي وسامي الكيالي وابراهيم هنانو… لندع الصراع القائم الآن سواء كنا معه أم كنا ضده، ولنتكلم بلغة البشر الأسوياء، ماذا يجدي تدمير مدينة مثل حلب ولنفترض جدلاً أن السلطة الحاكمة استطاعت أن تنتصر على خصومها وتستعيد السيادة على مدينة مدمرة ماذا يعني ذلك؟! هل في الامكان انقاذ حلب من دون تدميرها؟ وماذا يحكم الحاكم اذا انتصر ثم رأى الخراب والهلاك والخواء يحيط به من كل جانب؟ أي عرش هذا الذي سوف يستقر عليه حاكم بهذا البلد؟ المحب الحقيقي لا يستطيع ان يطلق النار على ولده مهما كان هذا الولد ضالاً.ثمة حدود للغضب وإلا فلا تسمية للغضب عندئذ سوى (الجنون). ونيرون الذي أحرق عاصمة روما حين غضب عليها لم يطلق عليه التاريخ لقب المصلح أو المربي بل لقب المهووس الذي يتسلى باشعال النار.ثمة حدود للغضب بالتأكيد حين يواجه الغاضب مدينة عريقة أو معبداً أو تراثاً جليلاً يصب عليه غضبه فيأمر بإلغائها من الوجود. إن إلغاءها هو إلغاء لوجود الحاكم نفسه حتى ولو ظل عرش السلطان مستقراً تحت قعدته. إن تدمير حلب إلغاء لهويتها حتى ولو بنيت مدينة أخرى باسمها بدلاً عنها، ثمة نسيج عريق خاص للمدن يتشكل مع تراكم الزمن لا يمكن تعويضه. نسيج سداه لهاث البشر اليومي وهم يصنعون عاداتهم وتقاليدهم، ولحمة ذكرياتهم وهم يمارسون الحنين إليه. أنا أعرف جيداً أن هذا الكلام كله وغيره لن يبدل شيئا. لقد بدأت أفقد ثقتي بقدرة البشر على استخدام عقولهم كما تعنيه حقاً كلمة العقل من ينقذ حلب الآن سوى محبيها؟ لقد استغنت الأم عن طفلها في مسرحية بريشت الشهيرة باسم دائرة الطباشير القوقازية حين وجدت أن الاستمرار في شد طفلها نحوها مقابل المرأة التي ادعت أنه ابنها وراحت تشده نحوها بكل قواها كما أمر القاضي بذلك هكذا أنقذت الأم الحقيقية ابنها من الموت بالاستغناء عنه لخصمه. إن المحب الحقيقي لحلب يجب أن يصنع كما صنعت هذه الأم، ومن دون ذلك لا يحق لأحد أن يدعي حب حلب وهو موغل في تدميرها باسم الحب.

(شاعر)

مدن في مدينة

ياسين الحاج صالح

عشت في حلب نحو سبع سنوات، توزعت على مرحلتين، فصل بينهما نحو 17 عاما. المرحلة الأولى في أواخر السبعينيات، والثانية في أواخر القرن المنقضي.

حلب الأولى مدينة تنقبض تحت تأثير اختراق أمني وسياسي خشن لنظام مميت وعادم للشخصية، أو عامل على أن يكون هو الشخصية الوحيدة المبادرة المقررة في البلد ككل؛ وكذلك تحت تأثير تكاثر سكاني وتوسع عمراني سريعين، دون نمو مواز في الخدمات والمرافق العامة؛ وأيضا تحت تأثير تدين منتشر ونزاع أكثر وأكثر إلى التشدد.

غير الحلبي مثلي قلما كان يجد منفذا إلى مدينة كانت تنكمش على نفسها. في الجامعة كنا نشكل مجتمعا مختلطا من وافدين من مختلف مناطق البلد، بما فيها الريف الحلبي، ومن شتى أديان السوريين ومذاهبهم، وفلسطينيين.

لكن المدينة كانت تقاوم اختراق النظام. جامعتها ونقاباتها ونشطاؤها السياسيون ومتدينوها كانوا من الأشد مقاومة لنظام حافظ الأسد. عدا الجامعة، كانت المقاومة حلبية مدينية أساسا.

احتلت حلب عسكريا في ربيع 1980، وسحقت هذه المقاومات. وكانت تلك آخر أيام حياة ثقافية مستقلة، وآخر أيام النقاش الحر نسبيا في الجامعة. آخر أيام السينما أيضا.

ومثل كل المدن السورية كانت حلب تسير قدما نحو أن تكون مدينة بلا روح ولا ملامح شخصية.

حلب الثانية مدينة كبيرة الجسم مثل دمشق، لكنها مثل سورية كلها، بلا رأي، بلا ثقافة، بلا سياسة، بلا مجال عام يختلط فيه الناس ويتعارفون، حتى أنها بلا تدين ظاهر، رغم أن كل شيء يوحي بأنها متدينة.

في حلب الأولى قادتني بداوة طلاب الجامعة إلى الترحل بين سبعة بيوت، لكن كلها في أحياء مركزية لا يذكر اليوم منها في الفضائيات التي تغطي الثورة. في حلب الثانية أقمت في حي كان طرفيا، الشيخ مقصود، يسكنه عرب وكرد، ومسلمون ومسيحيون.

حين مات حافظ الأسد في حزيران 2000 سارع سكان بعض الأحياء المركزية إلى التمون من الخبز والمعلبات والخضار…، وخفت حركتهم خارج بيوتهم. هذا لم يحصل في الأحياء الطرفية التي قلما تتقاطع حياة ساكنيها بحياة الرؤساء وموتهم.

حلب الثالثة، الثائرة، بدأت من الأرياف ومن الأحياء الأكثر طرفية: صلاح الدين، الصاخور، الكلاسة، باب الحديد، الشعار، الزبدية… كأنما هذه الأحياء احتفظت بروح وشخصية خوت منها الأحياء المركزية، حيث الحضور الكثيف للســلطة والمال والتــدين الداجـن.

لكن حيث الروح والشخصية يشعر نظام تعب كثيرا للتخلص منهما وملاحقة أشباحهما بالخطر. وحين يشعر بالخطر يقتل. سبق أن قتل حمص ودير الزور، ولــن يردعــه شيء عن قتل حلب إن استطاع. هذا الوحش المسعور سيــقتل سورية كلها إن بقي حيا.

(كاتب سياسي)

لا وقـــت للســـماء

خليل الرز

دائما بعد أن نخرج من حلب، أنا وأهلي، في طريق عودتنا إلى الرقة، أتذكّر أنني لم أنظر إلى الأعلى هناك. في الرقة كنت أستطيع، كلما ارتبْتُ بالسماء، أن أتأكّد من وجودها في أيّ لحظة. أما في حلب فكنت مضطراً لانتظار موت الأقرباء والأعياد القليلة لأتأكّد من وجود سماء فوق الأسطحة. وكان أقربائي لا يموتون بالهيّن، وعندما أكون في حلب تشغلني بالأرض، في كلّ مرةٍ، عن قلقي بسمائها المحتملة. لم تكن حلبي آنذاك تتعدّى بيتَ عمّي عندما أفتح بابهم وأخرج إلى زقاقهم النازل إلى ساحة المشاطية. أتوقّع أولاً الحصان المسجون وراء الباب المقابل مباشرةً، وأراه. ما مرةً غاب عن إسطبله شديد الضيق، واقفاً دائماً، على طلبي، وراء قضبان نافذةٍ بالباب، يمضغ شيئاً، أو صافناً بحائطٍ يقف عند خياشيمه، وأحياناً بي. رؤوس الخراف المكوّمة، مع نزولي الزقاق، في الأعياد على أبواب الّلحامين، وسيول الدم المتخثّر المخلوط بالطين والفحم وقشور الفواكه والروث وأكياس الورق. سبيل الماء الفرنسي الذي يشبه المدفأة في الساحة، كُرته الصقيلة الباردة إلى جانبه، وبوزه القصير المصوّب إلى بركة حجرية مستطيلة لسقاية الدواب. مؤذّن جامع الشيخ سعد الذي يمنعنا من اللعب في صحن الجامع النظيف الواسع الظليل. انتظارنا الممضّ، نحن الأولاد، لأوقات الصلاة لنُناكف المؤذّن المُقيّد الآن بأذانه في غرفة صغيرة مفتوح بابها الأخضر علينا في صحن الجامع، ثم لنلعب دون رقيب في وقت الصلاة. الزقاق المتعرّج الطويل الذي يأخذني إلى بيت عمّتي في قاضي عسكر. النسّاجون وأنوالهم في دكاكين محفورة في الأرض على جانبيه. آلاف الخيوط الملونة المشدودة أنساقاً دقيقةً تتداخل بأنساقٍ أخرى، والمكّوكات الخشبيّة تقاطعها في وقتٍ موزون ذهاباً وإياباً بين أيدي النسّاجين. كؤوس شايهم المركونة على حوافّ حفرهم قرب قدميّ. حرصي عليها في مشيتي البطيئة البطيئة. رائحة النشاء الأخضر الكريهة التي تنبعث، في أثناء ذلك، من دكاكين أخرى تدور فيها بغال معصوبة العيون. ثم ابن عمي، إذا رافقني، يزوّدني بنكات الحارة وأخبارعقدائها ومجاذيبها والمرشّحين للقتل من شبابها بسبب ملاسنةٍ حدثت، أو ستحدث في المقهى أو في المقبرة أو في الميخانة. عندما كبرت وعشت في حلب شغلتني كثيراً بأحياء أخرى وناس آخرين. دائما كان هنالك ما يشغلني في حلب. حلب تشغلني الآن في دمشق. لا وقت الآن للسماء. الوقت لأحجار حلب.

(روائي)

دريــرة أمــي

مها حسن

حلب هي أمي، التي أتشاجر معها كلما التقينا، لخلافات فكرية، ولأنني متمردة منذ طفولتي، على عالم الطاعة المنافق، إلا أنني سرعان ما أشتاق إليها، فأعود.

علاقتي بحلب عاطفية بحتة، كونها المكان الأول الذي فتحت عينيّ عليه، وتذوقت كل ما يمكن وصفه بالأول، الحب الأول، التمرد الأول، الكتاب الأول، الحزب الأول.. إلا أنني لا أنسجم مع حلب فكرياً، فهي مدينة الفصل الحاد بين النساء والرجال، وأنا الوريثة لتربية الرجال، رفيقة أبي وشريكته في رحلاته وزياراته وسهراته، فُرض عليّ مبكراً، الانفصال عن أبي، للّحاق بعالم أمي والنساء، لأنني بيولوجياً، امرأة، إلى أن صار اللقاء بالرجال محفوفاً بالمؤامرة والكذب، لنلتقي.

إلا أنني أحب حلب، أراها أنثى غاوية ساحرة سرية محتجّبة، سيطر عليها الرجال من الخارج، فقبعت خلف الجدران وأبواب البيوت العابقة بالأسرار الغاوية للكتابة. حلب، في عصر الحداثة وما بعد الحداثة، لا تزال مدينة السحر والأسرار وغواية الكتابة عن عوالم غير مألوفة.

حلب ليست فقط الكبب والمحاشي والقدود وصباح فخري، حلب موسوعة لا تنتهي من المدلولات، للكتابة عنها، أحتاج أوقاتاً طويلة وهادئة ومسترخية، فحلب لا تمنح نفسها في مقال، أو كتاب.

إن قالوا حلب، قفزت القلعة إلى مخيلتي، ذلك الماضي البعيد الممتد في الحاضر، خارق الأزمنة. القلعة السحرية بحكايات أغنى من ألف ليلة وليلة، المسكونة بأرواح لا تزال عالقة في سراديبها وممراتها وسفحها وحبس الدم وقاعة العرش…

إن قالوا حلب، قفزت الجامعة، النادي السينمائي للجامعة، حيث بعد الفيلم، نذهب مشياً، نحن مجموعة الأصدقاء، حتى الجميلية، لتناول الفول، كوجبة عشاء، لا فطور.

إن قالو حلب، قفزت أمامي مجموعة الكتب الكبيرة، العريضة، المطبوعة بعناية، موسوعة خير الدين الأسدي، الذي لم يترك تفصيلاً عن حلب لم يذكره.

إن قالوا حلب، أي حمّاماتها، أي البيلون الخاص، تلك التربة الحمراء التي نعجنها بالماء والأعشاب المطيبة، لتنعيم الشعر. ودريرة أمي، التي تجلبها خصيصاً من سوق الانتاج في كل سنة، لنطيّب بها شعورنا بعد الغسيل بصابون الغار الحلبي.

ولمن لا يعرف الدريرة، فهي مادة تؤخذ من لحاء أنواع من الشجر يعيش بالقرب من مدينة حلب يجمع من قبل الفلاحين ويضاف إليه بعض أنواع من العطور العربية مثل المسك أو العنبر أو العود أو يستخدم دون أية إضافات، كما ورد تعريفها في أحد المواقع الحلبية.

إن قالوا حلب، اقتحمتني رائحة الشواء في محلات باب الفرج الشعبية. ورائحة الفلافل الجاذبة من بعيد.

إن قالوا حلب، أي باب جنين وزحمته، ورائحة الخضار الطازجة، والأسماك والأجبان، وكل ما تشتهيه العائلات الفقيرة، بأرخص الأسعار.

حلب هي أيضا الحديقة العامة، ملتقيات الحب السرية ومواعيد الغرام، رائحة نهر قويق الجاف، حيث نسدّ أنوفنا كلما مررنا جواره، حلب هي أيضاً مقهى القصر الذكوري الذي كان يثير حنقي باحتوائه للمثقفين، إذ لا مكان للمثقفات.

حلب كبيرة ومتعــددة ومتجــذرة، ليســت فقط المكان الذي نراه من السطح، إنها جذور ضاربة في العمق، تخفي الكــثير من السحر، ولا تمنحه إلا لمن يبني معها علاقة حب طويلة الأمد، فتـــثق به، وتُطلعه على بعض وصفاتها الدفينة.

(روائية)

حيــاة لا تجــري

عارف حمزة

أذهب إلى حلب وأعرف أين أجد الشعراء والروائيين وصديقنا الوحيد المهتم بالسينما. كما أعرف ماذا جرى في غيابي. حتى لو غبتُ عاماً أو عامين فإن الذي سيحصل في ذلك الغياب هو تكرار للحياة التي رأيتها ولمستها أو سمعت عنها. الحياة التي تكون متضخمة في البارات والمقاهي ثم تعود لحجمها الحلبي الطبيعي في الطرق الذاهبة إلى البيوت. هي حياة مخصصة لهذا المكان. فلا تذهب مع المغادرين منها بل تبقى معضوضة في كراج الانطلاق أو محطة القطارات أو قاعة المطار، ومتروكة هناك كي يستردها العائد ويضعها مع أغراضه في التاكسي.

ستقفل مقاهٍ ولن يتغير شيء أو أحد. سيموت الأصحاب بشكلٍ متوقع. والنساء الغريبات سيبقين محترفات في سحل قلوب الشعراء حتى آخر العالم. بينما الروائيون يقومون بتأليف تلك النسوة. لا يوجد مجلات وصحف جديدة تطبع هناك. الرائحة الواخزة، التي يؤلفها المراهقون ومشجعو كرة القدم، ستبقى تسلم على الداخلين إلى مباني السينما نفسها وملاعب كرة القدم نفسها ثم تودعهم إلى أشغالهم الشاقة في عدم نسيان ما حدث.

«قلبي على ولدي وقلب ولدي على حجر» ستبقى النشيد المحلي للمكان. الأسماء تكبر ولا تتغير. ثم تصغر لتكون على مقاس الأبناء الذين سيكبرون كما لو كانوا يضيفون صوراً فوق صور في ذات الألبوم. سيكون هناك «أبو عبدو الفوال» في الجديدة والكلاسة والسليمانية والمنشية والميدان.. سيكون هو أبو عبدو نفسه لعشرات السنين. حياة لا تجري. بل تتمشى بهدوء في الشوارع على إيقاع «المحاشي» و«الكبب» والمشاحنات المكررة والكلام المكرر، كلازمة أغنية لا تنتهي لصباح فخري، ونتف شعر الأمل.. لن تجري تلك الحياة حتى لو ركضنا وراءها وضربناها بالعصي و«الشنتيانات».

(شاعر)

أمـــي الحـلبيّـــة

هيثم حقي

كنت أصور أحد مشاهد مسلسلي «خان الحرير» في «خان الجمرك» في قلب مدينة حلب القديمة، وسط كومبارس وممثلين وجمهور متفرج لا يتورع عن تقديم الاقتراحات، لا بل يتبرع أيضاً بنقل ما أقول للممثلين شارحاً لهم لكي تنجح اللقطات ويستطيع الحشد أن يتفرج على اللقطة التالية. لكن الجمهور الحلبي الصبور كان يخرج عن طوره بسبب الملل الذي تسببه الإعادات والأخطاء التقنية أو التمثيلية أو عدم تحرك أحد الكومبارس في اللحظة المناسبة مع حركة الكاميرا فيركضون لهذا لينبهوه وذاك ليصححوا له إلخ… وكانت حشريتهم تبعث على الغضب الممزوج بالضحك في مجموعتنا الفنية…. وسط هذا الجو المتشنج اقترب مني رجل وقور وقال لي: لك إبني إش جابك لهون؟… قلت: هذه مدينتي وأحب أن يراها الناس ويرى تاريخها المشرّف في خمسينيات القرن العشرين… قال: بس يا إبني نحن الحلبية «معلاقنا كبير» ولهجتنا (أبا) أي ثقيلة… قلت له أنا أراها لهجة موسيقية وهذا يفسر غرام أهلها بالموسيقى والغناء… قال: إيه الله يوفقك… وابتعد متشككاً… لكن (خان الحرير) في عروضه في المنطقة العربية وخارجها أثبت وجهة نظري بأن الحلبية في لهجتهم لهم جرس موسيقي محبب، وفي حياتهم عشاق بسط وسلطنة… وأهل ذوق في الطعام لا يعلى عليه… وكانت أمي رحمها الله بالنسبة لي خير مثال على الإلفة والتسامح وصنع اللقمة الطيبة المجبولة بالمحبة لكل الناس … كانت من كثرة حبها للناس تدافع عن الشرير في الأفلام وتجد له المبررات «مو بإيده لك إبني الظلم هيك عمل فيه» وكانت تزرع الابتسامة واللطف أنّى حلت… أمي الحلبية ليست نسيج وحدها فقد عشت في المدينة ودرست في ثانويتيها العريقتين: «المعري» و «المأمون»… وقابلت الكثير من الأمهات اللواتي يشبهن أمي… وحين أنظر اليوم إلى الشاشات وهي تنقل صور الأمهات وهن يركضن بأطفالهن والأمتعة القليلة ليهربوا من القصف الهمجي على بيوتهم وحــياتهم وموسيقاهم وطعامهم الطيب، أذكر أمي كم كــانت ستبــكي على الجميع… لكن حلب الصبورة لم تعد تحتمل فخرج أهلها يعطون التعليمات لكي تنجح… الثورة…

(مخرج سينمائي وتلفزيوني)

كي لا أترك المكان

محمد فؤاد

أتأمل في ما يحدث لي الآن: عشت، وما زلت، في حلب منذ جئت إلى هذا العالم قبل خمسين عاماً، ولم أتوقف مذ وعيت عن التفكير بمغادرتها.. هكذا وإلى الأبد فما أصعب أن يعيش ويموت الإنسان في نفس المكان!

وكنت في أسفاري الكثيرة كالبومبرنج، دائم العودة رغم إني ما إن أستقر حتى أقول: سأغادر حلب.

الآن بينما أدفع دفعاً لترك حلب، أتشبث بذيل ثوبها ودموعي تسقط بقهر وأنفي الذي يسيل أمسحه بطرف كمي كي لا أترك المكان.

تذكرت المرة الأولى التي غادرت أمي الى المدرسة. لن أقبل أبداً أن أعيش هذا الشعور مرة أخرى.

(شاعر)

مدينـــة فـــي أيقـونـــة

عبد الله عيسى

داهمتني حلب بكامل أوصافها بيضاء من غير سوء. أنا الصبي آنذاك منتصف سبعينات القرن الماضي، الذي كان يتهجّى الشعر في محبرة المتنبي التي أراقها فعمّت برائحتها الآفاق. كنت أؤمن، قبل أن أراهــا، أنها الشهباء لبياض حجارتها ونسائها وقلوب أهلها مما عرفــت عما قليل، وصدّقت ذلك بملامح قلعتها التي ما أن صعدتُ إليــها بروحي حتى رأيت ُ المدينة تصعد إلي ّ كمدينة في أيقونة. وكــأن المتنبي كان يعلو بذاته على عصره من هنا، ليتــكئ على أفق بأناه الغلابة، ويحدق في البعيد، فيما سيــف الدولــة الحمداني يروي بسيفه ما شاءت البطولة وينــصت لقرطــاس أبــي الـطيب .

وكأنك َ في مخدع تاريخ لقنّونا عظمته ما شاءت مشيئته ومشيئتهم . فصرت ُ متورطاً به. الشوارع القديمة والأسواق الشعبية التي ترطن بها لغات وتعانق لهجات تتزاحم بناسها . كأنها أفئدة تتقدم نحوي، أنا الفلسطيني بين أقراني السوريين الذين أتوها في رحلة هُيئنا طويلا لها أسمر كرغيف ساخن، لتحفل بما سوف أذكر بها من طيبة. وتذكرت أن معنى كلمة حلب من احتشاد البشر فيها وكأني كنتُ أرى بينهم إبراهيم الخليل يتصدق بحليب غنمه للفقراء. كأنها متحف كبير يقودك َ إلى ذاكرة تواريخ يتعانق فيها الأثر الحثي واللآرامي والآشوري والفارسي والبيزنطي والروماني والإسلامي . كأنما تلك الأحجار البيضاء لا تزال تروي رطناتهم وآثارهم عليها. وفي مبعدة عنها تقرأ انكسار الجسد الصليبي الذي لم يدخلها، فيما يبرق في أرجائها صوت صلاح الدين مكبراً. وكل بوابة من بواباتها التســع تدخلك مدخــل صدق إلى ذاكرتك، لتعود منها مستبشراً بأن يديك َ ستلوحــان لك أن تعــود إليها.

لكني، إذ عدت ُ إليها، مطلع الثمانينات، كان ثمة شيئاً قد سرق رائحة حلب. كانــت المدينة بعد أحداث مرت بحرب عليها آنذاك قليلة التبــسم وكثيرة الصــمت. كأن عباءات نسائها آنذاك تخفي ما لا يراه يدركه العــارفون بذاكــرتها الأولى من غد لا يتقدم إلى غده إلا بما يجعــل علامة الاستفهام ظهرا ً محنيا ً على ذاته لرجال لا يميــلون إلا على قاماتهم العالية.

كان علي ّ أن أقرأ قصيــدة ً في افتتاح مهرجان الشعر الشاب. وكانت قصيدة قد حــزت بها علــى جائــزة شعــرية، ونشرتها في الصحف السورية. وكأني كنــت أقرأ في حضرة سيف الدولة الحمداني وبين يدي المتنـــبي وأبي فراس الحمداني، وكان احتضان الأرواح لها في القـــاعة لا يحدّ إلا بتصفيق وصل المسافة بيني وبين الحاضرين بالنشيد الطويل، وكأنه قدود تتدفق من بين اليــدين وعلى رؤوس الأشهاد تعلو على كلامي «علقت روحي على مئــذنة / ويدي على جرسِ / كم زنت بيدي الأمكــنة / جــزية كان للعــسس».

ولأن أنفاً رديئاً كان يلهث خلف قصيدتي ليفسد رائحتها بأن أراد زجها وأنا معها في فكرته المعتمة كقبو صدئ ، مد ّ لسانه ، بعد أن هبطت من منبر الشعر، في الفضاء الذي كان يفصلنا ليطردنا أنا وقصيدتي.

وكنت ُ قد وعدتُ أنثاي أن أطل معها ليلتها على قمر حلب. لكنني معها عدت ُ إلى قمر «السيدة زينب» في دمشق.

ولم أر حلب بعدها، إلا قي حنين أصدقاء هنا في صقيع هذه الغربة في موسكو.

(شاعر)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى