مناضل من ‘وعر’ حمص
الياس خوري
تسنى لي ان اشاهد فيلما قصيرا مدهشا صنعته مخرجة سورية شابة بعنوان ‘وعر’. اسم المخرجة لا اعرفه، لأن هذه الفنانة المناضلة آثرت ان لا توقع عملها، كي تبقى قادرة على المساهمة في ملحمة الانتفاضة السورية الكبرى. رأيت الفيلم في منزل احد الأصدقاء، وعشت لحظات من الانبهار امام سحر الناس وهم يصنعون التاريخ وسط الدم والموت.
الوعر هو اسم احد احياء حمص، المدينة التي صارت اليوم عاصمة الثورة السورية، والفيلم يقدم مشاهد من لحظات الفرح الشعبي بالثورة وبقدرتها على تحرير الفرد والمجتمع، وهي تنشبك بلحظات القمع الدموي، الذي ينشر الموت والدمار، في سورية.
صحيح ان بطل الفيلم هو المدينة، بأحيائها التي اتخذت اسماؤها دلالات تمزج البطولة بالشجاعة، والحلم بالارادة: الخالدية، بابا عمرو، باب السباع، الوعر، باب الدريب، ساحة الساعة الجديدة، ساحة الساعة القديمة… لكن من قلب هذه الأحياء يبرز فتى في اوائل العشرينات من العمر، يطير كفراشة محمولا على الأكتاف ويتقوس كسهم قبل ان ينطلق في الأفق. يحمله صوته الى الأعلى ويرفع يده معطيا اشارة البداية كقائد اوركسترا، وحين يمضي ترافقه هتافات المتظاهرين: ‘الله يحميك’.
اسمه عبدالباسط الساروت، حارس مرمى فريق الكرامة لكرة القدم، وحارس مرمى منتخب سورية للشباب، تحمل ملامحه البدوية عطشا لا يرتوي الى الحرية، كما يحمل صوته انتشاء بالهتاف والأغنية. يؤلف الأغاني والهتافات، محولا التجمع الليلي في احياء حمص، التي يخترق الرصاص هواءها، الى عيد شعبي، والهتاف الى ما يشبه الابتهال لوطن ذبيح، ولارادة شعب قررت ان لا تنحني.
‘ارحل صرخة الشجعان/ صرخة حضر مع عربان/ صرخة لكل الأديان/ صرخة سورية وترابها/ يرحل هو وكلابَه/ والدمار يللي جابَه’.
عربات ال ب.ت.ار. العسكرية المصفحة تحتل الشوارع الخالية، وجه رجل مغطى بالظلال يروي عن مجازر حمص الثلاث التي حصلت في 17 ايار/مايو، اصوات طلقات رشاشات الدبابات تخترق المكان، حكايات عن الجريح الذي يدخل الى المشفى مصابا في يده، فيُسلم بعد ايام الى ذويه جثة هامدة.
خراب يستند الى خراب، امن وشبيحة لا يتوقفون عن القتل، والدم يغطي المدينة. لكن هذا المشهد المخيف يتبدد امام سيل المظاهرات الشعبية. كيف استطاع السوريات والسوريون ان يصنعوا هذه الأعجوبة المستمرة منذ سبعة اشهر، يملأون الشوارع في تحدٍ واعٍ للرصاص؟ من اين تأتي الحنجرة بالشجاعة كي تواجه السلاح، وكيف تحولت الصدور الى متاريس للحرية؟
بطل هذا الفيلم هو الصوت في مواجهة البندقية. قال عبد الباسط الساروت ‘سلاحنا صوتنا’، وروى كيف وضع النظام جائزة قدرها مليونا ليرة سورية لمن يساعد على القاء القبض عليه بصفته سلفيا! قال كلمة سلفي وابتسم مستهزءا، ثم ارتفع صوته بالشدو: ‘سكابا يا دموع العين سكابا/ على شهدا سورية وشبابها’.
ينهض بطل هذا الفيلم من الحناجر، فيصير الصوت الانساني قادرا على مواجهة طلقات الرصاص، والانتصار عليها. شيء يشبه العرس، وطقوس تمزج الموت بالخصب، وحكاية يصنعها ابطالها وهم يموتون من اجل الحياة.
يبدو عبدالباسط الساروت وكأنه نبت في المكان، حارس المرمى يصير ابنا لحالة شعبية اسمها الثورة، واصوات الشباب في حلقة الانشاد الليلية تقدم صورة لمستقبل هو نقيض فكرة ابدية النظام التي روجت لها آلة الدعاية الرسمية.
شاهدنا في الفيلم صورة وحيدة للرئيس السوري بشّار الأسد وهو يقف في مشهد صنعت خلفيته صورة والده، وتحت الصورة كتبت العبارة التالية: ‘الأسد او لا أحد’. يبدو ان هذا الشعار الجديد هو استكمال لشعار قديم وضع تحت صور حافظ الأسد: ‘قائدنا الى الأبد والى ما بعد الأبد’. صورة بشّار في حمص تضيف معنى جديدا للشعار القديم، الهدف من عبارة ‘لا احد’ إخافة الناس، الأبد او لا احد، وفي هذا تصل عظامية الديكتاتورية الى ذروتها، فالفراغ الذي صنعه الاستبداد حول نفسه، يريد اليوم ان يبتلع الوطن.
فكرة اللا احد يواجهها السوريات والسوريون اليوم بفكرة كل الناس، كل الناس يملأون الشوارع، ويتحدون الفراغ الذي يفرضه الرصاص ويمحون صورة اللا أحد بشعارات الحرية: ‘هبت من درعا ثورة/ بتنادي بالحرية’.
الحرية هي نقيض اللا أحد، والديمقراطية هي نقيض ابد الاستبداد. هذا ما ترويه لنا مخرجة سورية شابة، صورت فيلمها تحت الرصاص، مقدمة نموذجا لمعنى الفن في زمن الثورة.
حارس المرمى الذي تحوّل الى منشد حمص، ليس سوى احد الظواهر التي صنعتها الانتفاضة الشعبية الكبرى في سورية، وهي ظواهر تعلن دخول الناس الى الفضاء العام، وقدرة المخيلة الشعبية على صناعة الحياة وسط الموت، وولادة جيل من الشباب سبق له ان صبغ السبع بحرات في دمشق باللون الأحمر، محولا الماء الى دم يتدفق كما تتدفق دماء الشهداء.
عندما قتل الشبيحة ابراهيم القاشوش وقطعوا حنجرته، اعتقدوا انهم باخراس صوت الشاعر والمنشد السوري يخرسون صوت الثورة، فنبت لهم الف منشد ومنشد، وصارت اهازيج شبان الأحياء تحتل السماء.
حين انتهى عرض فيلـــــم ‘وعر’، وجــــدت نفســــي اردد بشكل عفوي مع شباب حمص هتافهم: ‘عبد الباسط/ الله يحميك’.
القدس العربي