صفحات المستقبل

مناقشة بين ورقتي الكفاح السلميّ والكفاح المسلّح


لم أستطع أن أمنع نفسي من انتقاد بعض الأمور الحسّاسة التي تجري في بلدي العزيز في خضم ثورة الحريّة و خصوصًا حيث أتنفس الآن في مدينتي حُمص ..

عندما ترى مدينتك قد دُمِّرت والأسواق فيها قد هُدِّمت والناس هُجِّرت وعندما تمشي في شوارع مدينتك الخالية تمامًا من الحياة – إلّا أصوات الصواريخ وانفجاراتها وأصوات الرصاص وآلات القتل – باحثًا عن قليل من الخبز أو الرز فإنّك لا تستطيع مع كل ذلك صيرًا .. وتبدأ دموعك تغلي في عيونك فتسقط غاضبةً ساخنة تشوي الوجه .. فيعود عقلك ليبحث في أسباب ما حدث من دمار وقتل ليس له مثيل .. فتجد أنّ وحشيّة بشار الأسد وعُبّاده لا تضاهيها وحشيّة أحد نمن البشر .. ولكنّ عقلك يأبى أن يكون هذا الأمر سببًا و كفى .. فيبحث عن أخطائه الشخصيّة ….

مع أسفي الشديد فإنّني أريد أن أنتقد ذاتنا بشيء غير قليل … فهنالك الكثير من الأخطاء الفادحة التي يتسبب بها كل من يقود اتجاهات الثورة الآن – وهم غير حكماء بكل تأكيد – فكل الأطراف برأيي تشترك في صناعة هذا الدمار الهائل الذي لحق بالبلاد وخاصةً حُمص .. فكان بالإمكان ألا نخسر كل أولئك الشباب الرائعين – الحمد لله و رحمهم الله تعالى – بشيء يسير من الحكمة والصبر والتفكير ..

فحتى الآن – وبعد عامٍ كامل – لم يفهم عامة الناس معاني اللاعنف و السلميّة والجهاد أو الكفاح غير المسلَّح .. وأنا لا ألومهم ولكنْ ألوم من كان يستطيع من خلال مركزه الإعلاميّ أو السياسيّ أو الدينيّ أن يوّعّيهم و ينشر فيهم أفكار الجهاد السلميّ و أهمية فكر العصيان المدني والإضراب العام و فوائد كل ذلك غير القليلة وسلبياته القليلة جدًا .. و سأعود لهذه النقطة بعد قليل ….

و عزّة النفس والوازع الأخلاقيّ والواجب الدينيّ منع الكثير من الجنود الأبطال في الجيش السوري من اتّباع أوامر القادة العسكريين – العبّاد لحافظ الأسد وذريّته – فانشقوا عنه وشكلّوا الجيش الحرّ الذي نفتخر به و نحترمه أشد الاحترام .. وعندما نراهم على الفضائيات تنشرح صدورنا ونشعر بالأمن والأمان الذي سلبته منا عائلة الأسد .. وأنا شخصيًا عندما أراهم أشعر بزهوٍ و غرور غريبين وأقول في نفسي هاهم أشجع شباب سوريا ..

ولكن كفانا عواطف فسأنتقل إلى ما هو أهم … ففي العصر الحديث الذي لا يعترف إلّا بالفكر والعلم نشأتْ علومٌ كثيرةُ جديدة تُدرّس في الجامعات حتى ينجح الإنسان في حياته وأعماله أمثل وأكمل نجاح .. منها علوم القيادة والإدارة والتخطيط .. وكنت أقول لنفسي من سيقود هؤلاء الجنود المنشقون ومن سيدرّب ويقود وينظّم من حمل وسيحمل السلاح من المدنيين الذين التحقوا بالجيش الحرّ أو الذين كونوا لأنفسهم جماعات خاصة لها قيادة منفصلة عن الجيش الحرّ و غير معروفة ..!!

فبدون معرفة من يقود وينظّم ويدرّب هؤلاء سيكون قلبي غير مطمئن أبدًا للفوضى وللنتائج السلبيّة التي ستلحق بهذه العشوائيّة ..

وبدأت عواقب غياب الحكمة والإدارة والقيادة الماهرة بالظهور بشكل واضح جدًا في حُمص .. فسيطر الجيش الحرّ على بابا عمرو وسيطرت جماعات من المدنيين – كانت قد تسلّحت لشدة ما لاقته من عذاب و تقتيل – على أحياء دير بعلبة و الخالديّة و البياضة و القصور و كرم الزيتون والقرابيص .. الخ من أحياء حُمص مع قليل جدًا من عناصر الجيش الحرّ أو ضباطهم بين هؤلاء المدنيين ..

فأصبحت حُمص محرّرة من الجيش الأسديّ بعد معارك طاحنة اقتُلعتْ فيها حواجزه من كلّ الشوارع .. وساد بعدها هدوء رهيب لعدّة أيّام أخذت فيها الناس مجدها من حريّة التنقّل في الشوارع وحريّة التظاهر والاعتصام والحياة الهادئة .. وفجأةً بدأ ما هو متوقع .. القصف العنيف من بعيد على أحياء حُمص وبشكل عشوائي .. مما أوقف الجيش الحرّ وجماعات المدنيين المسلّحة عاجزة وشبه مشلولة أمام إمطار الأسد للصواريخ على البيوت الآمنة فتسقط مهدّمة وتقتل معها من كان يسكنها .. ثم بدأ التركيز على حيّ ضخم جدًا من أحياء حُمص – بابا عمرو – ويتركز فيه عدد هائل من جنود وضباط الجيش الحرّ .. و نزلت الصواريخ بسرعة وبكثافة لم يسبق لها مثيل وبشكل عشوائيّ مقصود به تدمير كلّ شيء حيّ أو حتى غير حيّ .. فأصبح الجيش الحرّ كأنّه مكبّل اليدين لا يعلم ما يفعل والناس تُذبح والبيوت تسقط على رؤوس أصحابها .. ظننت بدايةً أنّ اسرائيل تقصفنا و تمسح حيّ بابا عمرو المقاوم من على الخارطة ولكن أصحو على فظاعة الأمر الواقع وهو أنّ إخواني في بلدي هم من يقصفون مدينتي ويقتلوا إخوتي وأصدقائي .. وبعد أن دُمّر كلّ شيء في الحيّ ولم تبقَ فيه صخرة (واقفة على حيلها) قررت قيادة الجيش الحرّ “الحكيمة جدًا” الإنسحاب … أمرٌ مثير للدهشة و للتعجب حقًّا .. إذا كان واضحًا منذ البداية أنكم لن تستطيعون الردّ على تلك الصواريخ الشرسة وإيقافها وإيذاء من يطلقها علينا فلماذا لم تنسحبوا في بداية هذا القصف اللئيم أو لماذا – أساسًا – السيطرة على منطقة معينة والاستقرار فيها ثم الخروج منها عند دمارها بشكل كامل وفظيع وترك أهلها يعانون من عذاب إيوائكم وإطعامكم ومساعدتكم ..؟؟ لكنتم عندها وفرتم الكثير من الخسائر الفظيعة في الأرواح والأموال ..!!

أعتقد أنّه كان حريًّا بهذه القيادة “المتقدة الذكاء” أن تستمر في سياسة ‘ اضرب و اهرب ‘ بدل سياسة السيطرة على المناطق وجعلها عرضةً للدمار والخراب لأنّه ببساطة لا تتوفر القدرة العسكريّة للجيش الحرّ لأن يصطدم مباشرةً مع الجيش الأسديّ .. فاسألوا أهل بابا عمرو الآن ماذا استفادوا سيطرت الجيش الحرّ على حيهم لفترة بسيطة وقمعهم لقوّة النظام ثم عودة النظام بضربة أشدّ قسوة لم يستطع الوقوف في وجه وحشيّتها .. وأخيرًا دفع الجيش الحرّ ثمن غرور و “نباغة” قيادته “الحكيمة” ودفع كل حيّ بابا عمرو ثمن احتضانهم للجيش الحرّ .. فكانت أخيرًا الثورة هي الخاسر الأكبر فقد خسرت الكثير من شبابها الأبطال – رحمة الله تعالى عليهم جميعًا – ..

أقول هنا بأنّه بقليلٍ من التفكير والتمحيص كان يمكن تجنب كل هذه الخسائر الفادحة أو التضحيات العظيمة – كما يسمّيها البعض – فسياسة السيطرة على المنطقة غير مجديّة أبدًا لأنّه لا إمكانيّة للجيش الحرّ بالردّ على الصواريخ والمدافع والدبابات والطائرات التي تقصف وتقتل من بعيد ..

ونرى الآن كيف فهم نظام الأسد الغدّار هذا الخطأ واستغلّه لقتل ما يمكن قتله بما أنّ روسيا والصين تدعمانه دوليًّا عسى أنْ يستطع إخماد الثورة المباركة ولكنّ ثورتنا أقوى من ذلك ولن يسطع إخماد إلّا نفسه اللئيمة ..

وأعود فأدمج فكرة الكفاح السلميّ بفكرة تسلّح المدنيين عشوائيًّا دون تخطيط و قيادة وتنظيم حكيم مع ذكر أنّني لا ألومهم لحمل السلاح ولكنْ ألوم القائد الفذّ الذي يرشدهم المسير و الخطيب الكبير الذي يحرّضهم على ذلك …

فأنا ما زلت أعتقد أنّ السلاح والتسليح أسوأ بكثير من السلم والسلميّة ولو كانت السلميّة فقط من طرفنا .. لأنّ السلميّة بكلّ بساطة خطة اقتصاديّة لا تكلّف إلّا القليل جدًا من الخسائر في الأرواح والماديّات .. وبمقارنة كفاح قائدنا مُحمّد بن عبد الله – صلى الله عليه وسلّم – وأصحابه الكرام في بداية الدعوة في مكة نجد أنّ إصرارهم على مبدأ السلميّة أو الجهاد السلميّ ضد الظلم والعدوان اللذين يُصيبان كل من دخل في الإسلام .. هذا الإصرار على السلميّة نفع الدعوة كثيرًا وكان السبب الرئيس في استمرارها ونجاحها لاحقًا فكانت الطريق الصحيح الذي أوصلهم إلى الهدف بأقل وقت وخسائر وجهد .. فكانت ضحايا المرحلة المكيّة في الدعوة اثنين فقط …!!

ولنقارن بين مراحل ثورتنا .. فكان متوسط عدد الشهداء في اليوم قبل تسلّح المدنيين بين الخمسة والثمانية شهداء أما بعد رفع الكثير لراية السلاح والتسلّح فقد ارتفع متوسط عدد الشهداء إلى 60 شهيدًا في اليوم ..!! وهذا الأمر مفهوم …

أمر آخر وهو أكثر خطورة .. أنّ الأعمال المسلّحة تزرع الأحقاد والثارات بين أفراد البلد الواحد وهي أسوأ بلاء يُصاب بها البلد .. ولنرى مثلاً كيف أصبح الأمر طائفيًّا في مدينة حُمص وأصبح الخطف و تبادل المخطوفين أمرًا شائعًا بل و أصبح الانتقام والثأر أمرًا شبه طبيعي أيضًا .. وهذا نقيض تمامًا لخطة النبي السلميّة كليًّا التي لا تسمح لهذا المشاعر بالظهور بل على العكس تُطفئ الغضب والحقد ..

وأيضًا فإنّ الكفاح السلميّ يستقطب حبّ الناس وعطفهم .. لأنّه من الفطرة التعاطف مع المظلوم والضعيف المضطهد ..

وأيضًا فإنّ إيقاف العنف يوفر جوًّا صافيًّا من كل المشاعر السلبيّة لاستخراج بعض الحلول التي نسميها اليوم “سياسيّة” .. ولننظر في الماضي والحاضر وكفاحات الشعوب فيها .. فهل استطاع الكفاح المسلّح أنْ يقضي على الاستبداد والظلم ..؟ ربما يقمعه لفترة .. ريثما يتجهّز المستبد و الظالم لضربة أعنف و أقوى .. وهذا الدوران في حلقة مفرغة لن يؤدي إلّا لمزيد من الخراب والدمار كما يحصل الآن في حُمص العديّة .. و أيضًا فإن الكفاح السلميّ لا يسمح للظلّام والمستبدين أن يستتروا تحت مظلة القضاء على الفتنة والإرهاب كما يفعل نظام الأسد الغادر .. وكما تفعل كل الأنظمة المستبدة .. وأعتقد أن عددًا كبيرًا من الناس – بعد قيام كل هذه الثورات في الأقطار العربية – بدؤوا يدركوا أهمية الجهاد السلميّ في اقتلاع الاستبداد والظلم من على عروشه المزيفة ..

وأخيرًا أنوّه إلى أنّني لا ألذع بكلماتي هذه الجيش الحرّ البطل أو من حمل السلاح من المدنيين ولكنّني أنتقد بشدّة قياداتهم الغبيّة ومن يدعمهم ومن يُحرِّض على حمل السلاح دون إعداد مسبق أو تخطيط مُدبّر ..

فهذه الفوضى و العشوائيّة التي أصابت هذا الجزء المهم من ثورتنا لن تجلب إلّا السمّ القاتل لنا وتفتح المستقبل القريب للبلد على دمار و عنف في دوامة ليس لها نهاية ..

وأُذكر تلك القيادات الفاشلة بأنّ الإعداد للجهاد (المسلّح) يسبق إعلان الجهاد ..

أسأل الله العزيز الكريم أن يُخلصنا من بشار وأعوانه عاجلاً لأنّه قد تمادى كثيرًا في إيذائنا وتدمير مدننا الجميلة .. والحمد لله رب العالمين على كلّ حال …..

الكاتب: قنديل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى