“منهجية مهدي عامل الفلسفية”: مقاربة ما لم يكتمل/ محمود منير
لا تزال طروحات المفكر اللبناني الراحل مهدي عامل (1936 – 1987)، الذي تصادف اليوم ذكرى اغتياله، راهنة في غياب تيارات ثورية تحمل على عاتقها مهام التحرّر الوطني والتحرّر الاجتماعي، دون أن تدخل في لعبة استلاب العقل عبر أيديولوجيات مارست سلطتها باسم القومية أو الدين فكانت في النهاية جزءاً من منظومة التبعية وأداة لمزيد من تفكّك المجتمعات العربية وتفتّتها طائفياً ومذهبياً.
يُستعاد صاحب “في الدولة الطائفية” في زمن فوضى الأفكار الذي نظّر له منذ أكثر من ثلاثة عقود، والتحارب والاقتتال الداخلي في أكثر من بلد عربي، وتقاسم النفوذ في البلدان التي تعيش استقراراً متوهماً بين أنظمة محتكرة للثروة والقرار، ومجتمع تقبض عليه قوى غيبية.
“منهجية مهدي عامل الفلسفية: قراءة في الأصول والتوظيف والدلالات” عنوان الكتاب الصادر حديثاً عن “دار من المحيط إلى الخليج” للباحث والأكاديمي الفلسطيني رياض شريم الذي يبيّن في حديثه لـ” العربي الجديد” أن “اختيار صاحب “مقدّمات نظرية” في هذه المرحلة جاء نتيجة طبيعية لمجموعة من “المقدمات”، لـ”أهمية الفلسفة الماركسية ذاتها في الحياة الإنسانية، من ناحية تنوّع منهجياتها التحليلية، أفقيّاً وعموديّاً؛ أفقياً في تناولها لقضايا العلوم الطبيعية والإنسانية والاجتماعية، وعمودياً في تعدّد وتجدّد أدواتها المنهجية المستخدمة في التحليل والنقد، والتساؤلات المستمرة حول قدرة المناهج الفلسفية عموماً، والماركسية خصوصاً على فهم الواقع العربي وتحليله، وبالتالي الإسهام في تغييره”.
يلفت الكاتب أيضاً إلى “القيمة العلمية والتطبيقية لكتابات عامل العلمية في عمقها وتنوّعها، والتطبيقية في تناولها لقضايا ومشكلات وهموم المجتمعات العربية الحديثة والمعاصرة، وهي مشكلات وهموم متجددة ولا نزال نعاني منها حتى اللحظة، وعلى رأسها تحديات المشروع الصهيوني، والتبعية، والتجزئة، والطائفية، وحركات التطرّف”.
تعدّد المنهجيات في اشتغالات صاحب “في علمية الفكر الخلدوني” البحثية، يراه المؤلّف ضمن إطار تكامل المنهج/ المنهجية حيث تفطّن عامل إلى قصور المناهج في تعريفها الكلاسيكي على الإحاطة بقضايا الدراسة المطروحة، ويعتبر محدّثنا أن “المزاوجة ما بين المنهج والمنهجية هي القادرة على سبر أغوار اشتغالاته الفلسفية، في أصولها وتوظيفها ودلالاتها”.
يشير هنا إلى أن “أبرز المناهج التي أسهمت في تشكيل منهجية مهدي عامل الفلسفية تمثلت بشكل أساس في الفلسفة الماركسية اللينينية في ماديتها الجدلية والتاريخية، وفي اقتصادها السياسي واشتراكيتها العلمية، بالإضافة إلى التراث الفكري لكل من ابن خلدون ولوي ألتوسير”، وعلى ضوء ذلك، “تأسس جهاز المفاهيم النظرية أو ما يعرف بـ”الأدوات” في منهجية مهدي عامل الفلسفية على مجموعة المفاهيم والمصطلحات الماركسية اللينينية المعروفة؛ مثل التناقض وأنماط الإنتاج والصراع الطبقي والتحالفات الطبقية وتفاوت التطور والكولونيالية والإمبريالية وفائض القيمة.
لكنّ “جهازه المفاهيمي لم يقف عند تلك الحدود، بل تعداها إلى نحت مجموعة من المفاهيم والمصطلحات الجديدة في صياغتها، والتجديدية في مضمونها، من قبيل: مفهوم نمط الإنتاج الكولونيالي، ومفهوم أزمنة البنية الاجتماعية: زمان التكوّن، وزمان التطوّر، أو الزمان البنيوي، وزمان القطع، ومفهوم الحركة الانتباذية والحركة الانجذابية. مفهوم الترابط الانصهاري والترابط التراكبي، ومفهوم التفاوت البنيوي والتفاوت التطوّري، مفهوم علاقة التحدد وعلاقة السيطرة، ومفهوم التناقض المحدد والتناقض المسيطر، ومفهوم الهيمنة الطبقية والسيطرة الطبقية، ومفهوم سلطة الدولة وجهاز الدولة، ومفهوم التمرحل والتطوّر، ومفهوم السببية البنيوية”، وفق شريم.
ينبّه الكاتب إلى أنه “تم توظيف منهجيات عامل الفلسفية في تحليل الواقع العربي، ونقده في عدّة مستويات، أهمها: نمط الإنتاج الكولونيالي وتنظير حركة التحرر الوطني، وأزمة البرجوازيات العربية، والطائفية والحرب الأهلية، والنظام التعليمي”، لافتاً إلى أن “قضية حركة التحرر الوطني العربية تحتل المساحة المركزية في مشروعه الفكري والسياسي، فيما يعتبر مفهوم “نمط الإنتاج الكولونيالي” مفهوماً محورياً في جهازه النظري، وأداة نظرية تحليلية تحتل موقعاً مركزياً في أبحاثه كلها”.
الهدف الأبرز لهذه الدراسة يتجسّد في مقاربة ملامح ما لم يكتمل في مشروع صاحب “في تمرحل التاريخ” الفلسفي، والتي يرتّبها الباحث ضمن أولويات عدّة، أبرزها “قدرة مشروعه على الاستجابة لتحديات الواقع العربي الراهن وفق قراءة تاريخية مقارنة، وفي ضوء قراءة تغيرات الواقع بعد مرور ثلاثة عقود على اغتياله”.
كما يرى أنه “على الرغم من التغيّرات في نمط الإنتاج الرأسمالي وتحوّله نحو العولمة وتمركز رأس المال العالمي، إلّا أنّ نمط الإنتاج الكولونيالي في واقعنا العربي لم ينته، بل لم يقترب من نهايته، وطبيعة العلاقة البنيوية (بوصفها علاقة وظيفية بين بنية وأخرى) التي تحكم تبعية نمط الإنتاج الكولونيالي للرأسمالية الإمبريالية في مرحلة عولمتها ازدادت حدة وعمقاً، كل ذلك يشير إلى راهنية تحليل مهدي عامل لنمط الإنتاج الكولونيالي، وقدرته على تفسير استمرارية ذلك النمط من الإنتاج في المجتمعات العربية”.
في المقابل، يبيّن شريم أن “قراءة الواقع تشير إلى سلسلة تغيّرات واضحة، ليس في ساحة المجتمع اللبناني التي كتب عامل حولها الكثير وحسب، بل في ساحة المجتمعات العربية كلّها، لكن اللافت هو أنّ تلك التغيّرات جاءت متسقة مع تحليل صاحب “أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية” لطبيعة وجذور وتداعيات المشكلة الطائفية والفكر الطائفي بوصفه شكلاً للنظام السياسي والنظام الأيديولوجي الذي فيه تمارس البرجوازية الكولونيالية سيطرتها الطبقية”.
ويوضّح أن “قراءة واقع حركة التحرّر الوطني العربية، هنا والآن، يشير إلى استمرار أزمتها البنيوية والسياسية العميقة أكثر من أي وقت مضى، وقد فُصّل ذلك في تحليل نموذج حركة التحرر الوطني الفلسطينية، ونموذج حركات التحرر الوطني في بلدان ما عرفت بـ”ثورات الربيع العربي”، ونموذج العراق خلال وبعد الاحتلال الأميركي”.
يضيف “مقاربة ملامح الاكتمال في مشروعه الفلسفي تقتضي الانطلاق في القراءة التاريخية المقارنة من حيث انتهى مهدي عامل في تحليلاته الأخيرة التي لم تكتمل، خاصة في كتاب “نقد الفكر اليومي”، وبرؤية تجديدية تهدف إلى تطوير ذلك المشروع بوصفه صيرورة حركية حية ودائمة التجدد”.
العربي الجديد