منير الشعراني في بيروت: حروف الوجع السوري
لم يقطع نهائياً مع التراث، لكنه حفر تحته، مستكشفاً الممكنات البصرية والغرافيكية التي يمكنها أن تحدِّثه. معرضه الاستعادي في بيروت فرصة لمعاينة تجربة هذا الفنان الدمشقي الذي لا يفصل بين الخط كممارسة جمالية وبين قضايا المجتمع
حسين بن حمزة
يسمح معرض منير الشعراني (1952) الذي افتُتح أمس في غاليري Art on 56th بتكوين انطباع شبه شامل عن تجربة هذا الخطاط السوري الذي كسر قدسيّة التراكم التراثي للخط العربي، وعرّضه لمقترحاتٍ تجريدية وممارسات معاصرة. لم يقطع الشعراني نهائياً مع التراث، لكنه حفر تحته وفي جواره، مستكشفاً الممكنات البصرية والغرافيكية التي يمكنها أن تحدِّث هذا الفن، وتصنع له مكاناً لائقاً بين التجارب التشكيلية الراهنة. اللوحات المعروضة التي تغطي مراحل متعددة من مسيرته، تُظهر جوانب متعددة من شغف الفنان وجديّته في تطوير طموحاته وتقنياته، وتحويل ذلك إلى نوع من «فن شخصي».
منذ بداياته، سعى الشعراني إلى خلق فضاءات أوسع لإمكانات الحرف العربي. نظّف بعض الاستخدامات الحروفية القديمة من غبار التكرار، وأعاد الاعتبار لبعض القيم المهملة في بعض الخطوط. وهو ما نجده في استخدامه للخط النيسابوري، ولخط جلي الديواني والثلث، في عدد من الأعمال المعروضة، إضافةً إلى أعمال منجزة بالخط المغربي. محدودية الممارسة المحكومة بالخط جعلته يبدو كمن يحفر في الموضع نفسه. لهذا، فإن النقلات الأسلوبية والغرافيكية في معرضه تظل متناهية في الصغر، وعصية على الجمهور العريض، لأنها تدور في فلك الحروف كدوران عباراته التصوفية حول المعنى المحجوب. هكذا، لا يعود الشعراني خطاطاً آخر من مجوّدي الخط العربي الذين يكررون الجماليات التقليدية لأنواع هذا الخط وأشكاله المستهلكة، ولا تعود لوحته مدينةً لـ«الحروفية» التي حصر أصحابها الحرف العربي بوظائف زخرفية وتطريبية محددة.
التجويد موجود في أعماله طبعاً، لكنه تجويد منضبط ومحكوم باجتهادات وتنقيبات دائمة، حيث يمتزج الشغل على بنية الخط مع الشغل على معاني العبارات في لوحاته.
هناك لوحات مؤتمنة على معانٍ صوفية كما في استلهاماته لعباراتٍ مأثورة لابن عربي والنفري والحلاج، أو استعارات شعرية كما في قول محمود درويش: «في الشام مرآةُ روحي»، إلى جانب أعمال قائمة على مجازاتٍ لاهوتية وروحية كما في جملة «من فضلة القلب يتكلم اللسان» المستلّة من العهد الجديد، وفي «فأما الزّبد فيذهب جفاءً» من سورة «الرعد» في القرآن، وفي قول الرسول: «كن كيِّساً وكريماً وكليماً وكتوماً». في المقابل، الاستعارات العائمة على موشور هائل من الانطباعات لا تأسر تجربته في مدارات الشعر والتصوف. جزء من اجتهاد شعراني موجودٌ في تقريب الحرف من الواقع والحياة اليومية. نتذكر لوحة مبكّرة له احتلتها عبارة ابن عربي «كل فنّ لا يُفيد عِلْماً لا يعوّل عليه». الفنان الدمشقي، القادم من تجربة سياسية وحزبية، لا يفصل بين الخط كممارسة جمالية، وبين قضايا المجتمع الذي يعيش فيه. هكذا، ما إن انفجرت الأوضاع في سوريا حتى تورطت لوحته أكثر في الحدث المباشر. أنجز أعمالاً تستجيب للاحتجاجات السورية ضد النظام، ومنها لوحة معروضة بالخط الكوفي على شكل مسدس هندسي تبدأ قمته بـ«لا» كبيرة، وأضلاعه بـ«القتل/ السجن/ النزوح/ القمع/ الإرهاب…»، وأخرى على شكل مربع تعلوه «لا»، وتتجاور الكلمات الأخرى مصفوفة في داخله، وثالثة تحتوي على شعار «نعم للديموقراطية».
في النهاية، سواء كانت اللوحة مشغولة بالشعار المباشر أو بالتأملات الفلسفية، فإنّ الشعراني لا يتخلى عن مهارته في ابتكار الحبكات الحروفية المشغولة بحسّ غرافيكي مدهش. هكذا، نتأكد مجدداً أنه ليس خطاطاً عادياً، بل مصمم أشكال تجريدية صودف أنها مصنوعة من الحروف العربية.
معرض منير الشعراني: حتى 29 كانون الثاني (يناير) الجاري ــ غاليري Art on 56th (الجميزة ـ بيروت) ـــ
للاستعلام: 01/570331
عودة إلى السياسة
كان في استطاعة منير الشعراني أن يعتمد على موهبته الاستثنائية في إعادة تجويد القديم وزخرفته، ولكنه اختار قسم «الإعلان والتصميم» في كلية الفنون في دمشق، واختار لتخرّجه مشروعاً عن الملصقات السياسية وآليات القمع. اختصاصٌ سهّل عليه ابتكار بِطانة حداثية لموهبته، وجعلت مسيرته اللاحقة على صلة بتجارب أقرانه الذين لا يحضر الخط العربي في لوحاتهم. الفنان الذي تتلمذ لدى كبير خطاطي دمشق بدوي الديراني (1894 – 1967)، أجبرته الملاحقة السياسية على مغادرة دمشق نهاية السبعينيات إلى بيروت، وعمل مصمماً لأغلفة الكتب باسم عماد حليم، قبل أن يعود عام 2004، حيث انتظمت تجربته لفترة قبل أن تنفجر الأوضاع، وتعود السياسة إلى احتلال أعماله بطريقة مباشرة.
الأخبار