من أجل خطاب للهاربين../ روجيه عوطة
بعد توطئة سلسلة “نثور بلا ثورة“، جاءت الحلقة الأولى عن القتلى في سوريا، والثانية عن العلاقة بين نظام الأبد ودولة البقاء والفارين في أرض الموت، والثالثة عن تقاطع الخطابين الممانع واللاممانع حول حادثة “أبو صقار“، والرابعة عن قتل “الإنسان” الأسد للحيوانات، الحلقة الخامسة، عن الخروج من اللاسياسة إلى السياسة. هنا الحلقة السادسة، في جزئين، عن فك قيود المحكومين، ومنع فرارهم. الأول: “سياسة تفك الجنزير وتمنع المغادرة“ والجزء الثاني “دفاعاً عن مجتمع طويل الأظافر“ هنا، الحلقة السابعة والأخيرة بمثابة تلخيص بنقاط أساسية، تستلزم البحث فيها أكثر.
“ماذا يحدث؟”، قد يكون هذا الإستفهام أساس في أي كتابة عن سوريا، ترغب، على الأقل، في ثلاث غايات متصلة. أولها، فهم التحولات، ثانيها، مواجهة النظام، وثالثها، رصد العودات السلطوية، والوقوف على خطورتها. لكن، هذه الأهداف لا يستطيع المرء محاولة بلوغها من دون الإنتباه إلى أن “الذي يحدث”، منذ آذار 2011 حتى اللحظة، يستلزم أدوات كتابية جديدة، أو مختلفة عما كان شائعاً قبل أن يرتكب أسد البعث مجزرة بحق الملايين من الناس، قتلاً واعتقالاً وتهجيراً. ذاك، أن الكتابة هذه تحمل على عاتقها مسؤوليةً أمام الهاربين من الأبد، الذين ما يزالوا يقاومونه تحت البراميل المتفجرة، وفي الهواء الكيماوي الطلق، كما يتصدون للتطرف في جروحهم، التي يجربون تخطيها.
كتابة للهاربين
هؤلاء، ومعهم، جميع خائضي الأحداث، كل واحد منهم على طريقته، إن كانوا في انتظار كتابةً ما، فلكي لا تنقذهم خلاصياً، بل من أجل مجاورة شعورهم في أن الممكن، الذي يفكرون به، موجود داخل واقعهم، وليس خارجه، أو فوقه، أو خلفه، وفي أن قدرتهم على صناعة المنافذ حاضرة، حتى لو كان العالم، بأنظمته وسلطاته، يشارك في قتلهم ومحاصرتهم. هؤلاء، يستحقون كتابة تعاونهم في بنائهم السياقات، دون أن تتنكر لقساوة واقعهم، وبلا أن تؤدلجه، إذ تآزرهم في تسييساتهم الضئيلة واليومية، وفي استحالاتهم، التي كلما كانت من إبداعهم، تصلح للمواجهة أكثر. بعد ذلك، الخطاب، الذي ستؤلفه “الكتابة للهاربين”، يكون سلاح فرار، يشير إلى الحيوية على أرض الموت، ولا يغض الطرف عن الأذى الصادر عن رجوع الأبد.
ونافل القول إن أحد شروط تأليف خطاب المواجهة هو انشقاقه التام عن مقولات النظام، وفي الحالة السورية، يتعدى هذا الفعل موضوعه الأول إلى موضوع آخر، هو المقولات المتشعبة، والمتفرقة، التي غيرت الثورة إلى نظامٍ، حددت صورته مسبقاً، بمعزل عن أحوال الفارين عند خروجهم من أرض الأبد. وعندما انهارت تلك الصورة المجردة، بدأ الكلام عن “فشل الثورة” بالظهور والانتشار على متن كتابة ترفض التحول، لا سيما حين لا يناسب وصفها له. والحق، ان المقولات نفسها، التي أطلقت سلسلة “نثور بلا ثورة” تسمية “اللاممانعة” عليها، كانت قد انطلقت من “نجاح الثورة” قبل أن تستبدله بالإخفاق، فهي تنتقل، على الدوام، من وصف إلى نقيضه، ومن نظرة إلى عسكها على أساس ممكن مجرد.
وفي هذه الناحية، لخطاب المواجهة دور في تجاوز السؤال عن “فشل الثورة أو انتصارها”، لأنها، كحدث، ممثل في تحركات آذار 2011 الأولى، والذي خلق واقعاً جديدا للبلاد، انتهى بعد أن أنتج أحداثاً كثيرة ومتواصلة، لم تشكل نظاماً بقوانين واحدة. فمن البديهي الملاحظة أن الثورة أحداث، وليست معايير عامة، ولكل حدث حركته، ولامحتمله، الذي يستدعي صناعة الإمكان منه. وبعبارات أخرى، الثورة حصلت، وتتالت الأحداث من بعدها، ولا داعي للحكم عليها بالفشل أو الانتصار، إلا عند النظر إليها، من الأصل، كأنها ستحقق صورة مثالية عنها.
هجرة موت العالم
والحال هذه، أن مرد الحُكم اللاممانع على الثورة بالإنتصار، ثم الفشل، يعود إلى نظرتها إلى الأحداث، وتشميلها على الضد من النظام، بمعنى، أن الأخير هو الموت، والثورة هي الحياة. طبعاً، ليست الإشكالية هنا عباراتية بقدر ما هي فكرية، حيث إن تلك الثنائية تنسحب على أغلب المقولات، التي تنطوي على تقسيم الخير والشر، وما يلحقه من تصنيفات أخرى. إلا أن النظام يمثل الأبد، ويمارس التأبيد، وهو لا يمنع المحكومين من الحياة فحسب، بل من الموت أيضاً، لذا، كان الخروج عليه دخولاً في الموت، الذي يبدو، في هذا السياق، إلى جانب الهاربين، وليس ضدهم، خصوصاً حين يخلقون أحداثاً ومسارات لمبارحته. في النتيجة، تصعب مواجهة الأبد بالحياة إن لم يتوسطهما الموت كسبيل طويل وشاق، وليس كحفرة عميقة، الوقوع فيها، تنتج الفاشية أو ما يشبهها.
وكما هو معلوم، ان هذا السبيل خطير للغاية، خصوصاً أن الفارين فيه، يحملون جروحاً خلفها النظام فوق أجسادهم، أي أنها الباقية من ذواتهم القديمة، التي سقطت عند خروجهم من أرضه. هنا، نقع على مسألة الهوية الطائفية كجرح، برز بعد تكسير الجنزير المربوط فوقه، وكان من الضروري الشعور بألمه، التعبير عنه، ومن ثم البحث في معالجته. إلا أن النظام حاول بكل قوته العنيفة أن يختزل أجساد الهاربين بجروحهم، أي أن يدفعهم إلى الوقوع فيها والتنفس منها، وهي سرعان ما تلتئم وتقفل عليهم. وبذلك، ينمو في الجرح ذاتاً أخرى، موتية، متطرفة، تستخلص من الأبد موته، أو من النظام دولته. وهكذا، يتحرك الهاربون على أرض محاصرة من نظام الأبد (البعث الأسدي) ودولة الموت (الدولة الإسلامية)، من الأبد التمويتي والموت المؤبد، من العنف المستتر، الذي يخفي قتلاه، كأنه لم يغتال أحداً، ومن العنف الواضح، الذي يشهر قتلاه، كي يغتال أي أحد.
هذا، وتقع أرض الموت في جغرافية أوسع، شاركت أنظمتها وميلشياتها في قتل الهاربين مباشرةً، أو أنها غضت الطرف عن قتلهم. فلم يتدخل العالم إلى جانب الثائرين سوى لإحصاء القتلى، وضبط حركة اللجوء، وتثبيتها. وفي ذلك الحين، كانت جروح الهاربين تختزل أجسادهم، ما أدى إلى بروز التطرف، الذي سرعان ما جذب “تدخلاً خارجياً” من نوع آخر، هو النقيض الرسمي للتدخل العالمي الذي كان مطلوباً من أنظمة “الديمقراطية وحقوق الإنسان” أن تنفذه. إذ خرج من جغرافيتها عدوها الرسمي، أي المجموعات الجهادية الإسلامية، التي هاجرت إلى أرض الموت للـ”الجهاد في سبيل الله”.
نقل القتلى بصمت
وبذلك، كان موت الرأسمالية يهاجر إلى سوريا، هناك، حيث كانت صورته كافية لتسوغ التراجع عن التدخل الخارجي، الذي لم يحصل التقدم منه بالأصل. وعليه، كانت هجرة “موت العالم”، أي انتقال الجهاديين إلى الداخل السوري، تبرر ابتعاد “أبد العالم”، أي صمت الأنظمة والدول أمام المجزرة المستمرة بحق الناس. غير أن “الدولة الإسلامية” تمددت وقتلت ودفنت وأسرت، إلى أن اقتربت من مصالح عدوها الرسمي، الذي خرجت من أبده المتنقل، على شكل موت مهاجر. في النتيجة، وقع العالم في أزمة القضاء على الموت الذي يسوغ أبده، أو على صورة “الدولة” التي تسوغ صمت “نظامه”، فكيف يقتلع “داعش”، في حين تمثل نقيض تدخله ومبرر بُعده على حد سواء؟
وعلى مقلب متصل، عرف البعث كيف يخاطب الأنظمة الدولية بقاموسها، واصفاً حربه ضد الهاربين على أنها مكافحة للإرهاب. وقد نجح في الحفاظ على موقعه في النظام العالمي، الذي بدا أنه يماثله بشكل أو بآخر، ذلك، لدرجة أن المستشارة السياسة والإعلامية لبشار الأسد، بثينة شعبان، قد زارت النرويج في صيف العام 2014، أي بعد حوالي ثلاثة أعوام على بدء المجزرة، وعام على الإبادة الكيماوية. هذا، ودُعيت شعبان إلى مؤتمر، تنظمه وزارة الخارجية النرويجية بالتعاون مع مركز “الحوار الإنساني”، حول حل النزاع ومسارات السلام. مع العلم، أن المدعوة نفسها، هي صاحبة نظرية نقل قتلى الكيماوي، إذ قالت في إحدى مقابلاتها الإعلامية، إن المعارضة هي المسوؤلة عن الإبادة، بحيث “خطفت الأطفال والرجال من قرى اللاذقية وأحضرتهم إلى الغوطة، وقامت بوضعهم في مكان واحد واستخدمت ضدهم الأسلحة الكيماوية”. والعالم، آنذاك، قرر، بدل أن يعاقب المجرم المعروف، أن ينقل سلاح الجريمة، قبل أن يعود إلى صمته القاتل.
في الخلاصة، ما هي أفعال “خطاب الهاربين” الأساسية، والتي يحمل من خلالها المسؤولية أمام المحاصرين من قبل نظام الأبد ودولة موته وعالمهما؟ ينشق عن الممانعة، ولا ينفصل ضدياً أو عكسياً عنها، يستبدل الوصف بالتصوير، والتعالي بالمحايثة. ينتبه إلى تضاريس الأرض، أجساد وأمكنة، أكثر من التاريخ وعوداته، يصنع الممكن انطلاقاً من الواقع، وحفر السياقات داخله، وليس استناداً إلى صورة مثالية، يحاول تحقيقها في الحدث، وعندما يخفق في ذلك، يعلن فشل الحدث نفسه. لا يقدم حلولاً جاهزة، مهما تخففت خلاصيتها الدينية، لتصبح دينيوية، بل يجد أن للتجريب نفع أكثر من التأويل. يرصد آليات النظام وأنساقه ومكامنه وأفخاخه في العيش اليومي، سلوكياً واجتماعياً ولغوياً، محاولاً نسفها. يتحدث عن خطر رجوع الأبد إلى أرض الموت، بلا أن يقسم الأحداث ثنائياً على أساس الخير والشر، ويحدد مواقفه منها على الأساس نفسه، بالتشاؤم أو بالتفاؤل، بالتبرير أو بالإنكار، ثم التفجع والتخلي. ذلك انه في كل مرة يقع على ثنائية، يبددها بإحضار عنصر ثالث ورابع وخامس إلخ. في وسطها. خطاب لا يتعامل مع الثورة كنظام بقوانين، بل كتحول بمسارات، ولا يقيس زمنها بالأيام، بل بالأحداث. خطاب كلما شاهد نقطة نهاية، يستنتج خطاً جديداً منها، ويمده فوقها، ساحباً العالقين فيها.
انتهت السلسلة، من دون أن تُنجز. الآن، تأخذ حلقاتها شكل مسودّات، وتغادر إلى جغرافية كتابية أخرى
المدن