من أجل سورية المستقبل
عبدالعزيز التويجري *
ما يجري في سورية منذ خمسة شهور، من مواجهات قمعية للمتظاهرين السوريين يسقط ضحيتها المئات من القتلى والآلاف من المصابين والمعتقلين ومجهولي المصير، حالة لم يسبق لها مثيل، تحزّ في النفس وتدمي القلب، وتدعو إلى الخوف على مستقبل سورية. ولقد كان خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، رائداً في المبادرة التي اتخذها بتوجيه خطاب صريح جداً إلى الشعب السوري، طلب فيه من القيادة السورية وقف نزيف الدم فوراً ودعاها إلى الشروع في تطبيق إصلاحات شاملة سريعة. وقد تزامن هذا الخطاب التاريخي بحق، مع النداءات التي صدرت عن الأمين العام للأمم المتحدة، وعن الاتحاد الأوروبي، وعن الإدارة الأميركية وعن الحكومة الروسية. ثم بعد خطاب الملك عبدالله، توالت ردود الفعل من جامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، وعدد من دول الخليج العربية والمغرب العربي، في حركة تصاعدية تستنكر بقوة وصراحة ووضوح، ما يتعرض له الشعب السوري الذي خرج للشوارع والميادين، ولا يزال، يطالب بالحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية والحق في الحكم الرشيد. وهي مطالب سبق وأن وصفها الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد، ونائبه السيد فاروق الشرع، والمستشارة السياسية والإعلامية في رئاسة الجمهورية السيدة بثينة شعبان، ووزير الخارجية السيد وليد المعلم، بأنها مطالب محقة، أي مطالب مشروعة لا شك في شرعيتها ولا طعن في مشروعيتها.
إن العالم كله يستنكر بشدة ما يجري في سورية اليوم من أحداث بالغة الخطورة، من جراء ارتكاب جرائم وصفها أكثر من طرف من الأطراف الدولية، بأنها جرائم ضد الإنسانية.
والموقف الذي تتخذه دمشق من هذه الحملة الدولية التي تستنكر ما يجري في سورية، أقل ما يقال عنه أنه هروب من الحقيقة. وهذا يأتي في الوقت الذي تشهد المنطقة أحداثاً عاصفة كان من المفترض أن تكون موضع اعتبار ومبعثاً للتفكير في عواقب الأمور ولمراجعة السياسات المعتمدة التي ثبت فشلها في مواجهة مطالب الشعوب بالقتل والقمع والتنكيل، والمبادرة إلى الحوار الجدي والتفاوض المسؤول والإصغاء إلى صوت العقل ونداء الحكمة. ذلك أن المنطقة تغلي، بل العالم كله يغلي في هذه المرحلة، نتيجة للأزمة المالية العالمية التي انطلقت من الولايات المتحدة الأميركية، وانتقلت إلى أوروبا، وألقت بظلالها القاتمة على اقتصادات دول العالم أجمع، ومنها بطبيعة الحال الدول العربية. ولذلك فقد كان من الحكمة السياسية، أن تضع القيادة السورية هذه التطورات الخطيرة الإقليمية والدولية، في الاعتبار عند التعامل مع الأزمات التي تفتك بالبلاد وتهدد حاضرها ومستقبلها، سعياً وراء إيجاد حلول مقنعة وفاعلة، وتسويات مرضية تضع حدّاً للانفجارات المشتعلة القائمة، وللمشاكل الخطيرة التي تؤثر تأثيراً سلبياً على التنمية الشاملة المستدامة، وعلى حاضر سورية ومستقبلها.
ولكن دمشق لم تبد قدراً من الاستجابة للنداءات التي وجهت إليها للخروج من الأزمة الخطيرة التي تتفاقم وتتعاظم، وكان حرياً بها أن تولي خطاب الملك عبدالله بن عبدالعزيز اهتماماً خاصاً، وتدرسه بعناية. فهو أتاح الفرصة أمام القيادة السورية للتحرك السريع في الاتجاه الصحيح، وهو مبادرة سبقت المبادرة التركية التي لا يبدو في الأفق أنها ستنجح في تحقيق أهدافها. وتعرف سورية إخلاص الملك عبدالله بن عبدالعزيز في القول والعمل، ودعمه المتواصل لها على مدى عقود، منذ أن كان ولياً للعهد ورئيساً للحرس الوطني، وتعرف حرصه الشديد على سلامتها وأمنها واستقرارها.
إن من ينصح القيادة السورية في هذا الوقت العصيب، لا يتدخل في شؤونها الداخلية، ولكنه يقف إلى جانب الحق والعدل ومصلحة سورية والشعب السوري الذي يعيش محنة قاسية وتحاصره أزمة خطيرة للغاية من كل جانب، كما يحرص على سلامة الوطن واستقلاله ووحدة مواطنيه. والخطر كل الخطر من أولئك الذين يدفعون سورية نحو المزيد من القمع والقتل، ويستخدمون الورقة الطائفية خدمة لمصالحهم الإقليمية وتطلعاتهم التوسعية التي أصبحت واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.
إن سورية العروبة والإسلام، موطن الحضارات والثقافات، ومنبت العقول المبدعة في جميع فروع المعرفة في الماضي والحاضر، لا يمكن أن تستمر الأوضاع فيها على هذا النحو الخطير. ولقد آن للقيادة السورية أن تصغي لنداء الحكمة، وأن تراعي المصلحة العليا للوطن ولهذا الشعب صانع الحضارات، وأن تستجيب فوراً للإرادة الشعبية، وتذعن لمنطق الحق والعدل والقانون. فليس من مصلحة النظام السوري، بأي حال من الأحوال، أن تستمر هذه المجازر التي يرتكبها ضد الشعب، وأن يواصل ترديد المبررات التي لا يقتنع بها أحد، والتي يعرف العالم أجمع، ويعرف الشعب السوري قبل غيره، أنها مبررات تستند إلى ادعاءات باطلة وحجج متهافتة. فهذه هي الوسيلة الوحيدة، التي لا توجد وسيلة غيرها، لإنقاذ سورية من الكوارث الخطيرة المحدقة بها.
لقد آلمني أن أرى الدبابات والمدافع العسكرية والميليشيات المسلحة تقتل المواطنين الأبرياء وهم خارجون من المساجد في ليالي رمضان المبارك، في العديد من المدن السورية، وأن أرى المدافع تقصف مئذنة جامع عثمان بن عفان، رضي الله عنه، في دير الزور، في انتهاك فاضح لحرمة النفس المسلمة، وحرمة بيت من بيوت الله، وحرمة هذا الشهر العظيم.
لو استجابت القيادة السورية للنداء الذي وجهه إليها خادم الحرمين الشريفين، لكفت نفسها وبلدها وشعبها تجرع الغصص ومكابدة المشاق ومعاناة الآلام من جراء تفاقم المأساة المروعة التي يخشى أشد الخشية أن يتعاظم خطرها، لتنقلب إلى شبيه بما جرى في العراق وما يجري في ليبيا. وهذا هو المصير الذي لا يريده أحد من محبي سورية والحريصين على سلامة الوطن والشعب. إن كل ذي ضمير حي وانتماء حقيقي لهذه الأمة، يتطلع اليوم إلى وقف هذا الانهيار الذي لا تستحقه سورية، سورية المجد والتاريخ والعطاء الكبير.
* أكاديمي سعودي