من أنطاكيا إلى باب الهوى/ ياسين السويحة
صور: شيرين الحايك
لأنطاكيا موقع خاص في خارطة ارتداد مفاعيل الثورة السوريّة على الجنوب التركي، نزوحاً وسياسةً وأمناً. من جهة، هي ملجأ لآلاف السوريين الهاربين من الجحيم المسكوب على بلادهم، خصوصاً حلب وإدلب والجزء الشمالي من الساحل السوري، وهي المركز المديني الأقرب للريحانية وأطمة، اللتين تشهدان تمركزاً كبيراً للاجئين وللمنظمات الإنسانية والإغاثية، واللتين تشكّلان نقطتي تماس وتبادل مع الداخل السوري. ومن جهة أخرى، تشكّل أنطاكيا، التي يعود حوالي نصف سكانها إلى أصول علويّة، النموذج الأكثر صخباً للمسألة العلويّة في تركيا، وهي المسألة التي تصاعدت في السنوات الأخيرة، ضمن سجال عام يخصّ وضع الهويّات القومية والطائفيّة في تركيا، ومطالباتها بالاعتراف بها وبحقوقها الثقافية والدينية بعد عقود من الصهر القسري، ثم أتت الثورة السوريّة كعنصر إضافي لشدّ عصب التعريف الهويّاتي العلوي على الجانب السياسي. اللغة العربيّة هي أحد العناصر الهامّة التي يتمسّك بها علويو لواء اسكندرون، وإقرارها في التعليم مطلب أساسي لهم، وقد نما استخدامها في السنوات الأخيرة، خصوصاً بين الشباب، مع الاستيقاظ الكبير للهويّة العلويّة في أنطاكيا وما حولها، وبات التحدّث بها رمزاً لتعريف العلوي عن ذاته. لا تخلو المظاهرات المطلبيّة للعلويين في أنطاكيا من شعارات متفاوتةِ الحدّيّة ضد «الحرب على سوريا» وضد دعم حكومة رجب طيب أردوغان لـ«المتطرفين الإسلاميين» السوريين، وصولاً إلى رفع شعارات داعمة للنظام، مع أعلام الوحدة وصور لبشار الأسد، كما أن طروحات وقف الطائفة العلوية في أنطاكيا ‒ممثّلاً برئيسه علي ييرال‒ منحازة لصالح النظام بشكل تام، ولا تخلو من سلبية وعدوانية تجاه اللاجئين السوريين، في خطاب وصل إلى حدّ المطالبة بنقل اللاجئين السوريين من أنطاكيا إلى مناطق أخرى.
الحضور الاقتصادي السوري في أنطاكيا
كما في أغلب مناطق اللجوء السوري، يلاحظ الزائر وجود السوريين عبر نشاطهم التجاري، من مطاعم صغيرة ومتاجر وورش. ينتشر السوريون تجارياً في عموم مناطق مدينة أنطاكيا، وإن ازدادت وتيرة ملاحظتهم كلّما ابتعد المرء عن مركز المدينة التجاري والسياسي، خصوصاً باتجاه الشرق.
لا تكثر المشاريع التجارية السوريّة الصرفة في مركز المدينة، أي في كورنيش العاصي والسوق المسقوف، لكن وجود عمّال وموظفين سوريين في المتاجر والمطاعم التركية كثيف، كما أن أغلبية الباعة المتجولين في هذه الشوارع، المكتظّة عادةً بالمتنزّهين والسيّاح، سوريون. إشارات «هنا نتكلّم العربيّة» على واجهات المحلّات منتشرة بكثرة، بدءاً من مركز لشركة تُركسِل للهواتف الخلوية، وصولاً لأصغر محلّ كنافة، لكنها عامل جذب للسياح العرب بقدر ما هي جاذبة للسوريين المقيمين في أنطاكيا.
على بعد مئات الأمتار فقط من مركز المدينة، تبدأ مظاهر سوريّة أكثر شعبيّة بالظهور، ولا سيما فيما يخص المنتجات الغذائية ونمط مطاعم المشاوي والفلافل. بضاعة الكثير من البقاليات سوريّة بغالبيتها، كالمرتديلا والزعتر والشاي، حتى لو لم يكن صاحب البقاليّة سوريّاً. الكثير من المطاعم يديرها سوريون، والمطاعم التركيّة تعلّق لوائح أسعار بالعربيّة، وغالباً ما يعمل فيها على الأقل سوريّ واحد يستطيع التفاهم مع الزبائن السوريين.
في الضواحي الشرقيّة ‒خصوصاً في ’نارلجا‘‒ حيث يبدأ الطريق الدولي الواصل بين أنطاكيا والريحانيّة-معبر باب الهوى، تبدو الشاخصات الطرقيّة المشيرة إلى حلب تمثيلاً رمزياً لما في هذه الأحياء، حيث تقطن النسبة الأكبر من السوريين المقيمين في أنطاكيا، ويلاحظ المارّ فيها نشاطاً تجارياً وصناعياً (ورش حدادة، ميكانيك سيارات…) سوريّاً صرفاً. في دوّار ’ألتينوز‘، المستديرة الخضراء التي يبدأ عندها الأوتوستراد، يتجمّع عشرات الشبّان السوريين فجر كلّ يوم انتظاراً لمتعهد بناء أو صاحب مصلحة زراعيّة يحتاج لعمال مياومين.
أحمد ح. سائق سيارة أجرة غير نظامية، بلوحة سوريّة، يقطن قرب «دوّار العمّال» كما أسماه. يعمل أحمد على خط أنطاكيا-الريحانيّة-المعبر الحدودي، بكلفة أقل من سيارات الأجرة التركيّة، ويوزّع رقم هاتفه على كلّ سوريّ يركب معه، عارضاً خدماته للتوصيل إلى أي نقطة وفي أي ساعة في اليوم، كما يعرض استعداده رحلات أبعد تصل إلى غازي عينتاب. أحمد من ريف إدلب، وقد مضى على خروجه من سوريا حوالي سنة، ويشرح أنه، عدا عمله كسائق أجرة، يتعامل مع مزارعي زيتون أتراك، نظراً لخبرته في هذا المجال. يروي ضاحكاً أن «شركاءه» علويّون، يدافعون عن نظام بشار الأسد، ويرون، ارتكازاً على تاريخ المعاناة العلويّة في تركيا، أن الثورة السوريّة ليست إلا مخططاً إسلاموياً لمذبحة علوية كبرى في سوريا. مع ذلك، يقول أحمد، المنحاز للثورة بحماسة، إن علاقته الشخصية جيّدة معهم، وهو يتجنّب الحديث في الشأن السوري معهم حفاظاً على العلاقة الشخصية والعمليّة. «بالنهاية أنا لاجئ في ديارهم، وآكل من عملي معهم»، يُكمل.
على أن الأثر الاقتصادي للسوريين في أنطاكيا لا يقتصر على نشاطهم التجاري والصناعي الخاص، ولا على تكيّف الأتراك اقتصادياً مع وجودهم كزبائن وقوّة شرائيّة، بل هناك، أيضاً، آثار واضحة للوضع الداخلي السوري، سياسةً وحرباً، على نمط النشاط الاقتصادي في أنطاكيا. محمود ب. صاحب مطبعة «أوفست» وصانع أختام، تقع مطبعته على بعد أمتار قليلة من أحد مخارج السوق المسقوف وسط أنطاكيا. واجهة محلّ المطبعة مليئة بنماذج أعلام صغيرة ‒من تلك التي توضع على المكاتب وطاولات الاجتماعات‒ بألوان ورموز كتائب وألوية سوريّة، وهي نفسها النماذج التي يعرضها على أيّ زبون يدخل متجره للسؤال عن كلفة طباعة الأعلام.
على الطرف الآخر من السوق المسقوف، في «شارع الاستقلال»، الذي ينتهي عند كراجات الريحانيّة، تصطفّ عدّة متاجر تركيّة متخصّصة في «المستلزمات العسكريّة» وتعلن عن نفسها بوضوح باللغة العربيّة. فيها ‒باستثناء السلاح والذخيرة‒ كلّ ما يلزم لتجهيز كتيبة مسلّحة: نواظير تيليسكوبية، خوذات، واقيات رُكب، جُعَب، قبضات «ووكي توكي» تُشير أغلفتها والبطاقات المعروضة عليها أن نظام تشغيلها عربيّ، أبواط عسكرية من مختلف الأنواع، حِبال، وألبسة مموّهة وقبّعات.. وهناك أيضاً نماذج جاهزة لسترات وقبعات مطرّزة بـ«راية التوحيد» السوداء. على نفس صفّ محلات المستلزمات العسكرية، نجد محلات عديدة متخصصة في صيانة وبرمجة قبضات الووكي-توكي وقواعدها، أو في بيع وصيانة أجهزة الإنترنت الفضائي، ويتخصص أحدها ‒كما تشير اللافتة العربيّة أعلى مدخلها‒ في راوترات تعمل على الطاقة الشمسيّة.
ليس هذا النمط من المتاجر حكراً على أنطاكيا، فهو موجود بكثافة في المناطق الحدودية الأخرى، لكن وجودها في الشارع الموازي لمكان مرور مظاهرات كثيرة تعادي الثورة وتدعم نظام بشار الأسد هو تمثيل لموقع أنطاكيا الخاصّ والمعقّد.
الريحانيّة
بأربعين دقيقة تقريباً تجتاز السيارة الأوتوستراد بين أنطاكيا ودوّار «البِركة» ‒ كما يُسمّيه السوريون، وهو الدوّار الذي ينظم السير بين الاتجاه يساراً نحو مركز الريحانيّة وإكمال الأوتوستراد باتجاه معبر باب الهوى. تتتابع المشاهد «السوريّة» فيه، فالناظر باتجاه اليمين، أي باتجاه الشريط الحدودي الظاهر للعيان على بعد 200-300م في مقاطع عديدة من الطريق، سيرى مخيّم العسكريين المنشقّين، والذي تحيط به إجراءات أمنية مشدّدة؛ كما سيرى مركبات «الجندرمة» تحرس المفرق المؤدي إلى قرية ’الحامضة‘، التي تقابل ’حارم‘ على الطرف الآخر من الحدود، لمحاولة منع تهريب المحروقات. هذه النقطة هي التواجد الأمني المهم الوحيد الذي سيشاهده المرء على الطريق في الأيام العادية. بعد ’الحامضة‘ بقليل، يكاد الشريط الحدودي يلتصق بالطريق، ويُشاهد، على الجانب السوري، محرس صغير يعلوه علم الثورة.
قبل الوصول إلى دوّار البِركة بقليل، يمكن ملاحظة مجموعة عنابر بيضاء مسبقة الصنع، عليها لافتة ضخمة تشير إلى أنها ’تجمّع السلام السوري‘. يُشرف الشيخ عدنان العرعور على التجمّع، ويظهر اسمه على كلّ اللافتات، كما على أكياس الدواء الذي تصرفه صيدلية التجمّع للسوريين بالمجّان. يتشارك ’تجمّع السلام‘ مع دار الاستشفاء التابعة لمؤسسة ’أورينت‘ في تغطية القسم الأكبر من الخدمات الطبّية للسوريين، وتوجد مشافٍ ومستوصفات سوريّة أصغر في مدخل الريحانية، مثل ’مشفى الدكتور نجار‘ و’هيئة إغاثة سوريا‘.
يصعب على المتجوّل في الأوتوستراد الواصل بين دوّار البِركة وساحة البلدية في وسط الريحانيّة أن يجد متجراً أو مطعماً غير سوري في الشارع كلّه. أبو يحيى، وهو بائع متجوّل يعرض بضاعته قرب ساحة البلدية، يجيب ساخراً على السؤال حول منطقة تمركز السوريين: «اسألني عن منطقة الأتراك أسرعلك!». يبيع أبو يحيي، بالإضافة للتبغ المهرّب، أكياس شاي ومتّة سوريّة، بالإضافة لعدّة أنواع مرتديلا سوريّة ومعجون «هامول» للحلاقة. المنطقة «التركيّة»، كما تندّر أبو يحيي، هي مركز الريحانيّة، حيث فروع البنوك ومكتب البريد. كما في حالة أنطاكيا، وإن بكثافة أعلى، تحوي المحلات والمطاعم التركية عمالاً سوريين، كما يكثر الباعة المتجولون السوريون في ساحات وسط الريحانية الثلاث، وأغلبهم يعرض بضاعة سوريّة صرفة، مشابهة لبضاعة أبو يحيى.
في إحدى ساحات الريحانيّة، يرتفع نصب جديد على شكل برج ساعة، أعلاه قائمة بأسماء ضحايا تفجيرات الريحانية الـ٥٢. حصلت التفجيرات في 11 أيار الماضي، وعاش مقيمو الريحانية السوريون أياماً عديدة من الرعب بعدها، إذ عانوا من موجة غضب تركي استهدفتهم كأشخاص، كما حطّمت الكثير من المتاجر والسيارات السوريّة. يروي العديد من المقيمين في الريحانية أن المخاتير اضطروا لتوزيع الأغذية والخبز على السوريين بيتاً بيتاً لتجنيبهم الخروج إلى الشوارع. هدأت موجة الغضب والاعتداءات بعد أيام، ونشطت الكوادر المحلّية في ’حزب العدالة والتنمية‘ في جهود التهدئة، خاصةً بعد أن صرّح رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، متهماً النظام السوري ومتعاونين معه بوضع السيارات المفخخة، وبعد أسابيع عديدة أيّد القضاء التركي تصريح أردوغان هذا، مصدراً اتهاماً بحق أكثر من ثلاثين شخصاً، ومعتبراً أن معراج أورال هو العقل المدبّر للتفجيرات.
على عكس أنطاكيا، حيث ساهم استخدام المعارضة التركيّة الموضوع السوري، وتبعات «تورط أردوغان في الحرب السوريّة»، في حشد ما يكفي لهزيمة ’العدالة والتنمية‘ في الانتخابات البلدية الأخيرة، يحظى حزب أردوغان بشعبية عالية في الريحانية، حيث فاز بأكثر من خمسين بالمئة من الأصوات في انتخابات 30 آذار الماضي.
معبر باب الهوى
يبعد معبر باب الهوى بضعة كيلومترات عن الريحانيّة، ويشهد عادةً حركة كبيرة للمسافرين والبضائع، إذ إنه متاح للركاب والشاحنات على حدّ سواء. تسيطر ’الجبهة الإسلامية‘ على الجانب السوري من المعبر، وهي المكلّفة سورياً بتنظيم عمل المعبر. رغم أن الزيارة صادفت يوم جمعة إلا أن رتل الشاحنات التي تنتظر إنهاء إجراءات العبور إلى سوريا امتد بحدود 2كم، فيما يخبرنا أحد المقيمين في المنطقة الرتل أنه، في أيام الأسبوع، يمكن أن يمتد أضعافاً حتى الوصول إلى ’دوّار البِركة‘. القسم الأكبر من الشاحنات الموجودة وقت الزيارة كانت محمّلة بالإسمنت وموادّ البناء.
حال وصول سيارة إلى باحة المعبر، يلتفّ حولها الحمّالون، عارضين عرباتهم وعضلاتهم للخدمة بإلحاح شديد، وتدور مشاحنات وشجارات كثيرة بين الحمّالين على «زبون»، وكذلك بين سائقي سيارات الأجرة المصطفّة بانتظار القادمين من سوريا. يشكو بعض مستخدمي المعبر من حالة الفوضى هذه، كما يحدّثنا أحد العابرين عن سرقات وبلطجة وأتاوات، خصوصاً في الأيام المزدحمة. عروض «التهريب» تُلقى على أي واصل إلى ساحة المعبر، حتى أمام سيارة الشرطة الوحيدة ذلك اليوم، المركونة بجانب منصّف الطريق.
ذلك اليوم، كانت حركة الدخول إلى سوريا أكثر كثافة من الخروج منها. أغلب الداخلين هم مجموعات شباب، مع بعض العائلات، محمّلين بأمتعة خفيفة على الأغلب. إحدى مجموعات الداخلين مكونة من أربعة معلّمين ومعلّمة في إحدى المدارس السوريّة في المنطقة، وكانوا متوجهين إلى ريف إدلب لزيارة بيوتهم وأقربائهم لبضعة أيام.
يروي أحمد م، وهو ناشط من إدلب كثير التنقّل عبر معبر باب الهوى، إن تهريب الأفراد عبر المعبر شائع، ويجري بالتواطؤ مع بعض عناصر الشرطة التركيّة مقابل حوالي 100 ليرة تركية (50 دولار). لكن أسلوب المرور «غير الشرعي» الأكثر لفتاً للانتباه يحدث غير بعيد عن باب الهوى، إذ تُستخدم، في منطقة ’حجّي باشا‘، وعاء معدني ضخم، يُستخدم للطبخ في الولائم الكبيرة، ويُدعى «حلّة»، كعبّارة تقطع نهر العاصي من ضفّته السوريّة إلى الجانب التركي. علاء، وهو شاب من ريف إدلب وصل إلى تركيا عابراً «الحلّة»، يقول ضاحكاً إن بعض الأتراك يتمنى لو يستخدم «الحلّة» لطبخ اللاجئين السوريين بعد سلخ جلودهم، ويحاول تصنّع الجدّية قبل أن ينفجر ضاحكاً مجدداً وهو يقول إن الوضع في لواء اسكندرون «يغلي في الحلّة» فيما يخصّ السوريين. أخيراً، وبجدّية حقيقة وقلق، يقول إن الوضع الحالي «غير سيء»، لكنه يخشى ردود أفعال ضدّ السوريين مشابهة لما حدث في الريحانية أواسط العام الماضي في حال حصلت اختراقات أمنية مجدداً. هذا، برأيه، ما يحاول النظام افتعاله، وتحاوله «داعش» أيضاً.
موقع الجمهورية