صفحات الناس

من الرقة وإليها… خطوط الهجرة مزدحمة في الاتجاهين/ مصطفى الجرادي

 

 

في الرابع من شباط (فبراير) 2014 خرجتُ من قريتي الصغيرة «بندرخان» حاملاً حقيبتين إحداهما محمولة على كتفي، والأخرى كنت أجرّها ولا يزال صرير عجلاتها على الطريق الإسفلتي يرنًّ في أذني. يومها التفتُ خلفي وألقيت نظرةً على بيوت القرية الصغيرة ربّما تكون الأخيرة. كان المُقام موقتاً. شهران أو يزيد لكنّ الشهرين تحوّلا إلى سنتين وربّما أنسى تعداد الأيام التي سأقضيها في هذا الشتات أو المنفى أو المهجر أو أياً كان اسمه.

بعد تنسّم مدينة الرقة عبير الحرية في ربيع 2013 أحس أهلها بانتماءٍ خاص لها. امتلكوا فضائها العام، تعرّف ثوارها الذين كانوا يعملون بالسر أو بالأسماء المُستعارة على بعضهم بعضاً، ازدهر العمل المدني فيها وتعددت التجمعات والمنظمات العاملة ضمن هذا الإطار حتى وصلت زُهاء الأربعين، أدرك الشباب للمرة الأولى بأن هذه الأرض هي أرضهم وليست «تركة للوريث القاصر». نظفوا شوارعها بأيديهم وزيّنوا جدرانها بأعلام ثورتهم. غنَّوا في ساحاتها للحريّة وهتفوا باسم المدن السورية والحارات الثائرة، كانوا يرون فيها مرآة لسورية المستقبل، سوريّة التي حلموا بها.

فرحةُ الشباب بطفلتهم المُدلًّلة الرقة لم تدمْ طويلاً. أربعة أشهر كانت كفيلةً بأن تكشف لهم واحداً من أسوأ كوابيسهم. «داعش» الذي بدأت أنيابه تظهر وتقوى شوكته في النصف الثاني من 2013، وبدأ يفرض سطوته رويداً رويداً فكانت أول تجليّات هذه السيطرة وممارسة الإيديولوجيا المتطرّفة على أرض الواقع اختطاف الكثير من النُشطاء الفاعلين في الشأن العام.

ولم يقتصر الأمر على المدنيين، بل تعداه الى خطف قادة ميدانيين حيث شكل اختطاف قائد لواء أمناء الرقة عبدالمجيد العيسى «أبو طيف» لحظة مفصلية، كرّت بعدها السُّبحة ليتوغل «داعش» ويمعن في تغييب الشباب البارز ويكمَّم الأفواه. ولعل الحادثة الأبرز التي قصمت ظهر البعير ودقت ناقوس الخطر كانت اغتيال الناشط مهند حبايبنا في 21/10/2013 فوصلت الرسالة في شكل واضح لشباب الرقة بضرورة إخلاء الساحة والتنحي جانباً وإلاّ فإنهم سيلقون مصائر مُشابهة لرفاقهم الذين أصبحوا بين شهيدٍ ومُختطَف. هكذا، بدأت الهجرة الاضطرارية لثلّة من الشباب الذين كان لهم أدوار بارزة في تحرير المدينة ومحاولة رسم الحياة بعده.

التغريبةُ الأولى لشباب الرقة كانت مواقيتها مختلفة، فالبعض بدأ رحلته مبكراً نسبياً في 2013 بعد محاولات اختطاف فاشلة، فيما البعض الآخر توارى. مرّت الأيام وطال المُقام بهؤلاء الشباب وتقطًّعت بهم السُبل في المنفى ولم يعودوا قادرين على تدبّر احتياجاتهم اليومية الكفيلة بأن تُبقيهم قريبين جغرافياً من ديارهم. فاضطرّ الشباب عندها لأن يبدأوا الجزء الثاني من رحلة المنافي المتلاحقة، فكانت الوجهة أوروبا وطبعاً لم تكن هذه الرحلة ميسرة وسهلة، فالكثير من الأخطار تحدق بها، والقسم الأعظم منهم بالكاد تدبر تكاليفها.

لم تتكللْ كلُّ الرحلات باتجاه أوروبا بالنجاح وهنا تُذكر قصة ثلاثة من أبناء الرقة (بسام السعيد – محمود الشنان – فراس النايف) الذين جمعهم المنفى التركي والإبعاد «الداعشي» عن مدينتهم، فقرّروا خوض المغامرة سويّاً. بدأت رحلة الرفاق من عينتاب التركية قاصدين إسطنبول ليخرجوا من مطارها باتجاه الجزائر ومنها تهريباً إلى تونس عبر الصحراء. وفي مدينة بنقردان التونسية حصلت المفاجأة، اذ داهمت الشرطة التونسية الفندق الذي كانوا يقيمون به ولاذ الثلاثة بالفرار. شاءت الصدف «البوليسية» ان تصدم سيارة بسام أثناء فراره من الشرطة ليلاقي منيته في أرض غريبة من دون ان يتمكن رفيقاه حتى الاقتراب من جثته أو توديعه.

بعد هذا الحادث المروع تابع الصديقان مكرهين ومثقلين بالحزن طريقهما إلى ليبيا وانتظرا المركب الذي سيوصلهم إلى إيطاليا، ثلاثة أيام بعد صعودهم المركب ولا خبر عنهما. في اليوم الرابع تضاربت الأخبار بين أنباء عن وصول محمود سالماً الى الشاطئ الإيطالي وغموض يلف مصير فراس. ثم تتضح الحقيقة بوصول فراس إلى إيطاليا وانقطاع أخبار الرفيق الثاني الذي اختفى أثره تماماً وأصبح في ذمة الله.

الهجرة المعاكسة

فيما شباب الرقة وأهلها يغادرونها مُرغمين، كانت هجرة أخرى تتم بالاتجاه المعاكس من أوروبا إلى تركيا ومنها إلى عاصمة «الدولة الإسلامية»، الرقة التي أعلنها تنظيم «داعش» مركزاً له بعدما سيطر عليها وطرد الفصائل المقاتلة منها.

كانت تركيا وجهة «المجاهدين الأوروبيين»، فهم كانوا يقصدونها بحجة السياحة فتنتظرهم الشبكات الجهادية التي تؤّمن انتقالهم واحتياجاتهم كافة ليعبروا الحدود التركية من طريق التهريب ومنها إلى الرقة كي يمارسوا دورهم المزعوم في الذود عن الدين والهجرة من «بلاد الكفر» إلى «أرض الإيمان والجهاد».

وبدأ الترويج والتبرير لهذه الهجرة من منابر المساجد التي احتلها خُطباء «داعش»، قرّعوا الناس لعدم انضمامهم لـ «داعش» ومنُّوا عليهم أنهم تركوا حياة الرفاه في بلادهم وبأنّ الكثير من حملة الشهادات العليا تركوا مناصبهم وجاؤوا لنصرة «الدين الحق». ويُذكر هنا أن عناصر «داعش» كانوا يعتبرون أنفسهم «نخبة الجهاد العالمي» على عكس أقرانهم في جبهة «النصرة» التي كان يغلب عليها الطابع المحلي.

وفي قصص الهجرة العكسية يروي أصدقاء عن عائلة «مُهاجرِة» قدمت من داغستان، عناء السفر الذي استمرّ قُرابة شهر ونصف الشهر عبروا خلالها جبالاً مرتفعة لتصل الى تركيا ومنها الى سوريّة تهريباً من مدينة تل أبيض. وعلل أفراد هذه الأسرة خيارهم ذاك بـ «كون الدولة الإسلامية أُعلنت وأضحت أمراً واقعاً فالتخلف عنها يجعل المرء آثماًًًً». وفي المقلب الآخر اشتملت هذه الهجرة على كفاءات علمية كـ «أبو عبدالرحمن الاسترالي» الذي أصبح مسؤول المعالجة الفيزيائية في مستشفى الرقة الوطني وأحد الفرنسيين من أصل تونسي الذي يحمل دكتواره في الاتصالات وأصبح مدير البريد في الرقة وحاول استحداث رمز خاص، بحيث يصبح على المتصل من حلب للرقة أن يضغط رمزاً دولياً خاصاً بدولة «داعش».

ويبرر أمثال هولاء من أصحاب الكفاءات مغادرة بلدانهم والهجرة الى الرقة بالعمل على استخدام تحصيلهم العلمي العالي ووضعه في خدمة الإسلام ودولتهم على حد زعمهم.

ومن أبرز الحجج التي يتبجَّحُ بها «مُهاجرو داعش» هي «سُنّة الاستبدال» التي تستند إلى الآية القرآنية (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) وهذا الكلام قاله: «أبو القعقاع الألباني» لمجموعة من شباب الرقة رداً على سؤالهم له لماذا تركت بلادك وأتيت لتحاسبنا؟ فكانت إجابته حادة ومُفادها أن «هذه أرض الله عز وجل ونحن وجدنا بها لأننا أكثر خلق الله استحقاقاً أن نوجد في أرض الخلافة وندافع عنها». وفي السياق ذاته يروي أحد شباب الرقة الذي خرج منها منذ بضعة أشهر، أنّ عناصر الحواجز على الطريق الواصلة بين الرقة والحدود التركية كانوا يقولون لهم: «نحن ندفع النقود ونترك بلاد الكفر وأنتم تخاطرون بأرواحكم وتنفقون أموالكم كي تصلوا إليها وهذه سنة الله ماضيةُ في خلقه (مُشيراً لسنة الاستبدال)، وأنّكم لن تضرونا شيئاً فبدل الواحد الذاهب منكم سيأتي مئة آخرون ولن تضرَّوا الله شيئاً».

وعلى رغم كلِّ التطورات المتسارعة التي تشهدها سورية عامة والرقة بخاصة، لا تزال الهجرتان مستمرتين وإنْ بوتيرةٍ أقل. فالكثيرُ من الشباب الصابر على حيف «داعش» وظلمها يبقى متشبثاً بأرضه الى اللحظة الأخيرة إلى أن يُضطر لترك بلاده والتوجه الى أوروبا ليصون حياته. وفي الوقت عينه يحاول المناصرون لهذا الفكر المتطرف الولوج لدولتهم المزعومة على رغم كل الإجراءات والرقابات الأمنية الصارمة.

وبين الهجرتين تبقى الأصعب تلك «الهجرة الحلم» التي قد تعيد الشباب الى مدينتهم وفراتهم الذي يعشقون. فالبعض لم يتوان عن العودة من تركيا الى الشمال السوري أملاً في تغير موازين القوى باتجاه القضاء على «داعش»، بينما يتحين القسم الآخر اللحظة ليترك «النعيم الأوروبي» الالزامي، فيكحل عينيه برؤية أرضه.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى