من الكِتاب إلى المقال… في نسق الفكر المتجدِّد/ يحيى بن الوليد
يقول المؤرّخ والمفكر المغربي عبد الله العروي في حوار معه: “ما يُكتب في مؤلف قضى صاحبه سنوات في تحريره وتنقيحه لا يمكن أن يُساوى مع ما جاء في استجواب أو في مقالة كتبت على عجل أو بطلب من الغير”. وهذا ما يبرّر إقدام العروي على نشر مقال واحد في حياته، ولمناسبة المساهمة في كتاب (جماعي) “بناء الدولة الحديثة بالمغرب” (بالفرنسية، 1986). مقال قصير، وكثيف، لم يتنازل العروي فيه عن “عرش التحليل الثاقب”، وكما لم يُفوّت فيه فرصة تسريب فكرة الدولة الحديثة التي تحمي من الانفجار الاجتماعي. وبسبب من هذا المقال تمّ انتقاد العروي، وبشكل لاذع، بالنظر لـ”انتظام” المقال، وفي منظور قراءات نقدية حدِّية ومعارضة، ضمن “صور المثقف المهادن”. ومعنى ذلك أن صاحب “الإيديولوجيا العربية المعاصرة” ليس من الصنف الذي يستقر على أهمية “قناة المقال” في “التعريف والتصريف” لـ”التاريخانية” التي رفع رايتها لما يزيد عن نصف قرن من الزمن. إلا أن موقف العروي هذا، ومن حيث هو موقف “معاكس” للمقال، يبدو دالاً على نمط من المفكرين والمثقفين الذين لا يمكن مقارنتهم بالغالبية العظمى من المتعاطين للفكر في مجالاته المختلفة والمتنوّعة من الذين يعتقدون في جدوى “النزول” إلى أرض المقال من أجل صياغة أفكارهم ومن أجل تبليغها عبر المقال الذي يضمن مخاطبة أكبر عدد ممكن من المجموعات القرائية في سياقاتها الثقافية والاجتماعية المختلفة.
و”قيل إنه يَكـتُب مقالاً من كانت عنده فقرة ليقولها، ويؤلف كتاباً من كان عنده فصل ليكتبه”. ومن جهتنا لا نعتقد في تلخيص المقال في فقرة أو فكرة محدّدة، وهذا بالرغم من ضرورة الفكرة (النابهة) حتى لا يتحوّل المقال إلى مجرد “حديث”. فالمقال، وعلاوة على ارتكازه على جمالية الكتابة ودونما تنازل عن الأسلوب التحليلي، يقوم على نسق مخصوص يمكن الاصطلاح عليه بـ”النسق المقالي” بالرغم من التباعد الذي يبلغ حد التنابذ كما يظهر في المواضيع والأسماء التي تتعاطي لها المقالات حين تجمع بين دفتي كتاب. ولعل هذا النسق هو ما لا يجعل من كلّ ما يكتب تحت مسمّى المقال مندرجاً، ومن باب صلة المعلول بالعلة، ضمن المقال؛ ذلك أن المقال يظل مشروطاً باشتراطات معرفية وتوابل ثقافية وخواص أسلوبية جمالية… لا نعثر عليها في هذا السيل الجارف من المقالات “المنمَّطة” التي تطالعنا يومياً.
وثمة من انخرط في المقال عبر مساره الفكري والثقافي وحتى الأكاديمي. والدليل على ذلك الأكاديمي الأميركي والمفكر الفلسطيني الأشهر إدوارد سعيد (1935 ــ 2003) الذي سبق له أن أكد، في حوار معه، أنه باستثناء كتابه “الاستشراق” 1978فإن باقي كتبه ــ وبما في ذلك المندرجة ضمن الآلة النقدية الأكاديمية الثقيلة ــ عبارة عن مقالات. وثمة، وفي إطار من الوعي بالسياقات المتبدّلة والمتغايرة، والمتدافعة، وفي إطار من الوعي بأهمية “التبسيط” (Simplicity) الذي لا يعني نزعة التبسيط (Simplism) (كما في التقليد الفكري الأنجلوسكسوني)، من اضطر للنزول إلى المقال من أجل مواصلة الكتابة والإضاءة لمشروعه أو خطابه… وذلك كلّه بالاعتماد على لغة أخرى بإمكانها مخاطبة أكبر قدر ممكن من المجموعات القرائية التي لا تتساوى في التحصيل المعرفي وفي مكاسب الدرس الأكاديمي المتجدِّد. والمثال على ذلك المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري في سلسلة “مواقف ــ إضاءات وشهادات” وفي شروحه لفلسفة ابن رشد التالية على “مشروع نقد العقل العربي” وفي كتاباته عن المثقف في التراث أو “الحضارة العربية الإسلامية” بتعبيره، وفي جميع هذه الكتابات خفَّف من الطابع الحدِّي لآلة التحليل الإبستيمولوجي، والمثال كذلك المفكر المصري الراحل (بدوره) نصر حامد أبو زيد في مقالات “التفكير في زمن التكفير” التي عرض فيها لـ”أفكاره الجريئة” التي كانت سبباً ــ مباشراً ــ في تهديده بالتصفية الجسدية بمعناها الحرفي وتالياً في إرغامه على الرحيل إلى الغرب (الرأسمالي) لمواصلة مشروعه الفكري من منظور “العقل المهاجر”، وكذلك الناقد السعودي الشهير محمد عبد الله الغذامي في كتابه “اليد واللسان” الذي يتيح إمكاناً آخر لتدبّر موضوع النقد الثقافي من خلال مقالات “مرِحة” (إذا جاز التوصيف النتشوي)… إلخ. ولمّا نحيل على هذه الأسماء الدّالة، وغيرها وارد ومؤكـد، فإننا نفكّر في صنف المقال “المضغوط والمكثف” كما عبّر عنه سونيل خيلناني في كتابه “فكرة الهند” 2009. ونفكر في المقال الذي هو مرادف، وبأكثر من معنى، للفكر (المتجدِّد) ذاته في بنياته وتياراته وإبدالاته.
واللائحة، المتعلّقة بالذين كتبوا المقال، وعكسوا “مهارة المقال”، دالّة ومتنوعة. والمثال على ذلك كارل ماركس وأدورنو وأورباخ وفالتر بنيامين وجان جنيه وألبير كامو وغليفورد غيرتز وإرنست غيلنر وخوان غويتسلو… وغيرهم. وهذا لكي نركز فقط، وعلى سبيل التمثيل لا أكثر، على الفلاسفة والمفكرين والنقاد بدلاً من كتّاب الرأي من الذين ينشرون مقالات تظل، كما في وقتنا الحالي، رهن إشارة المساهمة في صنع القرار أو توجيهه أو التأثير فيه من أمثال توماس فريدمان ودانييل بايبس… وغيرهم.
وكما قال جان جينه مرّة: “في اللحظة التي تكتب فيها مقالاً فإنك تدخل الحياة السياسية”. ومن الناحية الأخيرة ثمة أكثر من كتاب يمكن النظر إليه باعتباره امتداداً لمقال أو أن نواته تمثلت في مقال. والمثال على ذلك كتاب صامويل هنتغتون “الموجة الثالثة التحوّل الديمقراطي في أواخر القرن العشرين” 1991 الذي بدأ كمقال نشر في “نيويورك تايمز” ثم تطور كفصل في كتاب ثم ارتقى إلى كتاب مستقل. ومن بعد هذا الكتاب كتابه الأشهر، والذي وضعه في الواجهة العالمية ككل، والمقصود كتابه “صراع الحضارات” الذي يعود إلى مقال يحمل العنوان نفسه كان قد نشره صاحبه في مجلة “فورين أفيرز” الأميركية (صيف 1993) ليظهر بعد ذلك في كتاب يحمل العنوان نفسه العام 1996. واللافت أن “النظرية” كان قد مهّد لها عرّاب الاستشراق الأميركي السياسي برنار لويس من خلال مقال له معنون بـ”جذور السعار الإسلامي” كان قد نشره في مجلة “الأتلانتيك” صيف 1990.
وثمة كتب، كما قد يستخلص من كلامنا السابق، هي في شكل مقالات. إلا أن عناوين الكتب التي استوعبتها سرعان ما غطّت على شهرة المقالات. وفي هذا السياق، وحتى نشرك الثقافة العربية الحديثة في الموضوع، فإنه يمكن أن نحيل على مقال “بين العلم والدين” الذي نشره طه حسين في مجلة “الحديث” سنة 1927. والمقال مكتوب بدافع من ضجة كتاب “الإسلام وأصول الحكم” 1925 لعلي عبد الرازق ومن حادثة “في الشعر الجاهلي” 1926 لطه حسين نفسه. إلا أن عنوان كتاب “من بعيد” 1935 الذي ضم المقال سرعان ما طمس شهرة المقال الذي تضمّن -وقتذاك – أفكاراً جريئة ولافتة بخصوص الدين وعلاقته مع العلم.
وعلى مستوى آخر ثمة مقالات تأسيسية لا تزال، حتى الآن، تحافظ على شهرتها وعلى مرجعيتها في مجالات التأمل الفلسفي والنقد الأدبي والبحث السوسيولوجي والتاريخي. مقالات يحال عليها بالنظر لأهميتها المرجعية التي تغطّي على مرجعية كتب قائمة بذاتها. مقالات لا يزال يتمّ تلخيصها ودراستها وإضاءتها. وفي هذا الصدد يمكن أن نحيل على مقال كارل ماركس الشهير حول “السيطرة البريطانية على الهند” في سياق عشرات مقالاته عن بلدان الشرق في الخمسينيات من القرن التاسع عشر. ومقال “المسألة الجنوبية” [بإيطاليا] الذي عدّه إدوارد سعيد أهم مقالات غرامشي. ومقال فرناند بردوديل الشهير “الأمد الطويل” المنشور سنة 1958. مقال غيّر مسار البحث التاريخي، وأسهم في التدشين لما يعرف بـ “التاريخ الجديد” بفرنسا. إضافة إلى أنه صار يؤرَّخ للعلوم الإنسانية بفرنسا بهذا المقال كأن يقال ــ مثلاً ــ “فمنذ مقال فرناند بردوديل وقع الغزو البنيوي”. ومقال “اللعب العميق: ملاحظات حول صراع الديكة في بالي” للأنثروبولوجي الأميركي غليفورد غيرتز (Glifford Geertz) الذي يقول في كتابه “تأويل الثقافات”: “نحن معشر كتاب المقالات في مجلات العلوم الاجتماعية كلنا لدينا في داخلنا ما يمكن تسميته بالنزعة إلى “اللاكتاب”. وكان المقال قد أثار، ومنذ الستينيات التي ظهر فيها، نقاشاً عريضاً؛ وعدّ بمثابة تمرين أنثروبولوجي في “الوصف الكثيف”.
وثمة في مجال دراسات الجندر والنسوية بصفة عامة مقالات كان لها التأثير الأبلغ بل كانت في أساس إبراز “النسوية الراديكالية”. والمثال على ذلك مقال “من مشكلة الجنوسة (النوع الاجتماعي): الحركة النسوية وتدمير/ تلطيخ الهوية” 1990 للناشطة والمنظرة الأميركية للجندر جوديت باتلر (Judit Butler). وقد تضمن المقال أفكاراً خطيرة حول الجسد، وكما نظر إليه باعتباره النص التأسيسي لنظرية المثليين والهوية الجنسية اللانمطية. ومن خارج الحدّة الأكاديمية الراديكالية يمكن أن نحيل على مقال “الجندر: مقولة ناجعة في التحليل التاريخي” (1986) لجوان سكوت (Joan Wallach Scott ) الذي لا يزال مرجعاً أساسياً يغني عن عشرات الكتب في سياق دراسة تأثيرات ما بعد الحداثة في “النظرية النسوية”. ومن قبل كان مقال الناقدة والمفكرة جوليا كريستيفا (Julia Kristeva) الشهير “زمن النساء” 1979.
مقالات من مجالات مختلفة، ومتفاوتة؛ لكنها لا تخلو من تحليل وتشخيص وتعليق، ولا تخلو من تنظير أيضاً. مقالات دالة، في حضورها المستقّل، على الانعطاف من الكتاب نحو المقال. ومقالات لا تنوب عن الأبحاث أو المداخلات أو المحاضرات أو الشهادات أو المؤانسات، وقبل ذلك كلّه جديرة بأن تعكس أهمية المقال في حدّ ذاته ومن خارج دوائر “صيد الخاطر” أو “فيض الخاطر” تبعاً للعنوان التراثي العربي بشقيه البعيد والقريب. مقالات في إطار من التكثيف المنتج وليس الاستطراد الممّل وفي إطار من الجماليات المنشقة وليس اللغات الرائجة.
(ناقد وأكاديمي من المغرب)
العربي الجديد