من جديد: القول نعم… للثورة وضدا على ‘المؤامرة’!
مطاع صفدي
بعد تدمير شبه كاملٍ لبعض الأهم من حواضر سورية، وإبادةٍ كاملةٍ تقريباً لعشرات البلدات والقرى في أريافها الرئيسية، يمكن القول أن آلافاً، بل بضعة ملايين من شعب القطر أصبحوا لاجئين مشردين في ديارهم وجوارها. هل نسأل من هو المجرم الأكبر الذي أخذ على عاتقه الإجهاز على الكيان المدني تمهيداً للإجهاز على الكيان الإنساني لشعب سورية؟
لقد انجزت طائرات الشعب السوري التي سرقها النظام الحاكم ما عجزت عنه إسرائيل منذ إنشائها. وكان الهدف الدائم، ليس فقط هو القضاء على الدور المركزي والمحوري والتاريخي للشام في مقاومة المشروع الصهيوني في المنطقة طيلة سبعة عقود، بل هو هدف القضاء على أولوية القيمة التكوينية لبلاد الشام باعتبارها الحامل التاريخي لوجود العرب كأمةٍ، والإسلام كحضارة مساهمة أزلية في حفظ العدالة الإنسانية وتقدمها المضطرد.
هذا هو جوهر ما نسميه بـ ‘المؤامرة’، ونصِفُها بالعظمى، لأنها لا تتماهى اليوم مع أفعال النظام فقط، بل تكاد تلتف كذلك على عنق الثورة لتخنقها في اللحظة المناسبة، مبقيةً على جَدَثها كيما تتقمّصه وتتلبّس مظاهرَه، متابعةً بذلك خداعَ الجماهير ما بعد انقضاء الفصيلة الأسدية.
‘المؤامرة’ ليست شيطاناً خفياً أو وهماً دعاوياً كما يُراد أن يُشاع عنها، بل إن لها ممثليها وأدواتها العلنية المُشار إليها تحت أسماء العلم من رموز العالم، اعتباراً من إسرائيل متناسلةً من آبائها وجدودها الكبار من أبطال الاستعمار الغربي المتأمرك أخيراً.. هؤلاء هم قادتها في كل نكبةٍ حَفَلَ بها تاريخُ الشرق الحديث والعربي الإسلامي منه خصوصاً. وهم اليوم قد أوصلتهم أزمتهم الاقتصادية البنيوية إلى حدود الرهان الأخير ما بين نهاية تاريخهم وحدهم، أو نهاية العالم معهم.
صراع الخاتمة المطلقة هذه، يجعلهم يكتشفون بكل وضوح أن الذخيرة المتبقية لاستمرارهم لن تتحقق إلا بإعادة الفوز كلياً بثروات قارة العرب والإسلام، مركزياً انطلاقاً من جوهرها الاستراتيجي الأعظم، من الذهب الأسود المتراكم تحت أكبر صحارى الأرض قاتمةً، في دنيا العرب أولاً.
نعم! تتمثل ‘المؤامرة’ في إعادة الاستعمار لهذه القارة كلياً، لكنها لن تكرر أخطاء استعمارَها الأول باحتلالاتٍ جغرافية من قِبل جيوشها فحسب، بل صار مترسخاً في وعيها أن تمحو شعوب هذه القارة من خارطة المجتمع الدولي وذلك بتفخيخ نهضاتها التنموية الواعدة، بحيث تعمل هذه الهجمة الجديدة على إعادة استلاب قوى الحداثة وإمكانياتها التغييرية الفاصلة من مصادرها المادية والإنسانية، وبفعل انقلاب ثوراتها عينها إلى أضدادها. واليوم يضطر أرباب المؤامرة إلى (مشاركة؟) الربيع العربي في سعيه إلى إسقاط أنظمة الاستبداد التي كانت شبه علمانية ومنقولة، مُشوَّهةً عن نماذج السلطة الغربية؛ يحدث هذا بعد أن استنفدت هذه الأنظمة أسباب وجودها في تخريب مرحلة النهضة الاستقلالية، ولم تعد قادرة على كبح جماهيرها الغاضبة.
بالمقابل، تحاول ‘المؤامرة’ هذه المرة اللعب على عقارب ساعة التاريخ. تريد لهذه الشعوب أن تزج بنفسها ثانية في مجاهل القرون الوسطى، حيثما يصبح الاستبداد نابعاً ومحروساً من قِبل عبيده وضحاياه أنفسهم. يصير الاستبداد مطلوباً أو مُطالباً به باسم الدين، من الكتل المجمهرة نفسها، بدلاً من أن يكون مفروضاً بقوى الخارج والمستعمر الأجنبي. هكذا يجب أن يضيع الفصل اللغوي والفعلي بين لفظِ وحالِ كلٍّ من عبارتيْ: (العبادة) و(الاستعباد).
لكن في الوقت ذاته، أصبح انهيار العملاق الأمريكي ـ مهندس المؤامرة، وفارسها الأول ـ أكثر من مفهوم متصوَّر أو متخيّل، فالنخب المفكِرة تسلّم بأن الزمن الأمريكي شارف على نهايته. لسنا نحن من يقول هذا، بل سبقنا إليه كبار مفكري الرأسمالية الأمريكية. لم يعد يترددون في قرع أجراس الإنذارات الأخطر، إنهم يضعون ويتداولون التحليلات والدراسات المعمّقة داخل الحلقات المغلقة أو نصف المفتوحة، تنطلق أفكارهم من موضوعة أشبه بالمسلمة القائلة أن كل الحلول لأزمات الديون ذات الأرقام الفضائية، والبطالة المعممة، والاستثمار شبه المفقود، أمست عبثية لا طائلَ تحتها.
يعترف بعضهم أن كل حل يتطلب ثمة قوة ذخيرة ما كحدٍ أدنى، لكن الطيش الأمريكي بدّد كل هذه القوى الموصوفة بالذاتية بدئياً، فلم يتبق إلا ذلك الرهان العتيق والبربري، وهو الاستيلاء على قوى الآخر العاجز عن الدفاع عن كنوزه المجهولة من أبنائه، أو الممنوعة عليه بقوة الجهل والاستبداد والغباء، ذلك الثالوث المتحكم بمصطلح السلطة العربية والإسلامية.
فالغرب ليس مضطراً ـ كما يدّعي ـ للتلاؤم مع مرحلة التديّن السياسي التي تنقاد نحوها معظم دول الشرق العربي والإسلامي. بل هو ساعٍ بجهدٍ وتصميم إلى عقد ما أمكنه من تحالفات وتنسيقات مع شتى فصائل هذه الموجة، اعتقاداً منه أن الشرق الأقرب إليه جغرافياً والأبعد أيديولوجياً أصبح حافلاً بنزعات الحداثة وشروطها الموضوعية، التي قد لا تتفق مع ما يفهمه الغرب عادةً من ثقافة الحداثة.
بل لعله يخاف حداثةً لا تنطلق من أفكاره بالذات، مما يؤهلها لابتكار جذورٍ حقيقية قد تغيّر الكثير من أفكار الشرق التقليدية، وقد تخترق سياجات عقائده المتيبسة. فالمحظور الأكبر على هذا الشرق هو أن يبلغ تطورُه يوماً ما مستوى اللقاء بين الحرية المتأصلة والحضارة العادلة في وقتٍ واحد. مثل هذه المعادلة عجزت النظريات والثورات ومختلف أشكال التقدم التقني المتفوق، عن ابتكار أنظمة إجتماعية عادلة تجسدها واقعياً. فالليبرالية التي فرضها الأمريكيون على أنفسهم وأجبروا أوروبا على تقبلها من دون الاقتناع بجدارتها، هذه النزعة بجعل المال السيّدَ المطلق لمختلف العمليات الاقتصادية والمشاريع السياسية وصنوها الثقافية، ما زالت تدفع بعقول أصحاب السلطة إلى افتراض أن رهان الانقاذ من أزمة الليبرالية بالذات، لا يكمن في أسبابها عينها، بل لا بدّ من البحث عنها خارجها دائماً؛ أي باغتصاب ثروات العالم كما كان دأب الرأسمالية منذ نشأتها الأولى بعد الغزو الاستعماري لمعظم أقطار الشرق قبل قرنين على الأقل.
لم تستطع معادلة الحرية مع الحضارة الرأسمالية أن تفرض تحوّل المشروع الثقافي الغربي عن تلك العقيدة العتيقة التي تمنع العقل الحر من البحث حول أسباب أزماته المتوالية الكامنة في طبيعة أعطالها الذاتية عينها، وليس في الآفاق البعيدة عنها، وعند الآخرين.. دائماً.
قد تقتضي الإشارة إلى أن البعض من مثقفي الغرب قد يعترفون أن النظام الليبرالي يقترف المجازفة الكبرى كلما أمعن ساسة الغرب في دعم الانحراف النهضوي الأخطر الذي قد يعانيه الربيع العربي عندما يصبح سُلَّماً لارتقاء نزعات الظلام إلى مراكز سلطات القرار السياسي المطلقة.
فإن إجهاض ربيع ثورات الحرية، لن تقتصر نتائجه السلبية المحتومة على تلك المجتمعات البائسة وحدها. إنها النُقلة الأسوأ من نظرية/مؤامرة الفوضى الخلاقة إلى نظرية/مؤامرة الفوضى الهدامة بكل معنى الكلمة، وهي لن تكون كارثة جيوسياسية لمنطقة هي الأقرب إلى العالم الغربي فحسب، بل ستنال من صميم هذا العالم نفسه.
‘ مفكر عربي مقيم في باريس
القدس العربي