صفحات الناس

من زملكا والقلمون والرقة إلى بوخوم الألمانية… مقاتلون سوريون صاروا في المهجر/ جان – فيليب ريمي

 

 

سكب المضيفون السوريون لضيفهم الفرنسي (كاتب هذا التحقيق) ولأنفسهم الشوكولا الحارة في أكواب من الكرتون، قبل أن نغادر جميعاً مطبخهم الضيق، ونسير قاصدين بوخوم، في ألمانيا، ليلاً. وكانت السماء تمطر شيئاً يتردد بين الماء وبين الجليد. ولف البلل والعتمة الاشياء كلها، وخيّم ضوء سميك مستعار من فيلم تعبيري من أفلام القرن العشرين. وها هو اليوم قرن آخر، وها هي مآسٍ أخرى، وأجزاء من تاريخ مضطرب يُكتب بعضه في ألمانيا، المحطة الأخيرة من هجرة تاريخية مصدرها سورية والعراق وإريتريا وغيرها من البلدان. فبين كانون الثاني (يناير) وتشرين الثاني (نوفمبر) هذا العام بلغ عدد طلبات اللجوء 965 ألفاً، ويقدر أن يتجاوز المليون قبل نهاية العام.

وكان مرجحاً ان تؤدي الهجرة العريضة الى فوضى عميمة. وعلى خلاف المتوقع أو المرجح استقبلت أمواج المهاجرين خطة وطنية واسعة تولت التدبير والتأطير والاستيعاب، وتصدرت الدفاع عنها أنغيلا مركل، المستشارة الألمانية. واستقبال القادمين كلهم يقتضي تقريباً الانتقال من عالم الى عالم. وبينما تدب المرارة في أوروبا، وتغلق هذه أبوابها، وتقترع للأحزاب اليمينية المتطرفة، احتسبت ألمانيا افتقارها الى يد عاملة، وتخطت الحاجز بواسطة خطة استقبال كبيرة تضاهي تلك التي أقرت بعد 1990 واقتضاها التوحيد مع شرق ألمانيا. يومها، هاجر 3 ملايين ألماني الى غرب ألمانيا. وفي أثناء الحرب في يوغوسلافيا السابقة، هرب مئات قاصدين ألمانيا. لكن الأمر، هذه المرة، أشد حدة. والقادمون، بدءاً بالسوريين، رحلتهم أطول بكثير من رحلة الذين لجأوا من يوغوسلافيا.

السوريون يلقاهم المراسل في أنحاء ألمانيا كلها تقريباً، حتى في بوخوم. فمن يقصد بوخوم غير أنصار فرق كرة القدم المتطرفين والمتحمسين؟ وبلاد الرو(هـ) ر، حيث بوخوم، غدت مقصداً مفضلاً. وحولها تتشابك الطرق العريضة والسريعة، وتنتشر مصانع تتعالى سحب الدخان من مداخنها، قرينة على عملها، وعلامة على استجابتها رجاء الذين كابدوا الأهوال في طريقهم اليها، وألقوا الرحال على أبوابها وقد استبد بهم الإعياء والإرهاق، جيوبهم خاوية وأولادهم بين أذرعهم وعلى أكتافهم وظهورهم. وها هم السوريون يسعون في حياة جديدة. و»الشباب»، شأنهم في وطنهم الذي غادروه، يعيشون جماعة ومعاً، خصوصاً في ليل بوخوم. وهم قبل هجرتهم كانوا معاً في الحرب، في سورية، جنوداً ومقاتلين أنفاراً في نزاع كبير هربوا منه الى المهجر، وليس في مستطاعهم الاعتراف بقتالهم في الحرب وأسماؤهم ينبغي كتمانها وتلقيبهم بكنى مثل أبوعبدالله وأبو بشير وأبو أحمد وأبوعمر.

غادروا سورية ودمارها، غادر بعضهم زملكا، في ريف دمشق، بعد قصفها بغاز السارين القاتل في آب (أغسطس) 2013. وبعضهم الآخر ترك الربيبة، البعيدة نحو 30 كلم من دمشق، وبوابة سلسلة جبال القلمون بين شمال العاصمة والحدود اللبنانية. آخرون غادروا الرقة، كرسي «خلافة» تنظيم «داعش»، لكن أبو عبدالله وأبو بشير، الماشيين في ليل بوخوم وفي اليد كوب الشوكولا الساخن، خلّفا وراءهما البلاد التي قاتلا فيها، ولا يريدان التفكير فيها. فهما يقصدان بوخوم، مدينة كرة القدم والجامعة والمصانع وأنصار الفرق الفوضويين والجعة وأمور أخرى.

فأبو عبدالله، وهو شاب عصبي لا ينام أكثر من ساعتين متصلتين ويبدو نهباً لنار تقض مضجعه، لا يزال عضواً في كتيبة مقاتلين في طريقها الى الاندثار. وكانت تعد 90 مقاتلاً، وتقاتل تحت لواء الجيش السوري الحر في 2013، بضاحية دمشق. ولم يبق اليوم من المقاتلين التسعين غير عشرة أو أكثر بقليل، يقاتلون في القلمون قتالاً متقطعاً. هؤلاء ينعتون أبوعبدالله بـ «الخائن» و «الجبان»، وهو لا يملك نفسه عندما يروي هذا الفصل من سيرته، فيشحب وجهه، ويحاول تبرير فعله: «كان على عاتقي زوجتي وأمي وأولادي، ولا يجوز أن أتركهم يموتون في سورية». وبلغتهم أخيراً رسالة من مقاتل صديق يسرُّ له فيها بأنه «تعب» أيضاً، وينوي المغادرة. وأرفق برسالته صورة فوتوغرافية للقلمون، ولجباله الترابية النقية وغيمها. وتتردد أصداء المعارك البعيدة في الفضاء الاحتمالي، عبر واتساب وفَيْبر، وعلى شاشات السمارتفون في ألمانيا.

التقينا في بوخوم أبو بشير، وعمره 23 سنة، ولكن قسماته تنبئ بـ33 سنة. كان يهرّب سلاحاً بين لبنان وسورية، قبل أن يذهب الى مصر، حيث حُجِر عليــه ســـنة كاملة في القاهرة. ويروي: «أمرنا المهربون بالانبطاح في مؤخرة الشاحنة، كنا حوالى 60، ووقع بعضنا من الشاحنة أثناء سيرها فلم يقف السواقون، وحين أوقفنا الشاحنة أخيراً، تقدم رجال ملثّمون يلبسون ألبسة سوداً صوبي وقالوا:» انت سوري؟ إذاً انت من داعش، تعال معنا».

ضربوه وعذّبوه وابتزوه، الى ان اشترى منهم هربه. فذهب الى زوارة على الساحل الليبي. وركب مركباً الى ايطاليا انقطع محركه، وعامَ على مياه المتوسط 3 أيام على غير هدى. وأمرهم المهربون بالتلطي: «العرب فوق، والسود لصق القعر، الموضع الأشد تعرضاً للخطر». وأنقذهم في اللحظة الأخيرة خفر السواحل الايطاليون. وفي فانتيميغليا، بين إيطاليا وفرنسا، ضربتهم الشرطة، سد السكان أنوفهم قرفاً من روائحهم. وفي نيس، أرهقهم التعب وعسر النوم والاضطرار الى الانتقال من مكان إلى آخر.

وأخيراً ألمانيا. ومذ ذاك: شقة سكن من غرفتين، ودروس تعلم الالمانية، وتعويض مالي، وخطط، وحياة. وفي حجرة الاستقبال جهاز تلفزة للألعاب الالكترونية. سألت أبو بشير عن حيواته الكثيرة وهو في مقتبل العمر، كيف عاشها. فأجاب ضاحكاً، ورأسه يميل الى خلف:» أنا لم أطلق رصاصة واحدة. وبدت الحرب، ومعها التهريب، في أوائلها أشبه باللعب المثير، حسبنا أننا سنسقط السلطة ونربح الحرية، ثم تخربط كل شيء واضطرب، وقبل أن يُقبض عليّ هربت». طوال أيام الأسبوع، و3 ساعات في اليوم، يتعلم أبو بشير الألمانية. وهو ينبّه أصحابه حين يقصّرون عن التلفظ بـ «الشه» مع الإمالة الشفوية الملازمة. وكان بدأ درس المعلوماتية قبل الحرب، وتوليف الفيديو، وهو مصمم على استلحاق المستوى الألماني قبل ان ينصرف الى البحث عن عمل. «فهنا، في رينانيا الشمالية – فيستفاليا، فرص العمل متوافرة». وهو جال في الولايات كلها، وعلى دراية بمغانمها ومغارمها. ولا يرى ان الهجرة تصلح للهواة.

فـ «الشباب» كانوا مقاتلين متواضعين في حرب سورية. وهاهم يؤدون أدواراً متواضعة في مغامرة كبيرة مسرحها ألمانيا وأوروبا والخليط الكبير. وتتناول السيرة الجارية، سيرة هجرتهم، تفاصيل الحياة اليومية كلها. وهذا المساء، قرر «الشباب» التنزُّه في حي أضواؤه الخافتة تحيط الوجوه بهالات سود. وفي تجوالهم يشربون الشوكولا الحارة ويحدقون في العابرين والعابرات مثلهم، ومعظمهم جاء من البلقان أو أبعد، ومن جنوب آسيا وشرقها. وفي الاثناء، يغطي السوريون رؤوسهم بذيل معاطفهم، ويتلثمون بشالاتهم كأنهم يخشون التعرف (إليهم)…

ونقف «الشباب» وأنا، أمام «إيمبيس» (محل للأكل الخفيف) يتولى فيتنامي إدارته أو خدمته، ويقدم طعاماً نباتياً يُفترض ألا يُطعن في حلاله. فليس يسيراً في بلاد السجق البقري الاكل من غير قلق. ويقضي المهاجرون المسلمون ساعات طويلة في المخازن الكبرى (سوبر ماركت) يتقصون الكلمات الالمانية التي قد تعرب عن مواد علبة الطعام المعدنية ومصدرها، ويستعين بها المشتري على استبعاد الخنزير منها. ويسأل بعضهم:» كيف يقال «جيلاتين» (الهلام) بالألمانية؟ حتى بعض الحلويات استبعد أكلها، على رغم رخص سعرها، خشية تسلل مشتقات غير مأمونة الصفة إليها. ومن حسن الصدفة أن مغربياً يبيع الشوكولا بالفراولة في علبة ثمنها يورو، ويقسم انها حلال. ومع تقدُّم الليل، حان وقت الإياب والإنصراف الى قتل ركام الأعداء في اللعبة الالكترونية، وخوض معارك مصفحات ملحمية على السمارتفون، والكلام على هجمات باريس المقلقة ربما.

يسأل أبو عمر: هل ينتهي الأمر بالناس هنا الى حسبان السوريين أنصاراً لـ «داعش»؟ أبوعمر جاء من الرقة، وقاتل في صفوف «جبهة النصرة»، لكنه يتكتّم على الأمرين، ويزعم أنه طالب جامعي. ويحميه زعمه من إصرار المحققين الألمان على استجوابه وحمله على إفشاء اسماء زملائه وأصدقائه، يقول: «أنا لا أُحسِن التجسس ولا أداء دور المخبر». وينوي أبو عمر الزواج بألمانية، على خلاف اصحابه الذين «يغازلون» على مواقع التعارف، عربيات من بلدان متفرقة. ويقر بأنه لم يلق بعد جواباً مرحباً. وقبل العودة، أخيراً، الى البيوت، يعرج «الشباب» على محل لبيع السلاح. تقع الانظار على M4 يكاد يكون السلاح الذي كان في حوزة أبو عبدلله. «الآن اعترف بأن ذخيرتي لم تتجاوز 13 طلقة». وهو اشترى سلاحه بـ3 آلاف دولار وباعه حين عزم السفر الى أوروبا. وداعاً أيتها الحرب!

 

 

* مراسل الصحيفة (راسلها من الغوطة الشرقية في أيار- مايو 2013، ونقل ملحق «صحافة العالم» مراسلته في 5/6/2013)، عن «لوموند» الفرنسية، 13-14/12/2015، إعداد م. ن.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى