صفحات العالم

من فلسطين الى حلب الى القاهرة


الياس خوري

دخل اضراب الأسرى الفلسطينيين عن الطعام اسبوعه الثالث، كما شهدت في حلب احد فصول وحشية آلة القمع الاستبدادية، حين اقُتحمت المدينة الجامعية فيها بالرصاص، بينما تعيش القاهرة احدى اكثر المواجهات عنفا مع الطغمة العسكرية الحاكمة.

الدم يسيل في مراكز المشرق العربي الكبرى الثلاثة، قمع ومقاومة وحركات شعبية تعبر عن كرامة هدرها الاحتلال والقمع والاستبداد طويلا.

هل هناك من علاقة بين هذه الاحداث المتزامنة؟

ما علاقة حلب بالسجون الاسرائيلية؟ وكيف يمكن ربط احداث العباسية الدامية باضراب الأسرى، او بانتفاضة طلاب جامعة حلب؟

الجامع المشترك بين هذه الأحداث واضح، انه مقاومة الظلم والدفاع عن الكرامة، واللافت ان موجة الثورات العربية تتخذ في المركز السوري- المصري- الفلسطيني، شكلها الأكثر عنفا ودموية. كأن كل ما جرى منذ بداية الثورة التونسية، يتمركز الآن هنا، ويتخذ مقتربه الحاسم.

هنا يتقرر اليوم مصير الثورات العربية ومعها مصير المنطقة.

هنا اي في مصر وسورية وفلسطين، تجري صناعة الحاضر العربي وينفتح افق المستقبل.

واذا كانت الثورتان السورية والمصرية تعانيان من فراغ في القيادة السياسية، ناجم عن عدم قدرة شباب الثورة عن بلورة اطر سياسية جديدة وصلبة تقود التحرك الجماهيري، فان انتفاضة الجوع التي يصنعها اسرى فلسطين تعبر هي ايضا عن غياب القيادة في ظل عجز طرفي السلطة الفلسطينية: حماس وفتح عن بلورة افق جديد للنضال الفلسطيني ضد الاحتلال.

هذا الفراغ القيادي الواضح يعبّر عن واقع جديد لم تستطع النخب المعارضة بلورته في برامج سياسية واضحة وفي اشكال تنظيمية جديدة. انه اشارة الى ان ما يجري هو بمثابة بداية جديدة لا سابق لها، وكل بداية محكومة بالتعثر والالتباس وبشيء من الضياع الفكري.

هذا الضياع قد يكون مصدر خطر كبير، لأن قوى السلطة الاستبدادية والاحتلال تعرف ماذا تريد بالضبط. العسكر في مصر يريد المحافظة على بقاء امبراطوريته السلطوية والاقتصادية خارج المساءلة، والمافيا العسكرية- الاقتصادية في سورية تريد البقاء في السلطة حتى ولو كان الثمن تدمير البلاد على رؤوس اهلها، والاحتلال يريد الاستمرار في سياسة الاستيلاء على الأرض والتطهير العرقي، وضم المناطق.

غير ان قوى السلطة لم تستطع ان تتخيل ارادة المقاومة التي تبديها الشعوب، وهي ارادة تجاوزت الخوف والموت، جاعلة من الحاضر العربي نموذجا مدهشا لارادة الشعوب التي كسرت كل القيود.

رهان السلطتين الاستبداديتين في سورية ومصر على تعب الناس، كان خاسراً. فالناس بعد كل التضحيات لم تعد تستطيع التراجع. كما ان رهانات الاحتلال الاسرائيلي على قرف الفلسطينيين من مركّب القمع والفساد الذي يحكمهم في غزة والضفة لن يوصلها الى مبتغاها، شباب فلسطين ومناضلوها لن يتخلفوا عن ركب التغيير، وانتفاضة الجوع التي اعلنها الأسرى هي مجرد بداية.

الترابط بين هذه المواقع الثلاثة تحوّل الى حقيقة، فالثورتان السورية والمصرية تجدان نفسيهما في المواقع نفسها، حتى وان اختلفت الأمور بينهما في شكل كبير. الطاغية المصري رحل لكن نظامه لم يرحل بعد، بينما يتماهى الطاغية السوري مع نظامه فيصير رحيله اعلانا برحيل النظام. اما ما يجري في فلسطين اليوم فانه المؤشر على ان لحظة انتصار المصريين والسوريين على طغاتهم سوف تكون لحظة بداية جديدة للمقاومة الفلسطينية بمختلف اشكالها.

في مصر وسورية وفلسطين سوف يتقرر مصير المنطقة، التي تقف اليوم امام ثلاثة احتمالات كبرى:

الاحتمال الأول، هو نجاح العسكر في مصر وسورية في الاحتفاظ بالسلطة، وهو نجاح مهما اتخذ من اشكال سوف يكون مؤقتا وناقصا. لم تعلن الثورات انهيار النص القديم الذي اعطى العسكريتاريا شرعية السلطة فقط، بل اعلنت تمرد قطاعات شعبية كاملة على السلطة، بحيث صار الحكم العسكري مستحيلا، وليس سوى مقدمة لاستمرار حالة الغليان والقتل الى ان يحين اجل النظام.

الاحتمال الثاني، هو ان يتم استيعاب الثورة من قبل النظام العربي المهيمن، وهذا ما حاولته السعودية مع مصر، وتحاوله امارات النفط في كل مكان. وهذا احتمال مؤقت لأنه مستحيل، فرياح التغيير لن تتوقف عند حدود الجمهوريات، وانتصار الثورة في مصر وحدها كاف لاعادة التوازن الى الاحجام الحقيقية.

الاحتمال الثالث، هو نجاح الثورة المصرية في القبض على منصب الرئاسة، وهذا سيعني بداية عهد ديموقراطي جديد لا بد وان ينعكس ايجابا على سورية وفلسطين.

لا توجد وصفة سحرية للتغيير او لبناء الديموقراطية او لتحرير الارادة الوطنية. المشرق العربي يعيش اليوم منعطفه الكبير والحاسم، وهو منعطف مليء بالصراعات، ويقتضي البدء في الانتقال من سياسة الهوية الى السياسة الحقيقــــــية، اي الى البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعـــية التي تستشرف المستقبل. وفي هذا لا عذر لأحد، الميدان مفــــتوح امام جمـــيع الاجتهادات، والفراغ الكبير الذي خلّفته عهود القمع الطويلة لا بد وان يجد من يملأه.

وفلسطين التي تبدو اليوم بعيدة عن مسارات هذه العملية التاريخية الكبرى، قريبة اكثر مما نرى ونعتقد. اسراها صاروا اليوم في زنازين واحدة مع الوف المعتقلين السوريين، وحلمها ببداية جديدة هو الأقرب الى حلم المصريين بالحرية، وقضيتها تتخذ اليوم شكلها التكويني، انها قضية حرية العرب وتحررهم.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى