صفحات العالم

من هم «الشهداء» في سوريا؟/ ربيع بركات

 

 

 

من هم «الشهداء» في سوريا وكم يبلغ عددهم؟

الإجابة ليست بالأرقام، بل في طبيعة السرديات المختلّة التي تقدّمها الأطراف المعنية بالحدث الدامي في بلاد الشام.

بدايةً، لا بد من العودة إلى مقدمة الحدث حتى يُفهم الكلام التالي في إطاره المقصود، فلا يتحمّس لهجائه غلاة «الثورة»، ولا لتوظيفه عتاة «النظام».

بدأ الصراع في سوريا على شاكلة «حراك» مطلبي جماهيري. والأخير ظل، على مدى أشهر، يحمل دعوات «إصلاحية» ويرفع مطالب حقوقية وإنسانية بديهية. وبرغم اتساع الحراك وأحقية مطالبه، إلا أن ذلك لم يكن يعني أن النظام ضعيف، ولا أنه يفتقر إلى قواعد صلبة. فالمؤسسات الحاكمة كانت تتمتع ببنية تحتية وبيروقراطية عميقة الجذور، ترفدها شبكة واسعة من المصالح وتحميها جملة من التحالفات الداخلية والإقليمية.

غير أن مسار الأحداث بدأ يتحول تدريجياً بعد الأشهر الأولى، مع اتساع ظواهر العنف المتبادل الذي لم يستثنِ المدنيين من استهدافاته، ومع نمو جماعات «جهادية» على سطح الحراك وتأثيرها في بعض قطاعاته، مستفيدة من خبرتها العسكرية والتعبوية المديدة ومن انفتاح المجال السوري على الميدان العراقي الملتهب. هكذا، على سبيل المثال، أعلنت «جبهة النصرة»، وهي التي تنال ثناء رموز المعارضة السياسيين والميدانيين حتى اليوم، عن تأسيسها الرسمي بعملية انتحارية أوقعت عشرات المدنيين في وسط العاصمة دمشق في كانون الثاني 2012، فيما سبق ذلك بأشهر أعمال عنف متفرقة، بعضها موثٌّق بالصورة، مارسها خصوم النظام تحت شعارات لا تمت لـ«الحراك» الأول بصلة.

وقد جاء التحول التدريجي للمسار نتيجة جملة من العوامل، أولها ما يتصل بعنف أجهزة النظام الأمنية ووحشيتها (كان الصوت الطاغي لدى المعارضة يفرّق في البداية بين الأجهزة الأمنية والجيش، فيدعو لتحييد الثاني ما أمكن). فيما ارتبطت العوامل الأخرى لاتساع العنف بطبيعة ووجهة التحريض، الطائفي أساساً (عبر سيل الفتاوى ودفق وسائل الإعلام)، فضلاً عن التسليح والتمويل اللذين أمّنتهما دولٌ إقليمية لجماعات عسكرية ومدنية بعينها، وفق ما تقتضيه مصالح هذه الدول ـ وهذا من طبيعة الأمور.

بيد أن التحولات التي طرأت على طبيعة الحدث السوري لم تنعكس تلقائياً على السرديات المسوّقة. فبموازاة إصرار «النظام» وحلفائه على رواية «المؤامرة» منذ بداية «الحراك» ـ الذي كان بعيداً جداً عن «التآمر» – ظل المتحمسون لـ«الثورة» على رومنسيتهم الأولى، بعضهم لدواع مصلحية، فيما بعضهم الآخر استوطن في الحلم وظل يغني على ليلاه. وقد استمر هؤلاء يقدمون صوراً متخيلة للحدث، فيما الهيكل السوري يتساقط على الرؤوس أجمعين، حتى أصبح الحدث السوري حدثين، أحدهما تمثله الحقائق الصلبة على الأرض، فيما الآخر يهيم في الفضاءين الإعلامي والافتراضي، ليمثل، بتعبير فيلسوف الإعلام جان بودريار، عالماً فوقياً موازياً (hyper reality) قادراً، نتيجة تفاعله مع الواقع الأصيل، على تعديل ملامح هذا الأخير.

من جملة الأمور المتخيلة على مدار الأعوام الثلاثة الماضية، ما يتصل بقضية «الشهداء» في سوريا، وهم الذين يُقدَّرون اليوم بأكثر من مئتي ألف.

وإذا كانت سردية النظام ركزت أساساً على عامل «الإرهاب» في خلقها عالماً موازياً، فإن رواية المعارضة تمحورت بشكل رئيسي حول أعداد الضحايا.

وإذا كانت تصورات النظام للواقع قد بدأت مُختلقة وتحوّلت، بفضله وبفضل عدد كبير من خصومه، إلى حقائق صلبة، فإن السردية التي يقدمها معظم أطياف المعارضة ورعاتها الخارجيون، تراجعت من وصف الواقع إلى خلق بديل متوهم له، فظلت توظِّف عدد «الشهداء» الإجمالي في خانة ضحاياها، علماً أن الحصائل المتتالية التي تصدرها مراكز التوثيق المعتمدة من قبل المعارضة، تؤكد خلاف ذلك.

نأخذ، على سبيل المثال، البيانات الصادرة عن «المركز السوري لحقوق الإنسان». والمرصد معروف بكونه أبرز مصادر المعارضة ورعاتها لناحية توثيقه للأحداث، وأحد المصادر الخمسة التي تستند إليها «المفوضية العليا لحقوق الإنسان» في الأمم المتحدة في تحديدها أعداد الضحايا في البلاد.

فقد أكدت حصيلته المعلنة في كانون الأول 2013، مثلاً، سقوط أكثر من 130 ألف قتيل بينهم نحو 52 ألفاً من القوات السورية المسلحة والمجموعات المؤيدة لها، بينما بلغ عدد ضحايا قوات المعارضة المسلحة أكثر من 29 ألفاً بقليل. أي أن 40 في المئة من الضحايا هم من المسلحين المحسوبين على «النظام»، عدا عن نسبة ممن يُصنفون في خانة المدنيين «المؤيدين» (الحصيلة استثنت 17 ألف مفقود داخل سجون النظام و6 آلاف أسير لدى جماعات المعارضة).

وفي حصيلة ثانية صدرت في آب 2014، على سبيل المثال أيضاً، أعلن المرصد أن عدد الضحايا ارتفع إلى أكثر من 180 ألفاً، بينهم نحو 69 ألفاً من عناصر الجيش والأمن والمجموعات المسلحة «الموالية»، في مقابل نحو 50 ألفاً من عناصر المعارضة المسلحة.

وبمعزل عن دقة الأرقام، إلا أن النسب التقريبية تؤكد أمراً يكاد يكون بديهياً: كما أن النظام استثمر في الوحش المُتخيل مطلع الأحداث ليعدّل بسرديته الوقائع الصلبة، فقد حاول أنصار «الثورة المسلحة» أن يستثمروا في أعداد «الشهداء» خدمة لروايتهم. علماً أنهم، في الوقت الذي يفعلون ذلك، يؤكدون عزمهم على حسم النزاع مع النظام بالسلاح.

بهذا المعنى، يشرّع هؤلاء القتل ويريدون أن يحظوا، في الوقت عينه، بمن قتلوه في قائمة ضحاياهم، تماماً كما أن النظام يبطش، ويضع نفسه في مرمى «المؤامرة».

المنطق يقول إن الأمرين لا يستقيمان. لكن للرومانسية «الثورية»، كما كان لسردية النظام عن الحراك السلمي، جملة من الأسباب… وكثير من الضحايا. و«الشهداء»، بمجموعهم، كانوا وما زالوا، أول هؤلاء.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى