من هم «المثقفون الشرفاء»؟
باسكال بونيفاس يهاجم في كتابه الجديد كتابا وصحافيين يحتلون الإعلام في العاصمة الفرنسية
باسكال بونيفاس و غلاف الكتاب
باريس: هاشم صالح
سوف أطرح هذا السؤال المتهور: من سيؤلف كتابا عن المثقفين الغوغائيين المزيفين في العالم العربي؟ من سيتجرأ على ذلك مع ذكر الأسماء كما يفعل بونيفاس؟ لم تخلقه أمه بعد! ذلك أنه لا توجد دولة قانون لكي تحميه إذا ما احمرت عليه الأعين وهموا بتصفيته من عدة جهات! مرة أخرى يثبت باسكال بونيفاس أنه مثقف كبير يحترم الحقيقة. ويحق لفرنسا أن تعتز به وبأمثاله. لا تقولوا هذا شيء طبيعي لأن مبرر وجود المثقف أن يحب الحقيقة ويحترمها ويدافع عنها، في الواقع إن العكس هو الصحيح. فعدد المثقفين المزيفين أو المزورين للحقيقة أو المكيافليين الذين يعتبرون الغاية تبرر الواسطة أكبر بكثير من عدد المثقفين النزهاء الشرفاء. بالطبع لن تجدوا مثقفا واحدا يقول لكم إنه ضد الحقيقة أو غير شريف! على العكس سوف يرغي ويزبد ويوهم بأنه من أكبر المناضلين الثوار، بل وقد تبلغ به الحماسة الإنشائية إلى حد المزايدة على الناس أجمعين بمن فيهم أولئك الذين عرضوا أنفسهم للخطر الأعظم ودفعوا الثمن غاليا. وهنا بالضبط يكمن التزوير والتزييف. هنا يحصل طمس الحقيقة عاليها سافلها فيصبح الأبيض أسود، والأسود أبيض. ما هو المعيار الذي نقيس بواسطته نزاهة المثقف أو عدم نزاهته؟ شيء واحد فقط: الثمن الذي دفعه جراء مواقفه. هل دفع ثمنا ما أم لا؟ هل كانت حياته الشخصية مهددة في لحظة ما أم لا؟ هل أصيب في شخصه – بشكل مباشر – أم لا؟ كل ما عدا ذلك تفاصيل. ذلك أن الحكي سهل والثرثرات المجانية من أحلى ما يكون! يمكن أن تقدم نفسك كأكبر مناضل وتملأ الجرائد بتصريحاتك العنترية وأنت عائش في أجمل العواصم الأوروبية من دون أن يصيبك أي أذى أو ضرر. صحتك تبقى كما هي لم تتعرض لأي اعتداء مجرم، وربما أصبحت مليونيرا من وراء القضية! ويتوهم الناس عندئذ أنك أكبر مناضل في التاريخ، بل وتعطي دروسا في الوطنية والأخلاق للآخرين! وهنا يبلغ الزيف والتزوير ذروته، هنا يتسخ شرف الفكر. هنا نصل إلى ما يدعى بالعهر الفكري والسياسي بالمعنى الحرفي للكلمة. لحسن الحظ فإن جميع المناضلين السياسيين ليسوا كذلك. ففيهم شرفاء حقيقيون يناضلون ضد أنظمة الفساد والطغيان من دون أي مقابل ومن دون أي منفعة شخصية. على العكس! كما يناضلون بنفس القوة ضد الجماعات الظلامية الطائفية والردة الحضارية. هؤلاء هم مجد سوريا والعرب.
نلاحظ على مدار التاريخ أن كبار المثقفين هم أولئك الذين تعرضوا للملاحقات الضارية أو حتى التصفية الجسدية. وعموما ماتوا وليس في جيبهم فلس واحد تقريبا. أكبر مثال عليهم سقراط بطبيعة الحال، وقد تحول إلى «باراديغم أعظم» للثقافة والكلمة الحرة، أي أصبح «النموذج الأعلى» أو الرمز الأكبر على شرف الفكر. ولكن كان له أحفاد كثيرون ليس أقلهم المسيح، أو جان جاك روسو، أو مارتن لوثر كنغ، أو نيلسون مانديلا.. إلخ، أو حتى تلميذ تلميذه أرسطو. من المعلوم أنه عندما أحس بالخطر هرب في جنح الظلام من أثينا قائلا عبارته الشهيرة: «لن أدعهم يرتكبون جريمة ثانية بحق الفلسفة. يكفي أنهم قتلوا سقراط»!.. وعموما عندما ننظر إلى تاريخ البشرية غربية كانت أم شرقية لا نجد مثقفا حقيقيا واحدا لم يدفع ثمنا ما جراء كتبه أو مواقفه. ليس بالضرورة أن يقتل! قد يصاب جزئيا فقط ولكن بشكل موجع ودائم بعد أن نجا بقدرة قادر في آخر لحظة. أو قد يتعرض للملاحقات الضارية طيلة سنوات وسنوات، أو قد يتعرض للسجن والتعذيب، أو قد يتعرض للتشويه المعنوي والنفسي عن طريق بث الإشاعات المكثفة والمنتظمة من قبل جهات معينة.. إلخ. هناك أشكال شتى للاضطهاد والملاحقات. ويرى المفكر الفرنسي المعاصر ميشيل سير أنه لا يوجد مفكر كبير واحد نام قرير العينين قبل انتصار الحداثة ودولة القانون في أوروبا. كل فلاسفة أوروبا السابقين دفعوا الثمن باهظا من غيوردانو برينو، إلى غاليليو، إلى ديكارت الذي اكتشفنا أخيرا أنه مات اغتيالا وليس بشكل طبيعي على عكس ما أوهمتنا الرواية الرسمية طيلة ثلاثة قرون ونصف القرن ونيف. لاحظ كيف انفجرت الحقيقة بعد أربعمائة سنة إلا قليلا! وهذا يعني أن الحقيقة قد تقمع كثيرا، قد تطمس طويلا، لكنها لا تموت! لكن بعد أن موضعنا الأمور ضمن إطارها الواسع والراديكالي، لنعد إلى صلب الموضوع، لنعد إلى كتاب باسكال بونيفاس، أو بالأحرى لنعد إلى كتابيه. في الواقع إنه كان قد نشر عام 2011 كتابا بعنوان: «المثقفون المزيفون.. الانتصار الإعلامي لخبراء الكذب والتضليل». أما الكتاب الثاني الذي ظهر أخيرا في باريس فيحمل العنوان البسيط التالي: «المثقفون الشرفاء»، أو «المثقفون النزيهون»، إذا ما أردنا ترجمة حرفية. في الكتاب الأول شن بونيفاس حملة شعواء على مجموعة من الكتاب والصحافيين الذين يحتلون الواجهة الإعلامية والأضواء التلفزيونية في العاصمة الفرنسية. نذكر من بينهم الصحافي النافذ ألكسندر آدلير، والباحث السياسي فريدريك آنسيل، والباحث الآخر فرنسوا هيزنبرغ، والصحافي الجزائري محمد سيفاوي، وآخرين. هذا بالإضافة إلى برنار هنري ليفي زعيمهم الأكبر. إنه مثقف التزوير الأعظم في هذا العصر وأكبر نجم تلفزيوني فرنسي بإطلاق. وهنا تكمن مشكلة كبيرة: المثقف الحقيقي فاشل على التلفزيون أحيانا أو لا يظهر على الشاشة إلا قليلا أو حتى يهرب من الأضواء بأي شكل. أما المثقف المزيف البهلواني فيظهر كل أسبوع وأحيانا كل يوم تقريبا ومن أنجح ما يكون! ليفهم موقفي جيدا هنا: إني لا أريد الهجوم على برنار هنري ليفي بمناسبة ومن دون مناسبة. ولا أريد أن أنفي عنه أي صفة إيجابية مفيدة. فهذا موقف غير موضوعي. وأصلا ليس أنا الذي يهاجمه وإنما باسكال بونيفاس. ثانيا إني معجب بأسلوبه الجذاب في الكتابة وببعض مواقفه أيضا. وأحيانا كثيرة أقرأ مقالاته في مجلة «لوبوان» الأسبوعية الفرنسية. لقد قرأت كتابه الضخم عن سارتر واستفدت منه. كما قرأت بعض كتبه الأخرى العديدة واستمتعت بقراءتها. لماذا إنكار الحقيقة؟ ولكن من الواضح أنه مسيس أكثر من اللزوم، ومكيافيلي شاطر جدا كما يقول بونيفاس. وبالتالي فمشكلة الحقيقة ليست هاجسه الأول كما هو عليه الحال بالنسبة للفلاسفة الكبار. فهل ظلمته بعد كل ذلك؟
أما المثقفون الشرفاء الذين كرس لهم بونيفاس كتابه الجديد هذا فنذكر من بينهم الأسماء التالية: ريجيس دوبريه، المشهور جدا، وجان بوبيرو المختص بالعلمانية والبروتستانتية، وصديق محمد أركون. وقد قال للمؤلف: لو حصل وأني استخدمت أفكارا كاذبة أو محاجات خادعة في محاضراتي العامة لإقناع الجمهور بأي شكل فلن أستطيع النظر إلى وجهي في المرآة بعدئذ. سوف أخجل من حالي إلى الأبد ولن أعود أظهر بين الناس. وهذا أكبر برهان على النزاهة الشخصية وشرف الفكر. كما نذكر المفكر السويسري جان زيغلير الذي أمضى حياته في مهاجمة العولمة الغربية الجائرة التي تجوع بلدان الجنوب. ونذكر أوليفييه مونجان الذي قال إن المثقف غير التلفزيوني هو جنس في طريق الانقراض حتى ولو كان أكبر عبقري في العالم! ونذكر أدغار موران، وتودوروف، وستيفان هيسيل.. إلخ. خمسة عشر مثقفا حاورهم باسكال بونيفاس بعمق على مدار هذا الكتاب الممتع والشائق فعلا. فمن أراد أن يمضي العطلة الصيفية بكل استمتاع – وليس الركض وراء البنات! فليشتر هذا الكتاب وليذهب به إلى شواطئ البحر أو قمم الجبال.
يقول باسكال بونيفاس عن مشروعه: بالإضافة إلى الجانب السلبي في الساحة الثقافية الفرنسية، فإني أردت أن أبرز الجانب الإيجابي. أردت أن أقول للأجيال الطالعة ما يلي: ليس الجميع فاسدين! صحيح أنه يوجد مثقفون مزيفون يسيئون إلى شرف الثقافة والفكر. ولكن بالمقابل هناك مثقفون محترمون يمكن أن نفخر بهم ونعتز. وبالتالي فلا ينبغي أن نضع الجميع في سلة واحدة. هذا ظلم. لا يمكن أن نضع برنار هنري ليفي من جهة، وريجيس دوبريه أو أدغار موران أو ستيفان هيسيل من جهة أخرى، في نفس الخانة! ثم يردف بونيفاس قائلا: والقاسم المشترك الأعظم بين المثقفين الشرفاء على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم الفكرية هو أنهم يرفضون قطعا مقولة: «الغاية تبرر الوسيلة». فثقافة بلا أخلاق أو بلا أفق أخلاقي وإنساني واسع لا تساوي فلسا واحدا، وكذلك السياسة. بمعنى آخر فإنهم ليسوا مكيافيليين على عكس المثقف الأضوائي الانتهازي الشاطر. يضاف إلى ذلك أنهم يسيرون عادة ضد التيار السائد، أو ضد الرأي العام الشائع الذي تتبناه وسائل الإعلام والإجماع الشعبوي الفرنسي بخصوص القضايا الكبرى كقضية الإسلام وفلسطين.. إلخ. يضاف إلى ذلك أنهم لا يقدمون مصلحتهم الشخصية على المصلحة العامة أو مصلحة الحقيقة. فالحقيقة بالنسبة للمثقف النزيه شيء له معنى ملموس على عكس المثقف الانتهازي. إنه مستعد إذا ما لزم الأمر أن يضحي بطمأنينته الشخصية من أجلها. وقد تعرض أدغار موران للمتاعب بسبب دفاعه عن الحق الفلسطيني ودعوته إلى سلام عادل ودائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين أو بشكل عام بين العرب واليهود. وقد حصل الشيء ذاته للمفكر السياسي ذي الضمير الكبير ستيفان هيسيل الذي رحل أخيرا عن عمر طويل.
وأخيرا، سوف أطرح هذا السؤال المتهور: من سيؤلف كتابا عن المثقفين الغوغائيين المزيفين في العالم العربي؟ من سيتجرأ على ذلك مع ذكر الأسماء كما يفعل بونيفاس؟ لم تخلقه أمه بعد! ذلك أنه لا توجد دولة قانون لكي تحميه إذا ما احمرت عليه الأعين وهموا بتصفيته من عدة جهات!
الشرق الأوسط