من يوميات المنفى/ عديّ الزعبي
سنتان ونصف، فيما يشبه المنفى. لم تكن دمشق يوماً أبعد. لا أهل فيها لأزورهم، والأصحاب في المنافي أكثر من الأصحاب في المدينة. لم تكن دمشق يوماً أكثر فراغاً. سنتان ونصف، أعيش حياتي اليومية، محاولاً أن أشارك في الثورة على قدر استطاعتي، إلى أن يأتي يومٌ يكسرني. أتسمّرُ أمام الشاشة متابعاً اعترافات روان قدّاح.
تقفز في ذهني صورة الفتاة الأخرى. احتجتُ عدة أسابيع كي أُخرجَ آلاء مورللي من حياتي اليومية. في مقطع قصير، تُدلي آلاء باعترافاتها على شاشة النظام السوري. بعد خطاب متقطّع حول التضليل الإعلامي، يتضمّن الكثير من الأسماء الشهيرة والمغمورة، تأتي لحظة فاصلة. كأن الملاك جبريل يتكلّم من خلال عينيها. أنظر إلى الملاك وجهاً لوجه. حجابٌ أبيض كهالة قديس. ‘ما بعرف شو بدي قول لأهلي’. أسى شفيف يختصر الألم السوري. لم تحارب الملائكة معنا، لكنها تتلبّس أطهرنا في لحظات الشدة. تحدّثنا بصوت دافئ يكاد يعتذر.
نرى في آلاء ما تبقّى من سوريا. ملاك يعتذر عن كونه خيّراً. أتابع روان. للمرة المئة، أُعيد المقطع المسجّل حيث تروي اعترافاتها على شاشة التلفزيون السوري. روان ميلاد قداح من نوى، ستة عشر عاماً. تميل شفة روان السفلى إلى اليسار قليلاً عندما تتكلم. تصف روان كيف اغتُصبت للمرة الأولى. تميل شفتها السفلى قليلاً، ثم تتابع بعيون فارغة. ‘أنا بتوقع أنو أبي نايم معي’. تستعجل روان هذه الجمل، تنطقها كأنها تُخرج مارداً أسود. تحاول أن تجعل الجمل مفهومة. في نوى المحررة، إذن، ينام مسلحو المعارضة مع روان، ويدفعون لأبيها. عين روان ليست ميتة، بل فارغة. لا دمع ولا زفرات. فقط شفتها السفلى تميل قليلاً. تروي لنا روان أن أمها أيضاً كانت تمارس ‘يلي هنن بيسموا جهاد النكاح’. لا يرتجف صوت روان . كل ما في الأمر أن شفتها السفلى تميل قليلاً. تختم روان بأنها استنجدت بالجيش، الذي أخذها إلى مركز عناية ‘ووصلوني للمرحلة يلي أنا فيها هلق’. تميل شفتها كأنها تكاد تبكي. لا صمت يتيح لنا أن ننظر لروان بهدوء في نهاية التصوير. تختفي روان بسرعة. تبقى في الذاكرة شفتها السفلى التي تميل قليلاً إلى اليسار. يبقى هذا الميلان المسحة الإنسانية الوحيدة من روان. أهجس بروان على مدى عدة أيام. ما هي المنظومة الفكرية للإعلام السوري التي تسمح بتعذيب طفلة بهذه الطريقة؟ أين روان؟ أين أهلها؟ كيف عشنا مع القتلة كل هذه السنين؟ كيف تحوّل أصدقاء وأهل إلى مجرمين ومبررين للجريمة؟ كيف سنعيش مع هؤلاء لاحقاً؟ كيف ستعيش روان معهم؟
سنتان ونصف، لم أزر دمشق. هل هو المنفى ما يجعلني أفكر بالضحايا باستمرار؟ بآلاف الشباب الشيعة وآلاف المهاجرين، تبكيهم أمهاتهم كما نبكي أبناءنا في داعل وفي منبج؟ ينطقون بالشهادتين، ويسلمون الروح على مهل. يُدفنون بدمائهم كالشهداء، كآلاف العلويين في قرىً تتشح بسواد وبأصوات نساء تبكي إخوتنا في الوطن. في كل شارع وفي كل بيت، مجرم قتيل.’براميل’النظام لا تحرّك ساكناً لدى أصدقاء وأهل ما زالوا يتشبّثون بالسيد الرئيس. أرقٌ مستديم. دوما تدفن أبناءها وتمضي في درب لا نهاية له. مخطوفون عند مجاهدين يبذلون النفيس في الدفاع عن مدينتهم في وجه الغزو الشيعي. لا أخبار عن المخطوفين. براميل الموت تلهو في السماء، لا أهداف تضربها. حقدٌ أعمى يصبّه إخوتنا في الوطن على رؤوسنا. يدفن السوريون أبناءهم لاعنين من هو آمن على بعد كيلومترات قليلة. ينطقون بالشهادتين، ويسلمون الروح على مهل.’أرق ٌ مستديم. أسرى ومخطوفون على كل الجبهات. لم تكن دمشق يوماً أبعد.
سنتان ونصف، فيما يشبه المنفى. أي منفى؟ لو أردت، لزرت دمشق. كل ما عليّ فعله هو أن أجيب بتهذيب على بعض الأسئلة في أحد الفروع الأمنية، وأن أطلب المساعدة ممن لا أستطيع طلب مساعدة شخصية منهم. في هذا ذلٌ لا أحتمله. أهو دلال إذن؟ ليس هذا بمنفى.
سنتان ونصف، أعيش حياتي اليومية، محاولاً أن أشارك في الثورة على قدر استطاعتي. وكمعظم السوريين، أذكّر نفسي بأن الأسى والحنين يقيدان المريض بهما. وكمعظم السوريين، أعرف أنني لم أفعل ما يجب فعله، ولا أعرف بالضبط ما الذي يجب فعله. وككل السوريين، يجتاحني الحنين أحياناً، حتى أكاد أبكي كل ذكرى. أمي تطبخ رز ‘ببازيلا’، أبي يسمع صباح فخري، ‘أبو حمود’ في قهوة الكمال، أكلة ‘أبوات’ بالميدان، ضجر الظهيرة في مقهى الروضة، ‘برتية’ شدة في مقاهي الربوة، أو شاي قذر، بالربوة أيضاً، بعد منتصف الليل، وتأمل ما بقي من بردى الفقير. أجلس تحت جسر الرئيس متأملاً آلاف السوريين يتسابقون على ‘مكاري’ يتكدّسون فيها، وينظرون إلينا بعيون ميتة عندما يتحركون. شرطي المرور يرتشي على مدار الساعة. سيجارة حمراء، عرق البطة، مازة وأم كلثوم. شباب ‘عميلطشوا’ يدفعون الفتيات للابتسام، وغيرهم يتحرشون بقلة أدب لا حدود لها، مثليو الجنس في ‘الشعلان’، سيارات ‘المرسيدس′ و’البيجو’ تقطع الإشارة الحمراء، جدتي تُطعم الحمام على شرفتها، وتتذمر من قلة الحياء عند بنات هذا الجيل، روتانا موسيقا في كل مقهى ومطعم، اللهجة الديرية في مقهى الحجاز، صور الديكتاتور في كل شارع، الزحمة في محطة وقود شارع بغداد، النابلسي على الراديو، الروسيات في 29 أيار، ‘مدلوقة’ من نبيل نفيسة، امرأةٌ ينهرها زوجها في الشارع، وترتبك من نظرات المارة، أبٌ يعنّف ابنه بحدة سيتذكرها الطفل طويلاً، وصوت عجوز يهمس، ‘الحمد لله ع الصحة’.
وككل السوريين، يجتاحني الحنين، حتى أكاد أبكي كل ذكرى.
يقيدني الحنين. لا شفاء ولا حلول ولا وصفات ناجعة.
كان علينا أن نزيل صور الطاغية من شوارعنا.
هكذا أطوّع الحنين.
أما الأرق والمنفى، والخسارات الشخصية، فلا عزاء لنا فيها.
كاتب سوري
القدس العربي