مهمة أنان ومحادثات إسطنبول وجدت لتبقى
جورج سمعان
كان متوقعاً أن يتبنى مجلس الأمن بالإجماع قراراً بإرسال مراقبين دوليين إلى سورية. هو صورة أخرى عن الإجماع الذي يتسلح به كوفي أنان. كان من المبكر إعلان فشل مهمته. لا مصلحة لأحد من أولئك الذين وقفوا خلفها، دوليين وإقليميين، في أن يستعجلوا نعيها. لم يُستنفَد الخيار السياسي والديبلوماسي. بل يجب ألا يستنفد بهذه السرعة، أياً كانت الخروقات اليومية لوقف النار وأعمال العنف. فلا أحد من اللاعبين يملك بدائل لمعالجة الأزمة. جميعهم توافقوا على أنها الفرصة الأخيرة… وعدم استغلالها حتى النهاية يعني انزلاق حتمي إلى حرب أهلية واحتمال انهيار الدولة وزعزعة الاستقرار في المنطقة كلها. ولا أحد منهم يملك وسيلة يمكن أن تدفع بالنظام إلى الانهيار، مثلما ليس في جعبة النظام ومن يواليه ويدعمه ما يمكن أن يوقف الحراك ويلحق به هزيمة ساحقة.
المطلوب ألا يقطع أحد مسيرة التفاوض أياً كانت العقبات، ومهما بدا أن الحل السياسي شبه مستحيل. هذا التفاوض في الأزمة السورية يواكبه تفاوضٌ موازٍ في الملف النووي الإيراني انتهى أيضاً بخلاف المراحل السابقة من الحوار. مايكا مان الناطق الرسمي باسم وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كاثرين أشتون، وصف محادثات اسطنبول بأنها «تختلف تماماً» عن سابقتها قبل 15 شهراً، وأن «المبادئ لإجراء مفاوضات جديدة متوافرة»، و «كل الدول أبدى الرغبة في عقد اجتماعات ثنائية».
التفاوض إذاً حاجة لجميع الأطراف الذين هم أنفسهم في الملفين السوري والإيراني، دوليين وإقليميين. فلا الولايات المتحدة وحلفاؤها كفوا عن التشديد على الحل الديبلوماسي مع طهران ودمشق، مترافقاً مع سيل من العقوبات. ولا روسيا وحلفاؤها توقفوا عن صد ما يعدونه «هجمة غربية» على النظامين الإيراني والسوري، متمسكين بالقانون الدولي ووجوب عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. ويعرف الروس أن توكُّؤهم على ما يعدونه مواثيق دولية قد لا يفيد طويلاً في وقف موجة التغيير التي تجتاح العالم العربي والحراك الداخلي في سورية تالياً، ولا في وقف سعي أميركا والدول الأوروبية إلى مزاوجة هذه التطورات مع مصالحهم السياسية والاقتصادية والعسكرية. وفي حين تبدو الدول الغربية أكثر براغماتية، تبدو روسيا كأنها لا تود مفارقة مفاهيم وأدوات السياسة السوفياتية في مقارعة ما تسميه «انعدام الأخلاق» في سياسات الغرب، كما عبر بوتين ومسؤولون روس في مناسبات عدة. لعل هذه الديبلوماسية القديمة تعيد إليهم الكثير مما فقدوا منذ سقوط الحرب الباردة.
واضح من محادثات اسطنبول أن الحرص على مواصلة الديبلوماسية دورها لا يقتصر على أميركا وشركائها، بل تحتاج إيران أيضاً إلى البقاء في مربع الحوار لئلا ينتقل خصومها مستقبلاً عندما تتوافر الظروف إلى المواجهة التي لا يرغب أحد حتى الآن في الوصول إليها. لذلك عادت طهران إلى طاولة الحوار بعد غياب طويل ومعاندة. ولذلك أيضاً انضمت إلى الإجماع الدولي على مهمة كوفي أنان. ولم يبق أمام النظام السوري سوى التجاوب مع هذا الاجماع، أياً كانت النيات ومدى صدقها في التزام منطوق هذه المهمة الدولية-العربية. كما ليس أمام المعارضة غير التجاوب مع هذه الرغبة الدولية. ولا حاجة إلى رفع الصوت ومزيد من الخلاف على موضوع التدخل الدولي على غرار ما حصل في ليبيا، فالتدخل الخارجي ليس متوافراً وينتظر من يفتح له الأبواب، لا من الحلف الأطلسي ولا من تركيا.
مهمة المبعوث الدولي-العربي وجدت لتبقى حية حتى تتبدل المعطيات والظروف المحيطة بكل ملفات المنطقة وليس الأزمة السورية وحدها. لا تملك واشنطن حلاًّ، ولا موسكو، لذلك يحرص الجميع على عدم استعجال فشل المهمة. روسيا كفيلة بإقناع الرئيس بشار الأسد بتوفير الحد الأدنى من الشروط لانتشار المراقبين الدوليين ومن ثم الإعداد لإطلاق عملية سياسية ستطول بالتأكيد… حتى ينجلي ليس غبار الحوار المتجدد بين إيران والدول الست الكبار في شأن ملفها النووي، بل حتى ينجلي غبار السباق الرئاسي في الولايات المتحدة وفرنسا. وحتى يرسم فلاديمير بوتين العائد إلى الكرملين صورة حكومته الجديدة وملامح إستراتيجيته وسلم أولوياته، في ضوء كثير من التطورات، الحالي منها والقادم. كما أن حكومة رجب طيب أردوغان تحتاج هي الأخرى إلى تنفس الصعداء بعد انهيار كل مقومات ديبلوماسيتها التي بشرت بها طوال عقد من الزمن. مثلما تحتاج إلى ترتيب البيت الداخلي.
تجاوزت الأزمة السورية النماذج التي أفرزها «الربيع العربي»، من تونس إلى مصر وليبيا واليمن. من هنا يبدو أفق الحلول مسدوداً، ومآل الحراك مفتوحاً على المجهول. ميزان القوى سيظل قائماً على توازنه الحالي ما لم تحدث مفاجأة كبرى: أهل الحراك على تصميمهم الذي لا يلين، رغم آلاف الضحايا والمعتقلين واللاجئين في الداخل والخارج، والنظام المصمم على خياره الأمني ورفضه الاعتراف بالأزمة ما دام خصومه في الخارج لا يفكرون لحظة في التدخل العسكري، ولم يستطيعوا فتح كوة في الجدار الروسي، بل قد يكونون مرتاحين إلى ما حققه الحراك حتى الآن، فالوضع السوري الغارق في الفوضى عطل دور دمشق في لبنان وفلسطين والعراق، وبات عبئاً على إيران الحليف اللصيق الذي يجهد للحفاظ على ميزان القوى القائم في المواجهة المفتوحة مع الولايات المتحدة.
قد تفرز الأزمة السورية نموذج حل مختلفاً تماماً يبدو شبه مستحيل بعد سيل من الدماء والدمار وبعد هذا التصدع الذي أصاب العلاقة بين النظام وأهله من جهة والشريحة الكبرى من السوريين. ولعل أقسى ما في الخطوات اللاحقة للهدنة الحالية أو لوقف الأعمال العسكرية هو الانخراط في الحوار أو البحث عن حل سياسي يسمح في نهاية المطاف بترسيخ ما يمكن أن يشكل تسوية «لا غالب ولا مغلوب». وفي هذا المجال هناك من لا يتوقع تقدماً سوى برفع مستوى مهمة أنان. كأن يكلف رعاية حل لا يفرضه النظام ولا ترسمه المعارضة. أي أن يقوم ما يشبه الوصاية، أو الرعاية التي يقرها مجلس الأمن لإجراء الإصلاحات المطلوبة تؤدي في النهاية إلى التغيير المنشود، على أن تراعى مصالح كل المكونات السورية، الطائفية والمذهبية والعرقية. أي أن توزع عليها المواقع والمناصب على طريقة «المحاصصة» اللبنانية أو العراقية.
وإذا كان على القوى الكبرى، خصوصاً روسيا، أن تحافظ على مصالحها في آخر موقع لها في الشرق الأوسط، فليس أمامها سوى الدفع في اتجاه هذه الوصاية الدولية لابتداع حل يضمن لها هذه المصالح، بضمانه مصالح القوى التي وقفت إلى جانب النظام حتى اليوم. أما السعي إلى حل يرحل معه الرئيس بعد مرحلة انتقالية، على أن تبقى التركيبة القائمة للنظام فتلك وصفة لن تنفع بقدر ما قد تدفع نحو قيام «كوريا شمالية» في الشرق الأوسط… ولكن مع قلاقل واضطرابات لا تستقر معها لا البلاد ولا جيرانها ولا الشرق الأوسط.
إن قراءة متأنية لما جرى حتى اليوم في سورية تثبت أن الصراع ورفع التحدي حتى النهاية سيفضيان إلى خيارات لا يروق لأحد التفكير فيها. فبعض السوريين يرفض الحديث عن إمكان انزلاق البلاد إلى حرب أهلية مفتوحة ومدمرة، على رغم أن نذرها وصورها قائمة في ما يحدث اليوم. وبعض آخر يكابر ويعاند في رفض الاعتراف بالواقع وما يحتمه من تغيير. يهرب مع النظام إلى الحديث عن «المؤامرة» لإعادة رسم خريطة المنطقة وتغيير الحدود التي رسمها اتفاق سايكس-بيكو البريطاني الفرنسي. علماً أن الحرب الأهلية، قد تقود إذا اهتز ميزان القوى القائم داخلياً وخارجياً، إلى كسر القوس الإيراني القائم من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق ليستقيم السد السني من العراق وسورية… ولبنان في وجه الجمهورية الإسلامية. أو قد تقود إلى تعزيز هذا القوس، إذا أعيد رسم خريطة سورية وتواصل خط الساحل من اللاذقية إلى بانياس فطرطوس… وحمص التي تشكل عقدة الوصل مع لبنان وبقاعه، مثلما تشكل صلة الوصل بين عاصمتي الشمال السوري وجنوبه فضلاً عن الداخل الشرقي. وعندها يصبح ذاك السد بين فكي كماشة. هل هذا ما يريده نظام الرئيس الأسد وأهله الذين «يواجهون مؤامرة خارجية» لتدمير البلاد؟ أم هذا ما يريده خصوم النظام الذين يرفضون منطق الاحتراب الداخلي والتفتيت أيضاً؟