صفحات الرأي

مهمة تاريخية/ كريم مروة

شغلت نفسي، منذ مطالع السبعينات من القرن الماضي، في مهمة شاقة تتعلق بإيجاد علاقة صحيحة غير مفتعلة بين قيم الاشتراكية كمشروع يرمي إلى تغيير شروط حياة البشر نحو الأفضل والأرقى والأكثر عدالة، وبين القيم الروحية التي تشكل جوهر الأديان وجوهر رسالاتها.  لم يكن هدفي من تلك المهمة الشاقة التوفيق بين ما لا يمكن التوفيق بينهما، أعني الجانب المادي في الفلسفة الماركسية والجانب المثالي في الدين.  كان جلّ همي التأكيد بأن أهداف الاشتراكية وأهداف احزابها لا تتعارض مع جوهر الدين، لا في القيم الانسانية العامة ولا في ما يتصل بحياة الناس وبسعادتهم حيث يولدون ويمارسون نشاطهم في أوطانهم المختلفة.  فقد كان الشائع، في وعي الناس المرتبطين عضوياً وعفوياً بأديانهم وبالطقوس المعممة بإسمها، أن الشيوعية والاشتراكية تساويان الالحاد والكفر، وأن على المؤمنين أن يبتعدوا عنهما وعن أحزابهما لئلا يفسد ايمانهم!  لم يكن ذلك الموقف الشائع المعمم في شكل متعسف صحيحاً بالمطلق، لا في المبادئ الاشتراكية ذاتها ولا في السياسات التي كانت تمارسها الأحزاب الشيوعية والاشتراكية في بلداننا وفي العالم.  فقد كانت الأنظمة الداخلية للاحزاب الشيوعية والاشتراكية خالية من أي ما يمس بالعقائد الدينية للذين يرغبون في الانتساب إليها.  كان الشرط الأساسي لمن يريد الانتساب إلى أي من تلك الأحزاب الموافقة على برنامجها السياسي، أية كانت عقيدته الدينية أو الفلسفية.  وكان لينين شديد الوضوح في هذا الأمر عندما دعا الكهنة للانتساب إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الذي أصبح يحمل إسم الحزب الشيوعي، مع الاحتفاظ بكامل عقائدهم الدينية، شرط أن يوافقوا على البرنامج السياسي للحزب وينخرطوا في إحدى منظماته ويمارسوا النضال لتحقيق برنامج الحزب.  لماذا إذن شاعت تلك الأفكار عن الشيوعية والاشتراكية منذ البدايات، لا سيما في بلداننا؟  لنتذكر ونحن نحاول الاجابة عن هذا السؤال بأن القوى الرجعية المدنية والرجعية الدينية في كل مكان قد إستنفرت كل طاقاتها في أعقاب إنتصار ثورة أوكتوبر لمواجهة ما إعتبرته في أفكار الثورة وفي المشروع الاشتراكي الذي كانت تبشر به وتسعى لتحقيقه متعارضاً مع مصالحها.  وكان من الأسلحة التي إستخدمتها تلك القوى الرجعية في مواجهة المشروع الاشتراكي العمل على بث أفكار تشوّه الفكرة الاشتراكية وتشوّه موقفها من الدين من خلال خلق الأحاديث والأخبار الملفقة والتفسير المشوّه لمقولة ماركس “الدين أفيون الشعوب”.  وإستندت تلك القوى إلى الوعي الديني البسيط الأكثر شيوعاً ورسوخاً في الأوساط الشعبية، لا سيما في بلداننا وفي البلدان التي تشبهها في مستوى تطورها الاقتصادي والاجتماعي والحضاري.

وأسارع إلى الرد على هؤلاء اليوم، كما فعلت منذ أكثر من خمسين عاماً مرات عديدة ومتواصلة في كتاباتي وفي كتبي، لا سيما في أربعة من تلك الكتب: “كيف نواجه الأزمة في حركة التحرر العربية (1974)، “حوارات” (1990)، “حوار الأيديولوجيات” (1997)، و”كريم مروة يتذكر فيما يشبه السيرة” (2002).  جوهر ما جاء في ردودي على تلك المواقف المتعسفة للقوى الرجعية ضد الاشتراكية هو أن هدف المشروع الاشتراكي، الهدف الأساسي، هو تغيير شروط حياة الناس نحو الأفضل والأكثر تقدماً وحرية وعدالة إجتماعية.  وقدمت في كتبي وكتاباتي شهادات من أقوال ماركس وإنجلز تشير إلى الفصل في المشروع الاشتراكي بين الجانب الفلسفي فيه والجانب السياسي والاجتماعي.  وأتوقف هنا عند النص الذي ترد فيه مقولة “الدين أفيون الشعوب”.  يقول ماركس: “الدين هو النظرية العامة لهذا العالم، خلاصته الموسوعية، منطقه في صيغته الشعبية، مناط شرفه الروحي، حماسته، جزاؤه الأخلاقي، تكملته المهيبة، أساس عزائه وتبريره الشامل.  إنها التحقيق الخيالي لكينونة الانسان، لأنه ليس لكينونة الأنسان واقع حقيقي.  إذن، فالنضال ضد الدين، هو بصورة غير مباشرة، نضال ضد ذاك العالم الذي يشكل الدين عبيره الروحي.  أن الشقاء الديني هو تعبير عن الشقاء الواقعي.  وهو، من جهة أخرى، احتجاج عليه.  الدين زفير المخلوق المقموع، قلب عالم لا قلب له.  كما إنه روح شروط اجتماعية لا روح فيها.  إنه أفيون الشعوب”.

وواضح في هذا النص إحترام ماركس لمشاعر المؤمنين المنتمين إلى دياناتهم وتأكيده بأن الدين هو قيم روحية وإنسانية في الأساس، وليس مصدراً لحل مشاكل البشر في حياتهم.  وإذ إعتبر أن من حقهم اللجوء إلى الدين في غياب مشاريع تحقق لهم شروطاً أفضل لحياتهم فقد دعا في القسم الآخر من نص المقال إلى جعل المشروع الاشتراكي لتغيير العالم هو الحل.  ومعروف أن لماركس وإنجلز مواقف إعتبرا فيها أن المسيحية الأولى والاسلام الأول كانا من أوائل الثورات في التاريخ.  وردا كلاهما على المواقف المتعسفة من الدين لدى الهيغيليين الشباب.

توقفت عند المشروع الاشتراكي على وجه الخصوص في الرد على القوى الرجعية المدنية والدينية التي يشير سلوكهما على إمتداد التاريخ، لا سيما في العصر الحديث، إلى أنها غير معنية على الاطلاق بحل مشاكل البشر، بل هي معنية في الأساس في إبقاء بسطاء الناس مغيّبي الوعي والارادة بإسم ما يبث لهم بإسم الدين ضد قيمه الروحية من طقوس وخرافات لكي يبقوا خارج الحركة التاريخية التي يشكل المشروع الاشتراكي والمشاريع العلمانية الأخرى الأساس لتغيير شروط حياة البشر نحو الأفضل والأرقى والأكثر تقدماً وحرية وعدالة إجتماعية.

لقد إنتميت إلى الماركسية، كفكر وكمشروع سياسي، منذ خمسة وستين عاماً، أي عندما كنت لا ازال في سن الثامنة عشرة من عمري.  كان قراري هذا في ذلك التاريخ قراراً ذاتياً محضاً، لم يؤثر فيه عليّ احد بالمطلق.  وكان ذلك موضع مساءلة عندي أنا بالذات، وعند والدي الشيخ أحمد، وعند أفراد عائلتي، وعند العديد من أصدقائي.  ومصدر المساءلة  يعود إلى أنني أنتمي إلى عائلة والدي الشيخ أحمد بمرجعيتها الدينية الاسلامية الشيعية الاثني عشرية.  فما الذي جعل فتى في مثل عمري يصبح ماركسياً، وينتمي إلى حزب شيوعي؟ وماذا كان موقف الأب والأم وسائر أفراد العائلة مما حدث لهذا الفتى في مثل هذا العمر؟

وأشهد أن والدي الشيخ الجليل سليل تلك العائلة الدينية العريقة الذي منه إستقيت قيمي الانسانية ظل يراقب على مدى سنوات سلوكي في ظل إنتمائي إلى الاشتراكية.  وإذ إكتشف أن القيم الذي أدخلها في وعيي منذ الطفولة ظلت هي ذاتها من دون تغيير في موقعي الجديد إرتاح ضميره، رغم أنه كان يفضل ألف مرة لو كنت قد بقيت حيث أرادني أن أكون.

واليوم، وأمام ما تشهده بلداننا من رغبة جامحة وطموح جارف عند شعوبنا لتحقيق التغيير لصالح تقدمها وتحررها وتأمين مستلزمات العيش الكريم لها في إطار دول وطنية وأنظمة مدنية، اليوم بالذات تصبح قضية التحالف الموضوعي بين المؤمنين والعلمانيين ضرورة تاريخية لتحرير بلداننا من أنظمة الاستبداد بصيغها المختلفة المدنية والدينية والعسكرية.  إنها مهمة طال إنتظارها.  وبدأت الثورات العربية المعاصرة تشق الطريق وسط صعوبات وأخطار كبيرة من الداخل والخارج إلى تحقيق تلك المهمة التاريخية.

إنني بإسم القيم الانسانية التي إستقيتها من والدي الشيخ الجليل وبإسم القيم التي دخلت في وعيي من خلال إنتمائي إلى الاشتراكية أدعو إلى جبهة متحدة متراصة بين المؤمنين والعلمانيين في قلب الثورات العربية المعاصرة لجعل هذه الثورات تحقق ما قامت من أجله.

لقد حان الوقت لخروج بلداننا من تاريخها القديم المليء بالقهر والظلم والاستبداد والتخلف إلى التاريخ الجديد الذي تبشر به الثورات العربية المعاصرة وتشق الطريق إليه.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى