صفحات العالم

مهمّشون ومستضعفون ومنسيّون وأشياء أخرى!


ماجد كيالي *

مع الثورات بدا كأن كل مجتمع عربي بات يكتشف بأنه ليس هو صورته عن ذاته، وأن تخيلّاته عن نفسه ليست هي هي، وأن هويته النمطية إنما هي مجرد برقع، يحجب طبقات أخرى، متعددة، ربما تكون أقوى من الهوية الظاهرة. وقد تبين أن تحت صورة المجتمع، ثمة «مجتمعات»، وأن معطى الهوية الجمعية إنما هو من الهشاشة بحيث لا يستطيع شيئاً أمام الهويات الفاعلة الأخرى التي يفترض أنها فرعية، أو ثانوية.

هكذا اكتشف المسلمون بأنهم متعددون، سنة وشيعة وإسماعيليون وعلويون ودروز، واكتشف المسيحيون بأنهم، أيضاً، كذلك. واكتشف الجميع بأن الانقسام الديني لا يتأتى من ثنائية مسلم – مسيحي، فقط، وإنما قد يأتي بصورة أكثر خطورة، وعلى شكل شقاق سني- شيعي، أو غيره. وعموماً فقد تبيّن بأن الإحالة على هوية دينية معينة، إنما هو استمرار للاستلاب والتنميط، اللذين قامت الثورة لنفيهما، هذا عدا عدم مطابقتهما للواقع، فقد يكون ثمة مسلم أو مسيحي لكنه ليس كذلك إلا من ناحية الموروث الديني، إذ هو علماني أو يساري أو ليبرالي أو قومي، ما يجعل التعريف بالدين ليس ذي صلة.

هذا يفيد بأن مسألة الدولة، باعتبارها دولة مؤسّسات وقانون ومواطنين، التي ابتدعها العقل البشري لتنظيم حياة البشر، باتت مفتوحة على مصراعيها، وإن بطريقة صادمة. وهذا يعني أن الثورات تحاول اليوم، وإن بطريقة معقّدة وصعبة، وربما فجّة، استعادة تساؤلات عصر النهضة، وتقديم الإجابات عليها، وهو الوضع الذي كانت قدمت المجتمعات الأوروبية الإجابات عليه، منذ قرون عدة، بشأن اعتبار الدولة مسألة تخصّ ملكوت الأرض، ولا يمسّ ملكوت السماء، في ما عرف فصل الديني عن الدنيوي.

القصد من ذلك القول إن سؤال من نحن؟ ليس مجرّد سؤال في الهوية، فقط. فعدا عن انه سؤال ملتبس، وينطوي على طبقات عديدة، فإنه يتعلق بمستوى قدرة مجتمعاتنا على التحول إلى مجتمعات حقاً. أي انه اقرب إلى سؤال ماذا نحن؟ أو كيف ينبغي أن نكون في هذه اللحظة؟ هل نحن مجتمعات حقاً؟ هل نعرّف أنفسنا باعتبارنا كذلك، وبالإحالة على دولة ما؟ إذ ليس ثمة معنى لتعريف شخص ما بكونه عربياً، مثلاً، لأن هذا تعريف بدلالة اللغة والثقافة، لا أكثر، ولأنه لا يحيل على كيانية دولتية معينة، ولا يفترض مواطنية محدّدة. وبالمقابل فإن تعريف شخص ما لكونه لبنانياً أو عراقياً أو سودانياً، مثلاً، لا يقدّم ولا يؤخّر شيئاً، في ظل ضعف البنية الدولتية لهذه البلدان، مقابل صعود الانتماءات الطائفية والمذهبية والإثنية، ومع غياب مفهوم المواطنة المتساوية، فيها.

أيضاً، فقد فتحت الثورات على مسالة الأقليات الإثنية، وضمنه فقد برزت قضية الأكراد، كجماعة قومية لم يجر تمكينها من التعبير عن ذاتها في دولة، أسوة بالقوميات الأخرى، وما يزيد من تعقيد هذه المسألة وصعوبتها توزّعها على دول عدّة، كل منها تحاول طمس هذه القضية والتلاعب بها. وبالتأكيد فإن هكذا مسألة لم يعد بالإمكان طمسها أو تجاهلها، فلا يعقل أن تسير المجتمعات المعنيّة نحو إقامة دولة مؤسسات وقانون ومواطنين، في حين ثمة أفراد، ينتمون إلى جماعة قومية، ينتقص من حقهم في التعبير عن ذاتهم، على هذا النحو.

لا يقلّل من مشكلة الكرد واقع أن ثمة شعباً أخر، هو بمثابة «أقلية»، أيضاً، يعاني من نفس التمييز، وربما أزيد منه، في البلدان العربية، على الرغم من انه ينتمي إلى الأرومة العربية ذاتها، وهي وضعية الفلسطينيين اليوم في معظم البلدان العربية. هكذا فثمة لاجئون فلسطينيون من دون وثائق، في لبنان والأردن وسورية، وثمة منهم عالقون على الحدود العراقية الأردنية والعراقية السورية، وفي أماكن أخرى. وهؤلاء يجري، أيضاً، التمييز ضدهم، في المعاملات، ويفتقدون دولتهم الوطنية الخاصّة.

ولعلّ مشكلة كل من الكرد والفلسطينيين قد تبدو مفهومة في المعطيات التاريخية والسياسية المحيطة بهما، بمعنى أو آخر، وذلك بالقياس لما يعرف في بعض البلدان العربية بجماعات «البدون»، أي مغفلي الجنسية، في بعض بلدان الخليج العربي والأردن ولبنان وسورية، وهو أمر يستعصي على الفهم، وربما انه ظاهرة غير معروفة على الصعيد العالمي، حيث لا يعقل أن يخلق إنسان في بلد ما، ولا يحمل جنسية بلده.

عموما فإن هذه الوقائع التي تثير الاستهجان يمكن تفسيرها، أيضاً، بغياب مفهوم الدولة، بمعناها ومبناها الحقيقيّين، وهو ما ينتج منه غياب المواطن، وبالتالي غياب مفهوم مجتمع المواطنين، في بلدان يسود فيها مفهوم السلطة المطلقة والرعية الطائعة؛ الأمر الذي يفترض أن الثورات قامت لتصحيحه، بأكمل وجه، وعلى النحو الأمثل.

ولا شكّ في أن المرأة تأتي ضمن قطاع المستضعفين والمهمشين في المجتمعات العربية، لذا فإن السؤال المتعلق بمكانة المرأة يعتبر من أهم التساؤلات المطروحة على الثورات، وعلى مستقبل المجتمعات العربية، لاسيما أن النساء لعبن أدواراً متقدّمة، وشكّلن علامة بارزة فيها، من مصر إلى اليمن، مروراً بتونس وليبيا وسورية. وبديهي فإن الارتقاء بمكانة المرأة ينبثق، أيضاً، من التمييز بين الديني والدنيوي، وبين ملكوت السماء وملكوت الأرض، ما يجد تمثّلاته في قيام الدولة المنبثقة من مجموع المواطنين الإفراد والأحرار والمتساوين في الحقوق من دون أي تمييز، من أي نوع.

ينبغي أن نتذكّر هنا بأن قضية الثورة في بلداننا كانت من سابع المستحيلات، وخارج نطاق التصوّرات، لا سيما أنها تجربة لا سابق لها في تاريخ مجتمعات هذه المنطقة، وهذا مصدر فرادتها؛ ولا شك في أن هذا، أيضاً، مصدر التعقيد والتحدي الكامنين فيها.

* كاتب فلسطيني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى