موحسن، العاصمة الصغرى / فراس علاوي
-1-
هذه محاولة لرصد تاريخ موحسن في ريف دير الزور الشرقي، ولعل المدينة تحتاج إلى مراجع تأريخية للإحاطة بتاريخها البعيد والقريب، لذلك نلتمس العذر من القراء عن كل حدثٍ لم يتم ذكره دون قصد، إذ لم يتسع المجال لسرد كثيرٍ من المواقف والأحداث الهامة.
في هذا القسم الأول إضاءةٌ على جوانب من تاريخ المدينة حتى قيام الثورة السورية، واستعراضٌ لانطلاقة الثورة فيها، ومساهمة أبنائها في الحراك الثوري في دير الزور المدينة، والعاصمة دمشق.
*****
على الضفة اليمنى لنهر الفرات، على بعد 20 كم من مدينة دير الزور حيث يسير الفرات شرقاً، ثمة مدينة صغيرة مؤلفة من تداخل عدة قرى، أكبرها موحسن، ومعها أخواتها: المريعية، العبد، البوليل، الطابية، الطوب.
كان يقطنُ موحسن نحو 60 ألف نسمة عام 2011 وفقَ تقديراتٍ غير موثّقة، وبلغَ عدد أبنائها المقيمين داخلها وخارجها 85177 شخصاً وفق وثائق الأحوال المدنية السورية حتى نهاية عام 2011. أغلبهم من عشيرة البوخابور، ومن عشيرة شمّر/البوليل، بالإضافة إلى عددٍ من العائلات من عشائر أخرى، سكنت المدينة على مراحل فأصبحت من أهلها. ويعتمد كثيرٌ من سكان موحسن على الزراعة والرعي، وتمتاز بارتفاع مستوى التعليم بين أبنائها، حتى أن نسبة الأمية تكاد تكون معدومة بين ذكورها، وهي منخفضة جداً بين إناثها أيضاً.
موحسن عبر التاريخ
يستعرضُ الكاتب عسّاف العسّاف، وهو من أبناء موحسن، تاريخَ المدينة ومساهمة أبنائها في الحياة العامة السورية:
«يقول حنا بطاطو في كتابه، فلّاحو سوريا.. أبناء وجهائهم الريفين الأقل شأناً وسياساتهم: «تمكن الشيوعيون في السنوات القليلة التالية من كسب فلاحين سنّة عرب أول مرة، ولا سيما في منطقة كفر تخاريم شمال غرب إدلب، وفي المنطقة الواقعة شمال شرق دير الزور، ولا سيما قرية الموحسن على الضفة اليسرى من الفرات التي أصبحت تعرف بـ موسكو الصغرى، فهنا قاوم فلاحون ينتمون لعشيرة البوخابور، وهي فرع من قبيلة العقيدات، بقيادة معلمين شيوعيين من دير الزور وأعضاء الخلايا الشيوعية في المدرسة الابتدائية المحلية في صيف عام 1953م، الاعتداءات على أرض القرية المشاع من إحدى أقوى عائلات المنطقة التي كانت تتألف من تجار حبوب أغنياء ومرابين وأصحاب مضخات مياه، وتربطها علاقة قربى بوزير الزراعة في ذلك الحين. ولتحرير الفلاحين من الاعتماد على هذه العائلة، أقنعهم الشيوعيون بتنظيم أنفسهم في شركة عامة وشراء مضختين وجرارين من المال الذي قاموا بجمعه عبر الاكتتاب بأسهم من رأسمالها».
تاريخُ موحسن هو تاريخٌ شفوي وصل إلينا عبر الحكايات والمرويّات من آبائنا وأجدادنا، ما كُتِبَ منه وتم توثيقه يخص المئة السنة الأخيرة فقط، أما قبل ذلك فقد بقيت نتفٌ وأخبارٌ تكاد تضيع وتندثر. واسم المدينة هو اسم مركب من مقطعين؛ موح وحسن، والموح هو الأرض التي تنحسر عنها مياه فيضان النهر. سكانها البوحليحل، وهم قسم من عشيرة أكبر تدعى البوخابور تسكن في القرى التابعة لناحية موحسن، العبد والمريعية، وهؤلاء جزء رئيس من العقيدات، القبيلة الكبيرة التي تعاقدت مكوّناتها وأفخاذها وانضمت تحت راية واحدة لدفع أذى القبائل البدوية التي كانت تهاجم مناطقها على الدوام.
تقول المرويات إن البوخابور قدموا من نواحي حمص وحماة (أو البلاد، بتسكين الباء، كما يسميها كبار السن في موحسن، ويذكّر هذا الوصف بحال الفلسطينيين السوريين عندما يتكلمون عن فلسطين قبل 1948م)، وسكنوا هذه المنطقة منتصف القرن الثامن عشر حتى أواخره، ولا دليل تاريخياً على ذلك سوى تقديرنا الشخصي ومقاطعة المعلومات القليلة المتوافرة. إلا أنه لدينا معلومة جديرة بالذكر هنا، وهي أن محمد العساف هو أول من دفن في القرية بجانب أثر روماني يدعى أبو نهود، وتموضعت المقبرة هناك إلى يومنا هذا، وكان ذلك أواسط القرن التاسع عشر، أما قبل ذلك فكان أهل القرية يدفنون موتاهم في مقبرة المدينة بدير الزور.
تقول مروية أخرى إن أحد أبنائها اختير ليُبتعث للدراسة في مدرسة العشائر العربية التي أسسها السلطان عبد الحميد الثاني في اسطنبول عام 1892م، لكنه لم يذهب لسبب ما. وتلك المدرسة هي التي تخرج منها رمضان باشا شلاش، أحد قادة الثورة السورية ضد الإنكليز ومن ثم الفرنسيين في الفترة نفسها، وانطلق منها إلى المدرسة الحربية.
ما هو موثّق من تاريخ القرية يبدأ من عام 1920م، حيث واجه أبناء البوخابور آنذاك حملة فرنسية كبيرة كانت قادمة لإخضاعهم وإجبارهم على دفع الضريبة في منطقة تدعى الشروفية، وكبدوا هذه الحملة خسائر كبيرة، وشتتوا شملها، وقتلوا قائدها ريتشارد الملقب بـ «ريشان»، وغنموا منها بعض الأسلحة الثقيلة. وعندما بدأت الطائرات الفرنسية بقصف هذه المنطقة انتقاماً من أهلها، قرر عدد من رجال البوخابور التسلل إلى مطار دير الزور وإحراق الطائرات في مرابضها، وهكذا كان. أحرق الثوار الطائرات التي استقدمها الفرنسيون من مطار حلب لقصف المنطقة، والتي كان عددها أربع عشرة طائرة، ممّا جعل الفرنسيين يقومون بالقصف مجدداً انطلاقاً من مطار حلب البعيد، قبل أن يتم إخماد الثورة وإجراء تسوية مع الأهالي. يقول شاعرٌ شعبيٌ كان حاضراً في تلك المعركة، واصفاً العدد الكبير من قتلى الفرنسيين:
تلاقينا إحنا وياهم بمزراق ثردة.. وأشبعنا وحوش ثردة والذيابا
وثردة هذا مرتفعٌ صغيرٌ بجانب دير الزور، وهو الذي قصفت فيه الطائرات الأمريكية جيش النظام «بالخطأ» في أيلول 2016م.
هذا المطار الحربي سيتحول لاحقاً إلى حي سكني في الخمسينيات، وسيحمل اسم المطار القديم، وستسكنه أغلبية من أبناء موحسن والقرى المجاورة. يُذكر أن أولى مظاهرات الثورة السورية في دير الزور انطلقت من هذا الحي، في الخامس والعشرين من آذار 2011م.
مع افتتاح أول مدرسة ابتدائية في القرية عام 1947م، دخلت الشيوعية عبر معلم من دير الزور يدعى مدّاح الصايغ، حيث ساهم هذا المعلم في جذب عدد من شباب القرية إلى الحزب الشيوعي السوري، وكان ما ذكره حنا بطاطو عن مقاومة الفلاحين لعائلة الهنيدي الإقطاعية المدعومة من عبد الرحمن هنيدي، وزير الزراعة في حكومة فوزي سلو آنذاك. يعودُ أصل هذه الحادثة إلى أن عائلة الهنيدي كانت تريد الاستيلاء على أراض مشاع في القرية دون أن تمنح فلاحيها أي نصيب، واستعانت بقوة الشرطة والجيش لتنفيذ هذا الأمر، إلا أن رفض الأهالي ومقاومتهم أجبرت الحكومة على التدخل وتسوية المسألة بأن أعطت الأهالي نصف الأرض المتنازع عليها، وعقب هذه الحادثة أُنشئت الجمعية التعاونية في موحسن، وكانت أول جمعية في محافظة دير الزور، ومن الأوائل في سوريا كلها.
روى لي والدي كيف أن أحد الفلاحين استلقى أمام مدرّعة حربية، ومنعها من التقدم والاستيلاء على الأرض.
ومع قيام الوحدة بين سوريا ومصر كان عددٌ من وجهاء القرية ضمن الاتحاد القومي الذي أسسه جمال عبد الناصر، وزارَ قسمٌ منهم الإقليم الجنوبي بدعوة من المشير عبد الحكيم عامر والتقوا معه».
صورة تاريخية تُظهرُ الكتابةُ التركية القديمة في أسفلها أنها ترجع إلى عام 1327 ه الموافق لعام 1909 م، وأنها صورة كُتّابٍ ابتدائي في موحسن في سنجق دير الزور.
صورة تاريخية تُظهرُ الكتابة التركية القديمة في أسفلها أنها ترجع إلى عام 1327 ه الموافق لعام 1909 م، وأنها صورة كُتّابٍ ابتدائي في موحسن في سنجق دير الزور.
كان التوجه نحو التعليم والثقافة والعمل العام من السمات الأساسية لدى أبناء موحسن، ولهذا التوجه أبعادٌ تاريخية ونتائج ومظاهر يتحدث عنها عمر المُلّا، أحد شباب المدينة وباحثيها:
«كانت عموم الأراضي القريبة من حدود الدولة العثمانية تتأثر أكثر من غيرها بالقوانين والأنظمة العثمانية، ومنها نظام الكتاتيب التي انتشرت في القرى والمدن، وهي طريقة بدائية في التعليم تهتم بالقراءة بنطق صحيح وبمبادئ الحساب، حيث يكون في المدينة الواحدة كُتّابان أو أكثر، وكُتّابٌ واحدٌ لكل قرية أو اثنتين.
رغم طريقة التعليم البدائية تلك، إلا أنها كانت نقطة انطلاقٍ علميٍ في بعض المدن والقرى ومنها مدينة موحسن، التي باتت لاحقاً تُعرَف كقرية «تقدمية»، وأُطلق عليها اسم «موسكو الصغرى»، وألقابٌ أخرى مثل «بيت الضباط» و«دولة داخل دولة»، وذلك لكثرة أبنائها المتعلمين والعاملين في دوائر الدولة والجيش. كان ذلك منذ نهاية الستينيات حتى نهاية الثمانينيات، حيث كان هناك جوٌ علميٌ وثقافيٌ عامٌ مسيطر، إذ تبدأ القصة منذ دخول الشخص إلى المدرسة طفلاً، وحتى تخرجه جامعياً ليلعب دوره في المجتمع.
تم افتتاح أول مدرسة حديثة فيها بعد الاستقلال عام 1947، وكانت نقلة نوعية في التعليم من الكتّاب والشيخ إلى المدرسة والمعلم، ثم تزايدت المدارس منذ ذاك التاريخ حتى بلغت خمساً لكل مراحل العملية التعليمية في نهاية الستينات. وكان الطلاب في مرحلتي التعليم الإعدادية والثانوية من مشارب سياسية عدة، فمنهم القومي السوري والشيوعي والإخواني والناصري والبعثي، ومنهم أيضاً أصحاب الرؤى السياسية المستقلة التي تنأى عن الأحزاب والتيارات السائدة. لم يكن الاختلاف الإيديولوجي دافعاً للعداء والصدام في تلك الأيام، ولعل ذلك يرجع في أحد أسبابه إلى أن أولئك الطلاب كانوا من منابت اجتماعية وطبقية واحدة، فكان اختلافهم ينعكس في سهراتهم ونقاشاتهم الدائمة والغنية.
حملت فترة السبعينيات الطلاب إلى السعي بجد نحو البناء والتحصيل العلمي، ومن لم تكن تساعده ظروفه على مواصلة التحصيل العلمي العالي كان يلتحق بالجيش، أو يبحث عن عمل يسيّر له حياته. أما الذين يتابعون دراستهم فتجد بينهم القضاة والأطباء والمهندسين والمدرسين والضباط، وكأنما أصابتهم عدوى الشهادات الجامعية والعلمية، مما زاد التنافس بينهم ضمن البيت الواحد وضمن الحي.
كان أبناء موحسن في فترة السبعينيات والثمانينيات يشكلون نسبة 50 بالمائة من المدرسين الموجودين فيها، وهذا كان استثنائياً في المنطقة الشرقية، ويعدُّ في حدّ ذاته شهادة وثيقة الصلة بما سبق ذكره. كذلك انتشرَ أبناء موحسن في عدة محافظات وبلدان ومدن، ذهبوا إليها للدراسة أو العمل فاستقروا فيها، ومنهم من عاد بعد سنين يحمل ثقافة المنطقة التي عاش فيها، ودليل ذلك أن معظم أبناء المحافظات السورية يعرفون قرية موحسن في محافظة دير الزور، ويعرفونها أيضاً باسم «موسكو الصغرى».
يروي بعضٌ من معاصري تلك الأيام أن المدارس التي بُنيت كانت كلها على عاتق أهل القرية، حيث الأرض تبرعٌ ومعظم اليد العاملة متطوعة. وعلى الرغم من أهمية الأرض بالنسبة للفلاحين، فقد كان بعضهم يتنازل عنها لبناء المدارس. ويُروى أيضاً أنه في فترة السبعينيات قام أحد المعلمين في المدرسة بأخذ الطلاب المكلفين بمعسكرات الصاعقة وتوزيعهم على مجموعات، كل مجموعة تؤدي خدمة لأحد أبناء القرية من زراعة أو حصاد أو خدمات عامة كتعبيد الطرقات، ويُقال إنه من هنا ظهرت فكرة المعسكرات الإنتاجية.
ثم كانت فترة الثمانينيات، وما حملته من ويلات على الحياة السياسية والحزبية، فأصاب موحسن خلالها كثيرٌ من الأذى، وذلك بالاعتقالات التي طالت كثيراً من أبنائها الذين غيبتهم السجون لأعوام، أو إلى الأبد».
موحسن ونظام الأسد
كما كان حال كثيرٍ من أرياف سوريا وأطرافها، عانت منطقة دير الزور من التهميش في عهد الأسد، وهو لم يكن تهميشاً على المستوى التاريخي والاجتماعي فقط، بل تعدّاه إلى تهميشها اقتصادياً كما ذكر الكاتب عسّاف العسّاف، وهي المنطقة الزراعية الغنية بالقمح والقطن والشوندر السكري والذرة الصفراء والخضار وغيرها من الزراعات.
لم تكن هناك خطط تنمية زراعية ناجحة في منطقة موحسن، وأصابت أراضيها كثيرٌ من مشاكل التملح والتصبخ، حتى غدت غير قابلة للزراعة، ما دفع كثيراً من أهلها إلى الهجرة بحثاً عن حياة أفضل، فاتجهوا نحو التعليم بكثافة، واختار كثيرون منهم الطريق الأقصر، وهو التطوع في الجيش الذي كان إلى أمد قريب الوجهة المفضلة لأبنائها كضباطٍ أو صف ضباط، أو في العمل سلك الأمن والشرطة، وهو ما أعطى المدينة ميزة إضافية، حيث كان وجودهم ظاهراً للعيان في كل قطعات الجيش، ووصلَ بعضهم الى رتب متقدمة في الجيش، لكن دون أن تتعدى رتبة عميد.
كان عقدُ الثمانينات من القرن العشرين وبالاً على المدينة، حيث كان صدامُ السلطة مع جماعة الإخوان المسلمين قد بدأ في حماة وحلب ودير الزور. كان عددٌ من أبناء المدينة من أعضاء الجماعة، فشهدت المدينة اعتقال كثيرٍ من شبابها، وطورد كثيرون آخرون منهم فلجأوا الى بلدان الجوار، حتى غدت تهمة الانتساب للإخوان والتعاون مع حزب البعث العراقي هي التهمة الجاهزة لأي شاب يبحث عن استكمال التعليم أو التوظيف أو الانتساب إلى الجيش، وكان السجل الأمني هو الأهم من بين جملة الشهادات والوثائق التي يحملها الشاب.
وعن تاريخ موحسن تحت الحكم البعث والأسد، يتابع الكاتب عسّاف العسّاف شهادته:
«أُهملت القرية تماماً في عهد البعث، ولم يحدث أي تقدم ملحوظ على صعيد البنية التحتية، إذ بقيت موحسن دون محطة تصفية مياه، فكانت تشرب مباشرة من ماء النهر حتى منتصف التسعينيات، وهي التي تتناثر بيوتها على ضفة النهر تماماً. ويلخّص هذا ويقول كل شيء عن مستوى البنية التحتية فيها، من طرق ومدارس وكهرباء وصحة، مثلها في هذا مثل أغلب قرى ومناطق ريف دير الزور والمنطقة الشرقية عموماً، هي خزانٌ بشريٌ مهمته فقط رفد ما يريده نظام البعث الأسدي من أفراد في الجيش والشرطة، وخاصة في فترة السبعينيات والثمانينيات.
بِدءاً من الستينيّات سيصبح تاريخ موحسن هو تاريخ أبنائها في الخارج، أولئك الذين غادروها بحثاً عن العلم والدراسة وشروط حياة أفضل، إذ لا تخلو مدينة سورية كبيرة من عدد منهم. تذررَ أبناء موحسن في بنية الدولة السورية، خاصة في قطاع الجيش والتعليم العالي، المئات منهم دخلوا سلك الجيش جنوداً وصف ضباط. ومرت أيام لا يكاد يخلو فيها بيت في موحسن من ضابط أو طبيب أو مهندس أو معلم، وأحياناً جميعهم سويةً. في إحدى سنوات الثمانينيات قُبِلَ من أبناء دير الزور واحد عشرون طالباً في إحدى الكليات العسكرية، سبعة منهم من موحسن وحدها، إلّا أنه لا أحد من ضباط موحسن وصل إلى رتبة عالية أو منصب حسّاس، كان الجميع يُسَرَّح من الخدمة قبل ذلك، أو يُنقل إلى مكانٍ هامشي.
هذه الفجوة بين واقع القرية التنموي والثقافي والسياسي الرديء، والتقدم الفردي الذي أنجزه أبناؤها المهاجرون، اتسعت أكثر فأكثر في السنوات اللاحقة، وقلةٌ قليلةٌ جداً عادوا وسكنوا القرية. ثم عادت بعض النزعات ما قبل الوطنية كالعشائرية للظهور في القرية، ولم يستطع أبناؤها إحداث فرق ملحوظ على مستوى العمل المدني المنظم فيها.
بقيت القرية دون نشاط مدني أو أهلي مهم من جمعيات ثقافية أو جمعيات نقابية تخدم الناس وتحسّن من مستواهم المعيشي وتعوض غياب الدولة، وانحصرت تلك الجهود في إطار العمل الخيري البسيط من خلال جمعيات خيرية وأهلية أقرب للعائلية، تُقدّم بعض المساعدات البسيطة في حالات الوفاة والمرض وغيره».
رياح الثورة تهب على موحسن
بفعل التاريخ الحافل للمدينة، والعلاقة المتوترة مع النظام منذ الثمانينيات، وارتفاع الوعي الثقافي والسياسي بين أبنائها، كان كثيرون منهم ينتظرون أي دعوة للتغيير بعيد انطلاق الثورة التونسية وما تلاها من مظاهرات وثورات في عدة دولٍ عربية.
كان النظام مدركاً لهذه الجزئية، فكثّف نشاطه في المدينة، وبدأت دورياته تظهر في شوارعها على غير المعتاد، ليقوم وقبيل انطلاق شرارة الثورة السوري بأيام باعتقال أحد منتسبي الحزب الشيوعي المعروفين في المدينة، وهو معتقلٌ سابقٌ، وذلك بتهمة حمل وريقات تدعو لتغيير الدستور، وقد أفرج عنه بعد ذلك بأيام.
شهدت مدينة موحسن حملات كبرى من الكتابة على الجدران مع انطلاق مظاهرات درعا، فكانت العبارات تحيي درعا والمدن المنتفضة، وكان عناصر النظام وأعوانه يسارعون إلى مسحها بشكل يومي، حتى أنهم خصصوا ميزانية لذلك.
موحسن في ثورة دير الزور
كان يوم الجمعة 25/3/2011 في مدينة دير الزور مشحوناً بالترقب، بسبب انطلاق المظاهرات في مدينة درعا، وتعامل النظام معها بقسوة، ودعوة ناشطين للتظاهر في عموم البلاد. كان الجميع متلهفاً لرؤية ما سوف يحدث، وكان عددٌ من الشبان ينسقون فيما بينهم للخروج في مظاهرة في دير الزور تضامناً مع درعا.
كان الاتفاق على الخروج من مسجد عثمان بن عفان في حي المطار القديم، لكن لأسباب خارجة عن إرادتهم انقسموا الى قسمين. قسمٌ منهم خرج من مسجد عثمان، وهو الخروج الذي سجلته ذاكرة الثورة بوصفه شرارتها في محافظة دير الزور، والقسمُ الآخر حاول الخروج من مسجد الصفا في حي العمال.
كان الناشط الاعلامي ياسر العلاوي، وهو من أبناء موحسن، في مسجد عثمان ذلك اليوم، وروى لنا شهادته على تلك المظاهرة:
«كان الشباب في دير الزور عامة، ومدينة موحسن خاصة، متابعين لما يجري في درعا. وكانوا قبل ذلك متابعين لثورات الربيع العربي، وينتظرون أن يحدث ما يدفعهم للانخراط بعملٍ ثوري. بدأ عددٌ من الشبان يبحثون عن كيفية القيام بعمل مساند لانتفاضة درعا، ويكون بداية لطريق الثورة في دير الزور.
في يوم الجمعة 25/3/2011، وبينما كنا في مسجد عثمان في حي المطار القديم، وبعد انتهاء الخطبة، صاح أحد أصدقائي مكبراً ونهض مسرعاً ليلحق به آخرون. كنا حوالي 60 شاباً، وأصاب الذهول بعض المصلّين، وخاصة من كبار السن الذين حاولوا منعنا من الخروج، لكن الأمر أفلت من أيديهم، خاصة أننا في حي المطار القديم لم نعاني ما عاناه الذين خرجوا من مسجد الصفا، حيث كان خطيب مسجدنا مسانداً لنا.
استطعنا الخروج من المسجد، وكان هدفنا الأول دوار غسان عبود. وصلَ عددنا إلى نحو 70 شخصاً، أغلبنا أصدقاء وأقرباء من مدينة موحسن، كون أغلب سكان الحي ينحدرون منها، ومعنا بعض الأصدقاء من دير الزور المدينة. لم نستطع السير كثيراً، فقوات الأمن لم تلبث أن تجمعت ومعها شبيحة ومؤيدون قاموا بالهتاف للنظام وبشار الأسد وهاجموا مظاهرتنا، في حين قام الأمن بتعقبنا واستطاع القبض على بعض المتظاهرين الذين كانوا من أوائل معتقلي المحافظة».
لم يُكتب النجاح لمظاهرة جامع الصفا، وذلك لأسباب ساقها أحد من حضروا محاولة التظاهر تلك، وهو من أبناء موحسن. يقول أبو علي: «كنا مجموعة لا تتعدى 25 شاباً قد قررنا الخروج، وعندما بدأ خطيب المسجد بتمجيد نظام الأسد والثناء عليه، وقفَ أحد الشبان ليقول له: كفاكم كذباً ونفاقاً. كانت هذه الكلمات كفيلة بقيامنا حسب الاتفاق والهتاف لدرعا وللحرية وسط ذهول المصلين، الذين لم يكونوا يتوقعون ما حدث.
صاح إمام المسجد طالباً الإمساك بهؤلاء المخربين حسب تعبيره، قائلاً إنهم ليسوا من أبنائنا. هنا هجم علينا عددٌ من المصلين، ودارت معركة بالأيدي كانت نتيجتها احتجاز قسم كبير منا من قبل المصلين قبل وصول الأمن، حيث تم احتجازنا في القسم الخارجي القريب من المسجد، لنُساق فيما بعد الى فرع الأمن السياسي، حيث وجدنا أمامنا معتقلي مظاهرة جامع عثمان وهم أول من اعتُقِل عند انطلاق الثورة، حيث تم التحقيق معهم وإطلاق سراحهم بعد تعهدات من قبل أهاليهم».
تواصلت المظاهرات بعد ذلك، وبدأ الحراك ينتشر ويصبح أكثر تنظيماً، حتى كانت مظاهرات جمعة التحدي 6/5/2011، حيث اعتقل النظام كثيراً من الناشطين ومنهم أكرم العساف الذي بدأ اسمه يتردد كواحد من أبرز ناشطي المدينة آنذاك، واعتصم الاهالي مطالبين بالإفراج عنه وعن عدد من رفاقه الذين اعتقلوا معه.
هكذا شارك أبناء موحسن إخوانهم في دير الزور ثورتهم، ومن بينهم معاوية الخضر، الملقب «سلمية» بسبب نشاطه في المظاهرات، الذي تحدث لنا عن مشاركة أبناء موحسن وشهدائها في مظاهرات دير الزور:
«كان عدد القاطنين من أبناء موحسن في دير الزور كبيراً نظراً لارتباط أهلها بأعمالهم ودراستهم، ولم تقتصر مشاركتهم على المظاهرات الاولى بل استمر أبناؤها يشاركون رفاقهم المظاهرات في جميع أحياء المدينة، وإن تركز وجودهم في حي المطار القديم. وفي جمعة أطلق عليها الناشطون اسم أطفال الحرية بتاريخ 3/6/2011، ارتقى أول شهداء محافظة دير الزور، الشهيد الشاب معاذ الركاض من أبناء قرية المريعية التابعة لمدينة موحسن، وهو شابٌ لا يتجاوز السادسة عشرة من العمر.
احتجزت قوات النظام جثته طالبةً من أهله التوقيع على أن من قتله هي العصابات الإرهابية، فكان رد الأهل أن ابنهم استشهد على يد قوات الأمن، وأنهم لا يريدون الجثة لكنهم سيقومون بتشييعه رمزياً رغم التحذيرات، ما اضطر قوات الأمن لتسليم جثته. كان تشييعه مفاجئاً إذ خرج آلاف المشيعين الذين جابوا شوارع المدينة، ليتم دفنه في مقبرةٍ أُطلِقَ عليها لاحقاً مقبرة شهداء الحرية، حيث دارات مواجهات مع قوات الأمن ما أدى لارتقاء شهداء جدد، واستمرار المظاهرات وتصاعدها لاحقاً.
جاء اغتيال حسان الدخول، ابن قرية البوعمر في مدينة موحسن، ليكون فارقاً في مرحلة المظاهرات، حيث شهدت زخماً كبيراً في تشييعه.
زادت قوات الأمن من عنف ودموية قمعها للمتظاهرين، ما دفعهم لتشكيل مجموعات دفاعاً عن أنفسهم، خاصة بعد تكرار إطلاق النار على المتظاهرين».
في تلك الفترة بدأ عدد من شباب دير الزور تنظيم أنفسهم في مجموعات حماية داخل الأحياء باستخدام العصي والأسلحة بيضاء، وأحياناً بعض الأسلحة الخفيفة. ثم كان اجتياح جيش النظام للمدينة مطلع آب وسيطرته على معظم الأحياء وتسيير دوريات ووضع حواجز، فأصبح التظاهر بالغ الخطورة ما اضطر الناشطين للخروج في مظاهرات طيارة وسريعة. استمر التظاهر محدوداً حتى أواخر آب، حيث حصل تحولٌ أعاد للمظاهرات زخمها كما يقول معاوية الخضر: «في 26/8/2011 استشهد واحدٌ من أبرز ناشطي الثورة آنذاك، هو الشاب مرعي الحسن من أبناء موحسن، الذي كان أحد قادة الحراك ويطلق عليه الرجل البخاخ، وذلك بعد مواجهة مع أحد الحواجز خاضها منفرداً بمسدس دفاعاً عن المتظاهرين. كان عناصر الأمن يهابونه ويحسبون له ألف حساب، ولذلك أطلقوا عليه النار حتى بعد تأكدهم من موته.
أعاد تشييعه الروح للمظاهرات، التي تواصلت رغم القمع والاقتحامات. وخرج أبناء دير الزور في مظاهرات بالتزامن مع زيارة المراقبين العرب مطلع عام 2012، لكن قوات النظام وأمام أعين المراقبين قتلت أكثر من 12 شاباً يوم 10/1/2012، كان نصيب أبناء موحسن ثلاثة منهم: حذيفة غدير، زهير المشعان، وعبد الحميد الحشتر. ومن الجدير بالذكر أنه قد استشهد في مراحل الثورة اللاحقة أربع أخوة لزهير، وأربع أخوة لعبد الحميد.
خرجت عائلات الشهداء الثلاث في مظاهرة تشييع واحدة، وبعدها أصبح التسليح ملحوظاً على نطاقٍ أوسع. كان بعض أبناء موحسن ممن حملوا السلاح في المدينة لحماية المظاهرات، إذ بدأت مجموعات تحت مسمى الجيش الحر بنصب الكمائن لقوات النظام.
مع التحول إلى الثورة المسلحة، بقي بعض أبناء موحسن في المدينة متوزعين على أغلب الفصائل، كان من أبرزها كتيبة أسود السنة التي كان أغلب عناصرها من أبناء موحسن، حيث استشهد قائدها محمود خلف الصالح المدعو محمود الحلبي وأخوه نهاد في حي العمال. كذلك استشهد واحد من أبرز القادة العسكريين، الدكتور خليل البورداني قائد كتائب محمد، والناطق باسم المجلس العسكري آنذاك، والشيخ نبيل العبد أحد القادة الميدانيين، إضافة لعدد من شباب مدينة موحسن في مجزرة النفوس. شاركت كتائب موحسن في مختلف معارك المدينة، وقدمت الشهداء خاصة في معارك الدفاع المدني والهجانة وغيرها، وبقي بعض أبناء موحسن يقاتلون في مدينة دير الزور على أغلب الجبهات حتى دخول تنظيم الدولة إليها».
أبناء موحسن ونشاطهم الثوري في دمشق
لم يقتصر نشاط أبناء موحسن على محافظتهم، بل كان لهم دور بارز في عدد من أحياء مدينة دمشق، وعن هذا الدور والحضور تحدث الناشط أكثم البرجس:
«توزع أبناء موحسن على المحافظات السورية طلباً للعلم والعمل، واندمجوا فيها حتى أصبحوا يُعتبرون من سكانها الأصليين، خاصة أنه كان بينهم عند انطلاق الثورة الجيلُ الثالث من الأبناء.
شاركَ كثيرٌ من أبناء موحسن في حراك دمشق منذ انطلاقته، ومنهم الشاب فراس البرجس، الذي اعتقل في 25 آذار بعد مشاركته في مظاهرة المسجد الأموي الأولى، وظهوره في شريط فيديو محمولاً على الأكتاف يهتف لدرعا والحرية. كذلك قامت قوات النظام باعتقال مجموعة من أبناء موحسن في دمشق، وبلغ عدهم 18 شاباً تم اعتقالهم من أماكن سكنهم وكلياتهم بتهمة التنسيق والخروج في مظاهرات، وتراوحت فترة اعتقالهم بين عشرة أيام وشهرين.
من ناشطي موحسن في دمشق أيضاً الشهيد الشاب طارق الإبراهيم، الذي تمت تصفيته في أحد أفرع الأمن، وكان ناشطاً برز بصورة خاصة في مظاهرات أحياء دمشق الجنوبية، حتى اعتقله النظام موجهاً له عدة تهم، وتمت تصفيته رغم صغر سنه الذي لا يتجاوز 18 عاماً.
ثم كان تسريب صور الشهداء تحت التعذيب من أقبية الأمن السورية، أو ما يعرف بصور الشاهد قيصر، وكان بينها صورة لجثمان شابة ترتدي اللون الأسود، وعلى جبهتها رقم 2935. كانت تلك الشابة هي الشهيدة رحاب علاوي من بنات موحسن، طالبة في السنة الثالثة في كلية الهندسة المدنية عمرها 24 سنة، اعتقلتها قوات النظام بتاريخ 17/1/2013 ووجهت لها عدة تهم أهمها التنسيق والعمل على مساعدة اللاجئين، وبقيت في معتقلات النظام حتى ظهرت صورتها شهيدة تحت التعذيب.
لم تكن مشاركة أبناء موحسن في دمشق مقتصرة على العمل السلمي، بل شاركوا في العمل المسلح في مناطق دمشق وريفها، وكان منهم من انشق وبقي في دمشق كالشهيد المقدم عمر محمد حسين الطه ابن قرية الدحلة المقابلة لمدينة موحسن، أحد القادة العسكريين في لواء شهداء دوما، الذي أصبح اسمه فيما بعد الفيلق الأول، وانتقل موقعه بعد استشهاده إلى ابن موحسن المقدم بشار حميّد الفندي.
كذلك كان ثمة تواجدٌ مهمٌ لأبناء موحسن في فصائل حي التضامن الدمشقي، ويرجع ذلك إلى أن قسماً من أبناء الحي ترجع أصولهم إليها، ومنهم الملازم عبيدة أبو الجراح، الذي كان أحد القادمة الميدانيين في الحي.
كثيرون من أبناء موحسن قاتلوا ضمن فصائل الجيش الحر وجيش الإسلام وغيره، استشهد العديد منهم ولا يزال آخرون يقاتلون حتى اللحظة. كما عمل بعضهم في المجال الطبي والإنساني، ومنهم الشهيد الطبيب عبد الهادي بسيس الذي استشهد في قصفٍ على المشفى الميداني في داريا عام 2013 أثناء تقديم المساعدة للمصابين، وكان أيضاً يقود إحدى المجموعات المقاتلة في داريا إضافة إلى عمله الطبي».
موحسن المدينة وبدايات الثورة
تزامنَ نشاط أبناء موحسن في مدينة دير الزور مع نشاطٍ في مركز مدينتهم، وقد تحدّث أحد متظاهريها وهو محمد العواد، والناشط الإعلامي ربيع حميدي، عن بدايات الثورة في موحسن، ويمكن إجمال حديثهما وتقاطعاته بالتفاصيل التالية:
عاد بعض أبناء موحسن الذين شاركوا في مظاهرة دير الزور الأولى إلى مدينتهم، ليُفاجأوا بحملات متكررة من رجال الأمن تداهم بيوتهم وتعتقل بعضهم، وكانت تلك الحملات كبيرة قياساً بما يُفترَض أنه هدفها، وهو اعتقال عدد من الناشطين، ويبدو أن النظام أراد من خلالها بثَّ الرعب في نفوس أبناء المدينة.
خرجت المظاهرة الأولى في موحسن بتاريخ 15/4/2011، وكانت أمام مبنى البلدية حيث هتف المتظاهرون لدرعا والمدن المنتفضة. تتالت المظاهرات لتأخذ شكلاً مستمراً كل يوم جمعة، ثم أصبحت شبه يومية، حيث تم حرق صورة كبيرة لحافظ الاسد كانت تتوسط ساحة البلدية، المركز الرئيسي للمظاهرات، وذلك في الشهر الرابع من عام 2011.
تواصلت المظاهرات في موحسن حتى أصبحت تقليداً ثورياً، وخرج أبناؤها إلى الشوارع نصرةً لبانياس وحمص والحولة وكفر عويد وغيرها. لم تكن المظاهرات حكراً على فئة الشباب، بل شارك فيها كبار السن والنساء والفتيات، وحملوا اللافتات التي تدعم الثورة والثوار. وبرزَ شبانٌ مبدعون في قيادة المظاهرات والهتاف، أطلق عليهم الناشطون ألقاباً مأخوذة من أسماء قادة المتظاهرين البارزين في سوريا، فكان قاشوش موحسن، الشاب عمر. وأيضاً الشهيد محمد، ساروت موحسن وعندليب الثورة.
كان سلوك النظام حيال تظاهرات موحسن مختلفاً عما كان عليه الحال في دير الزور المدينة، فلم يلجأ إلى القمع الشديد والدموي في مراحل الثورة الأولى، ولعل ذلك يرجع إلى اعتبارات عشائرية ومحلية، وإلى عدم رغبة النظام بالدخول في مواجهة مسلحة مبكراً في الأرياف. غير أن الأمور سارت نحو المواجهة المسلحة في سائر أنحاء البلاد، ولم تكن موحسن استثناءً في ذلك، إذ بدأت كتائب الجيش السوري الحر بالظهور والانتظام فيها اعتباراً من مطلع عام 2012.
-2-
في القسم الثاني هذا تفاصيلٌ عن ثورة أبناء المدينة المسلحة، واستعراضٌ لجوانب من العمل المدني فيها، ثم ظروف وملابسات سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية عليها.
الثورة المسلّحة، كتائب المدينة وألويتها
بدأت الثورة السورية تتخذ مساراً واضحاً نحو العسكرة المنظمة منذ مطلع 2012، وحمل كثيرٌ من أبناء موحسن السلاح ضمن عدة فصائل قاتلت النظام السوري في محافظة دير الزور، وخارجها. ويتحدث الناشط الإعلامي سامي السعيد عن بدايات التسليح في المحافظة، ودور أبناء موحسن فيه:
«شهدت أشهر التسليح الأولى ظهور مجموعات كانت تتنقل بين موحسن ومدينة دير الزور، عُرِفت أهمّها في ذلك الوقت باسم مجموعة الحاج محمود، وهو أحد أبناء موحسن، وأحد قادة الحراك السلمي والمسلح في دير الزور، وقد استشهد لاحقاً في معركة الرصافة. بالإضافة إلى مجموعة الحكيم دهام الطايس، الذي استشهد في شهر حزيران 2012 في مدينة موحسن، وكان مقرُّ هذه المجموعة فيها.
قامت هذه المجموعات بعدة عمليات في المدينة والريف خلال النصف الثاني من عام 2011، كان أبرزها عملية حاجز المريعية أواخر شهر تشرين الأول من عام 2011، حيث تم اقتحام الحاجز وقتل الملازم المسؤول عنه بعد توارد أخبار عن تعدياته على أهالي المنطقة وخاصة نسائها، وتم أيضاً تأمين انشقاق عنصرين من الحاجز واغتنام بعض الأسلحة. تلتها عمليات دوار غسان عبود والملعب البلدي وشارع النهر وغيرها في مدينة دير الزور أواخر 2011 أيضاً، وبرز عدد من المقاتلين الذين تحولوا الى أساطير يحسب النظام لها حساباً، مثل الشهيد شحوار والشهيد علي فدعوس وغيرهم.
شكلت هاتان المجموعتان، بالإضافة إلى مجموعات أخرى كانت في المدينة والريف، نواة التسليح في محافظة دير الزور. واعتباراً من أوائل عام 2012 بدأ العمل العسكري في دير الزور يصبح أكثر تنظيماً، حيث تم تشكيل كتيبة عمر بن الخطاب وكان لها تواجد في الريف والمدينة، تبعها تشكيل كتيبة عثمان بن عفان.
توالى تشكيل الكتائب بعد معركة الرصافة التي سنأتي على ذكرها لاحقاً، فكانت كتيبة أبو بكر الصديق، وهي أول كتيبة يكون قادتها من الضباط المنشقين، ثم الأبابيل، شهداء الرصافة، صقر قريش، نور الإسلام، وغيرها. وتأسست أيضاً كتائب البوعمر وأبرزها (أحرار الفرات – شهداء البوعمر – عباد الرحمن – ماهر العبد الله)، وكتائب المريعية وأبرزها (الزهراء – محمود الجيجان – أحرار المريعية)، وكتائب أخرى في الطابية والبوليل.
مع تزايد أعداد المنشقين تحولت كثيرٌ من الكتائب إلى ألوية اعتباراً من الشهر الخامس عام 2012، كان أبرزها لواء أحفاد محمد، لواء الفتح، لواء لا إله إلا الله، لواء عثمان بن عفان، اللواء الأول مشاة، ولواء أحفاد الصحابة.
كما تواجد في مدينة موحسن عدد من الثوار من أبناء مناطق أخرى، بدأوا مسيرتهم في قتال النظام من موحسن، ثم شكلوا فيما بعد كتائب في مناطقهم. ومنهم حسام الشلوف، والشهيد أحمد العليان، وقصي الغرب، وكذلك الشهيد أبو ياسر الدحلة الذي كان منزله في الجهة المقابلة لموحسن على الفرات، وكان ملجأً للثوار ومقاتلي الجيش الحر في موحسن قبل تحريرها.
كانت أغلب هذه الألوية والكتائب تحت قيادة المجلس العسكري، وبعضها التحق بالمجلس الثوري لاحقاً. أما الفصائل الاسلامية فقد كان تواجدها خجولاً في موحسن، حيث كان هناك تواجدٌ محدودٌ لجبهة النصرة من عشرات المقاتلين وكان لها مقر صغير، ويعود تواجدها إلى بداية العام 2012 حين بايعها عدد من المقاتلين وعملوا على تشكيل نواة لها. كذلك لم يكن ثمة تواجد فعلي لأحرار الشام أو حزب التحرير الإسلامي، باستثناء أفراد قليلين تركوا المدينة واستقروا في مقرات تلك الفصائل. كان مقاتلو الفصائل الاسلامية في المدينة يقاتلون إلى جانب كتائب الجيش الحر دون تفريق حتى دخول داعش في الشهر السابع 2014، وإحكام سيطرتها على المدينة».
منشقو موحسن
انشق كثيرون من أبناء موحسن عن مؤسسة النظام العسكرية خلال مراحل الثورة السورية، ومن بينهم العديد من الضباط القادة والأمراء من مختلف التشكيلات، بما فيها الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة. ولعل من أوائل المنشقين من أبناء موحسن، الملازم أول وليد العبد الله ابن قرية البو عمر، الذي انشق عن جيش النظام في 10/8/2011، وانضم للجيش الحر في مدينة حمص حتى إصابته فيها، وكان برفقته العديد من الضباط والجنود من أبناء موحسن.
كذلك كان انشقاق الملازم عبد الملك الخضر، وقد انشق في محافظة إدلب مطلع 2012 وبقي يقاتل فيها حتى تحرير موحسن، ليعود ويقاتل في مدينته حتى استشهاده في تموز 2014 قُبيل سيطرة داعش على المنطقة.
الملازم عبد المعطي محمد الحسين كان أول ضابط منشق يصل إلى محافظة دير الزور في شباط 2012، وبقي يقاتل فيها حتى استشهاده في 7/4/2013 في معركة المطار. وكان الطالب ضابط الملازم هاني الحميدي من أوائل طلاب الضابط الذين ينشقون من الكلية الحربية بتاريخ 22/4/2012، والتحق بالجيش الحر حتى تاريخ استشهاده 17/4/2014 في معركة المطار أيضاً.
كذلك احتضنت موحسن انشقاق عددٍ من الضباط من أبناء محافظات أخرى، كان لبعضهم دور كبير في الثورة السورية فيما بعد. ولعل من أبرزهم ابن مدينة إدلب المقدم الشهيد عبد الكريم اليحيى، قائد عمليات معركة مطار دير الزور العسكري، الذي انتقل فيما بعد ليقاتل في الشمال حتى تاريخ استشهاده في حلب بتاريخ 5/4/2016. وكذلك المقدم فارس البيوش، أحد قادة الجيش الحر من كفرنبل بمحافظة إدلب، ولا يزال يقاتل حتى اللحظة قائداً للواء فرسان الحق التابع لجيش إدلب الحر.
المقدم حافظ فرج أبو ملهم، ابن مدينة السويداء، انشق أيضاً في مدينة موحسن، وكان له دورٌ فاعل في تشكيل المجلس العسكري لمحافظة السويداء. وكذلك الملازم ثامر عباس السبعاوي ابن واحدة من قرى الحسكة، الذي قاد كتيبة عثمان واستشهد في اليوم الأول لمعركة المطار. وغيرهم كثيرون من الضباط وصف الضباط والجنود والمتطوعين من أبنائها، ومن أبناء المحافظات الأخرى.
ملحمة الرصافة
كانت تلك المعركة التي كُتِبَ وقيلَ عنها الكثير أول ظهور حقيقي للجيش الحر في محافظة دير الزور، حين هاجم جيش النظام بالدبابات والأسلحة الثقيلة مقراً لعناصر من الجيش الحر في 18/3/2012، أغلبهم من كتيبتي عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان. دارت اشتباكات عنيفة استمرت نحو 6 ساعات، وأسفرت عن استشهاد 22 من مقاتلي الجيش الحر، منهم 19 مقاتلاً من موحسن. ومن شهداء موحسن التسعة عشر، اثنا عشر شهيداً من عائلة اليونس/البوسيّد، أخوة وأبناء عمومة كانوا نواة كتيبة عثمان آنذاك.
كان يوم تشييع شهداء الرصافة فارقاً في موحسن، إذ تحوّل إلى مظاهرات ضخمة خرج فيها جميع أهالي المدينة كباراً وصغاراً، نساءً ورجالاً، بعد مفاوضات مع جامع جامع رئيس اللجنة الأمنية وفرع الأمن العسكري في دير الزور، الذي حاول منع الأهالي من تشييع الشهداء، لكنه لم ينجح وخرجت المدينة عن بكرة أبيها.
مقدمات التحرير
كان النظام مدركاً أن هناك ما يتم تدبيره في موحسن، ودليل ذلك تزايد نشاط مخبريه في مطلع عام 2012، وتكثيف حملات الاعتقالات في المدينة، بالتزامن مع تواصل المظاهرات وتصاعدها في الأحياء. كان الجيش الحر لا يزال في بداية تشكيله، ولا يملك سوى الأسلحة الخفيفة كبنادق الكلاشنكوف والقنابل بدائية الصنع.
كان مقاتلو الجيش الحر يسعون إلى منع النظام من تنفيذ مداهمات فيها، فقاموا بتنفيذ عمليات بهدف التنبيه والتحذير، من قبيل استهداف دورياته وعناصره على الطريق المؤدي للمدينة في مناطق المريعية والبوعمر، وكذلك محاولة اعتراض تقدمه في كل مرة عبر مناوشات كان الجيش الحر ينسحب بعدها بسبب قلة العدد والذخيرة إلى مناطق أخرى، كانت غالباً على الضفة الأخرى من نهر الفرات الأكثر أمناً.
اتُخِذَ قرار المواجهة في النهاية، وكانت المواجهة الأولى يوم 9/3/2012 في معركة البحوري الأولى، وهو أحد أحياء موحسن، حين داهمت قوة للنظام مؤلفة من عدد من الدبابات وناقلات الجند والسيارات المدينة من جهة حي البحوري، فتصدى لها الجيش الحر بما يملك من أسلحة، ودارت معركة غير متكافئة في العدة والعتاد.
بعد معركة الرصافة الشهيرة، حاول النظام الانتقام من مدينة موحسن، فجهز حملة كبرى لاقتحامها بتاريخ 26/4/2012، وذلك رداً على معركة الرصافة التي خسر فيها ما يقارب 80 عنصراً بينهم الرائد الأيهم الحمد، أحد أبرز ضباط الأمن، وابن أخت آصف شوكت نائب رئيس هيئة الأركان آنذاك.
دخلت الحملة الى المدينة لتأديبها كما كان مقرراً، فتصدى لها رجال الجيش الحر على مدخل المدينة ودارت اشتباكات عرفت بمعركة البحوري الثانية، تكبدت فيها قوات النظام خسائر في العتاد والأرواح، وتم إعطاب ثلاث عربات إحداها دمرت بشكل كامل، فيما سحب النظام العربتين المعطوبتين الباقيتين، لتحتفل المدينة بهذا النصر رغم ارتقاء شهيدين فيها من المدنيين.
بعد خسارته التي مني بها، تخلى النظام عن إرسال حملات إلى داخل المدينة، ولم يعد قادراً على تنفيذ مداهمات واعتقالات داخل أحياء موحسن نهائياً، واكتفى بإقامة ما يسمى حاجز معمل السجاد على مدخل المدينة، وتجميع عناصره في مدرسة الياسين. كان هذان الحاجزان يتعرضان بشكل شبه يومي لاستهداف من قبل عناصر الجيش الحر، حتى اتخذَ قرار تحرير المدينة.
كان يوم 6/6/2012 يوماً فارقاً في تاريخ موحسن، حيث شهدَ فجرُه استهداف حاجز معمل السجاد بعملية نوعية تم التخطيط لها بدقة، إذ تم تفخيخ جرار زراعي محمل ببقايا بيدر للقمح، قاده أحد مقاتلي جبهة النصرة وتركه قرب الحاجز، ليتم تفجيره ونسف الحاجز كلياً، وتدور بعد ذلك اشتباكات في ثكنة مدرسة الياسين، استشهد خلالها أول شهيد للجيش الحر داخل مدينة موحسن، وهو المنشق أحمد العمران، لتنتهي المعركة بانسحاب قوات النظام، ويتم إعلان موحسن مدينة محررة بتاريخ 8/6/2012.
غادرت قواتُ النظام مدينةَ موحسن دون عودة، إلا عبر أسراب طائراتها، التي بدأت ترتكب المذابح بعد أن أصبحت موحسن هدفاً شبه يومي لها.
التصنيع العسكري
بسبب الحاجة للذخيرة وخاصة قذائف الهاون، وبوجود الخبرة عند بعض عناصر الجيش الحر، تم تجهيز ورشات للتصنيع في مدينة موحسن منذ بداية عام 2013. كانت تقوم بعدة أعمال أبرزها تصنيع وإصلاح مدافع الهاون، وتصنيع القذائف الهاون من مختلف العيارات، حتى أنه تم تصميم مدفع هاون فريد من نوعه من عيار 240 مم.
كذلك كانت هناك ورشات لتصنيع العبوات والحشوات المتفجرة والقذائف، وبعض أنواع المدافع محلية الصنع، كما كان هناك ورشات مخصصة لإصلاح الدبابات والعربات وسيارات الجيش الحر في المنطقة.
المجلس العسكري
دفعت الحاجة إلى التنظيم مع توسّع العمليات العسكرية، ومع ازدياد عدد مقاتلي الجيش الحر والكتائب، إلى ضرورة وجود جسم يقود العمل العسكري في المحافظة، وتم إعلان تشكيل المجلس العسكري لثوار دير الزور بتاريخ 13/2/2012، ويظهر فيه قادة الكتائب ملثمين، بما فيهم الناطق الذي يقوم بقراءة البيان، ومن الشائع القول إنه خليل البورداني قائد كتيبة محمد، وهو من أبناء المريعية في موحسن، استشهد في أواخر شهر أيلول من عام 2012.
تم تعيين المقدم مهند الطلّاع قائداً للمجلس العسكري، ومعه مجموعة من الضباط المنشقين والثوار، واتخذَ من مدينة موحسن مقراً له بعد تحريرها، وبدأ قيادة العمليات العسكرية في سائر محافظة دير الزور، مع بقاء أعضاء المجلس من أبناء المحافظة في مناطقهم، مثل الشهيد قيصر هنداوي الذي بقي في مدينة دير الزور، وكان نائب قائد المجلس.
رغم الخلافات التي حدثت حول دور المجلس وعمله العسكري، ورغم انشقاق عدة كتائب وألوية عنه في عدة مراحل، فقد بقي حتى دخول داعش واجهة العمل العسكري في محافظة دير الزور. إذ مرَّ المجلس بعدة أطوار، وبعد أن كان إطاراً جامعاً لجميع الفصائل العسكرية في المحافظة، ظهرت بوادر انشقاق فيه مع التوسع العسكري وازدياد المناطق المحررة وعدد الفصائل، وعزا أصحابها أسباب انشقاقهم إلى الفساد، وإلى اتهامات بعدم العدالة في توزيع الذخيرة وغيرها من الخلافات.
انشقت عدة فصائل من بينها فصائل في موحسن نفسها، والتحقت بما عُرِفَ بالمجلس الثوري للمنطقة الشرقية بقيادة المقدم محمد العبود آنذاك. كذلك حصل انشقاق آخر عنه في مدينة دير الزور، وتم تشكيل مجلس عسكري آخر وعزل المقدم مهند الطلّاع، ثم لم يلبث الخلاف أن حُلَّ الخلاف ليعود المجلس بقيادة المقدم مهند.
كان لهذه الأحداث دورٌ بارزٌ في إضعاف المجلس العسكري، بالإضافة إلى تحول بعض الفصائل في مناطق المحافظة الأخرى إلى تشكيلات أخرى مثل جبهة النصرة وجبهة الأصالة والتنمية وغيرهما من التشكيلات التي برزت بعد تحرير القسم الأكبر من محافظة دير الزور، وتقليل الدعم من قبل هيئة الأركان، واغتيال عددٍ من قادته مثل العقيد زياد السعيد مسؤول التنظيم والإدارة. وهي العوامل التي تراكمت آثارها حتى قادت في النهاية إلى مبايعة عدد من أعضائه لتنظيم الدولة عند دخوله مدينة موحسن، واعتقال آخرين، كما سنرى لاحقاً.
شاركت كتائب مدينة موحسن في أغلب معارك المحافظة، وقدمت العديد من الشهداء في معارك الدفاع المدني والهجانة وجسر السياسية في دير الزور المدينة، وكان هناك كتائب تُرابط بشكل دائم فيها، مثل كتيبة الأبابيل التي تم تشكيلها من شباب موحسن، وساهمت في تحرير حي المطار القديم. كذلك ساهمت ألوية وكتائب المدينة، مثل لواء أحفاد محمد، كتيبة عثمان، كتيبة عمر، كتيبة أبو بكر الصديق، ولواء شهداء الرصافة، في تحرير مدينة الميادين وكتيبة المدفعية المجاورة لها، وفي تحرير مطار الحمدان ومدينة البوكمال.
موحسن مقبرة الطائرات
بُعيد خروج المدينة من قبضة قوات النظام، أصبحت سماؤها ميداناً لطائراته، تحلّق فيها كيفما تشاء، وتقصف عشوائياً بيوت المدنيين، فيما كان الجيش الحر يحاول تطوير قدراته القتالية، وبات يمتلك رشاشين مضادين للطيران من طراز 12.5 و14.
كان عناصر الجيش الحر يترصدون طائرات النظام التي لم تكن تغادر الأجواء، وبفضل وجود عناصر لديها خبرة، كان استهداف الطائرات يتم بصورة دقيقة ما أدى إلى جعل مهمة سلاح النظام الجوي في موحسن أكثر صعوبة.
بتاريخ 13/8/2012 كان طيران النظام الحربي يملأ السماء، وكانت إحدى الطائرات تحلّق بشكل استفزازي على علو منخفض، مستهدفةً أحد مساجد المدينة، وأثناء تلك المناورة تم استهداف الطائرة من قبل مقاتلي الجيش الحر ما أدى لإصابتها وإسقاطها. كان الذي أسقطها أحد عناصر الدفاع الجوي في كتيبة عثمان، وهو المقاتل الذي اشتُهِرَ لاحقاً باسم أبو علاوي صياد الميغ.
سقطت طائرة الميغ 23 التابعة لسلاح الجو النظامي السوري، وتم إلقاء القبض على قائدها العقيد طيار مفيد سليمان. زاد النظام من عنف قصفه المدينة بعدها، مع تكذيبه لخبر إسقاط الطائرة قائلاً إنه عطل فني. لكن الأمر لم يتوقف عند هذه الطائرة، إذ تواصل التصدي لطيران النظام، وتتالى إسقاط طائراته في سماء المدينة، حتى بلغ عددها ست طائرات. كذلك تم استهداف الطائرات القابعة في مدرجات المطار بواسطة قذائف الهاون وراجمات الصواريخ، وإصابة بعضها وإعطابها، حتى استحقت موحسن لقب مقبرة الطائرات.
معركة المطار.. والمذابح
بعد تحرير مدينة موحسن ومدن الريف الشرقي، لم يبقَ للنظام من مراكز القوة سوى بعض المناطق والمواقع أكبرها مطار دير الزور العسكري، الذي كان الهدف التالي للثوار. وبعد نقاشٍ وأخذٍ وردّ، تقرر إطلاق معركة تحرير مطار دير الزور العسكري بتاريخ 12/12/2012.
شهدَ اليوم الاول للمعركة اشتباكات عنيفة، ودّعت خلالها المدينة عدداً من أبنائها جرّاء قصف الطيران لمواقعهم على أسوار المطار. ثم تتالت المعارك التي شهدت مواجهات عنيفة خاضها مقاتلون من سائر فصائل محافظة دير الزور، واستشهد كثيرٌ من المقاتلين من موحسن وغيرها على أسوار المطار في المعركة التي استمرت عامين، حتى دخول داعش. ولا يزال المطار على حاله بسبب الدفاع المستميت للنظام عنه، واستقدامه العديد من مقاتلي المليشيات، ومساندة حزب الله اللبناني والطيران الروسي له.
كان انتقام النظام من المدينة كبيراً، إذ كان يرى فيها مركزاً لانطلاق عمليات الجيش الحر نحو المطار، حيث أخلى كثيرون من أهلها بيوتهم للفصائل القادمة من مناطق المحافظة ليتخذوها مقرات لهم. فصبَّت عليها مدفعية النظام وطائراته كل أنواع القذائف على مدى سنتين، تحولت خلالهما المريعية إلى مدينة اشباح مدمرة كونها خط التماس مع المطار، كذلك لحق الدمار سائر مناطق موحسن الأخرى بنسبٍ متفاوتة.
شهدت المدينة عدة مجازر ذهب ضحيتها العشرات، ولم تتوقف حتى اللحظة، أبرزها مجازر المريعية والبوعمر، ومجزرة فرن مدينة موحسن، ومجزرة عائلة «جاعد رحيل الشتيوي» التي ذهب ضحيتها 9 أفراد من عائلة واحدة بينهم جنين. كذلك ارتكبت مجازر في بلدة البوليل التابعة، ومجزرة البوسيّد بتاريخ 21/6/2012 عندما استهدف طيران النظام مجلس عزاء في المنطقة، وذهب ضحيتها 18 شهيداً معظمهم من النساء وكبار السن، والعديد من المجازر الأخرى.
يكاد لا يخلو بيتٌ في موحسن من شهيد أو جريح أو معاق، عدا عن الأضرار المادية التي لحقت بالبينية التحتية والبيوت، فضلاً عن تهجير كثيرٍ من أهلها جراء القصف العنيف ودمار المنازل. وليس ثمة إحصائيات دقيقة، غير أن عدد شهداء موحسن من مدنيين ومقاتلين يقدر بنحو 1600 شهيد جرى توثيق أغلبهم من قبل ناشطي المدينة ومكاتب التوثيق، وأكثر من 4000 جريح تتراوح إصاباتهم بين الخفيفة والمتوسطة والشديدة، منهم نحو 300 مصابٍ بإعاقات مختلفة تتراوح بين الشلل الكلي وبتر الأطراف وفقدان البصر، وغيرها من الإعاقات. كذلك يبلغ عدد المفقودين نحو 300 شخص، لا توجد معلومات مؤكدة حول مصيرهم.
تفتقد جميع هذه الأرقام إلى الدقة المطلوبة بسبب انقطاع التوثيق منذ تاريخ 1/7/2014، تاريخ دخول داعش، حيث أصبح بعدها يعتمد على التقريب والتقصي والجهد الذاتي.14797461_1597303347245880_1480307778_n
العمل المدني
المجلس المحلي
بعد طرد قوات النظام من موحسن، كان لا بد من العمل على إدارة المدينة وتأمين الخدمات لسكانها، فكان مجلسها المحلي، الذي ترأسه الأستاذ نوري الكدرو لدورتين متتاليتين، ويقول في شهادته عن عمل المجلس:
«بسبب استهداف المدينة المتكرر وحصارها من قبل قوات النظام وقطع معظم مستلزمات الحياة عنها، بدأ العمل على تشكيل مجلس موحسن المحلي في نهاية تشرين الأول 2012 ليبدأ العمل فيه بتاريخ 1/12/2012.
تشكّل المجلس بدايةً من 15 شخصاً برئاسة الأستاذ علي الصالح، وتم اختيار أعضائه بشكل توافقي من أصحاب الكفاءة. كانت مهمته وضع خطط مستعجلة للعمل وإصلاح الأضرار، وكانت أبرز مكاتبه: الخدمي، التربية، الصحي، الإحصاء، والإعلام. ومن ثم استكملت باقي المكاتب كالدفاع المدني والإغاثة، غير أن العمل الإغاثي تحولَ لاحقاً ليصبح تحت إشراف مكتب الهلال الأحمر السوري، بينما اقتصر عمل المكتب الإغاثي على تقديم الخدمات للنازحين من مناطق أخرى.
كانت مدة الدورة الواحدة للمجلس ستة أشهر، واستُكملت جميع المكاتب لاحقاً، ثم كانت الدورة الثالثة عن طريق الانتخاب، ليصبح العمل أكثر مهنيةً، حيث أنجزنا إحصاء كامل مدينة موحسن، وتم تأهيل شبكات الكهرباء والماء والري ومحطات المياه التي كان طيران النظام يستهدفها بشكل شبه دوري. كان لورشات الكهرباء ومحطات المياه جهد استثنائي، وكان عملهم تطوعياً وفي أقسى الظروف، حيث استشهد عدد من عمال ورشة الكهرباء وهم يحاولون إيصال التيار الكهربائي عندما استهدفتهم قذيفة أودت بحياة اثنين منهم.
عملَ المجلس المحلي على تأمين الخبز لأهالي المدينة، وذلك عن طريق تأهيل الفرن الموجود وتأمين عمال له من أهل المدينة وبشكل تطوعي، حيث استمر بتقديم خدماته ومساعدة الاهالي طيلة فترة عمل المجلس. وكان هناك خطط لتطوير الخدمات في المدينة مثل إقامة معمل ألبان وأجبان، وتأهيل جميع الخدمات، وقد بدأ العمل بها لكنها توقفت بسبب دخول داعش إلى المدينة.
كذلك تم تفعيل مكتب الدفاع المدني، وأقيمت دورات لعناصره، وكذلك تم تشكيل جهاز شرطة مدنية، وإنشاء ناحية وتعيين مدير لها، وكانت مهمة الشرطة المدنية قمع المخالفات وضبط الأمن داخل المدينة. كما تم تجهيز مطعم خاص للجيش الحر، مهمته إطعام المقاتلين على الجبهات والعاملين في المناطق التي تحتاج إلى مناوبات، وكان دعم المطعم من عائدات حقل التيم النفطي».
حاولَ مكتب التربية في المجلس المحلي، ورغم الظروف القاسية والموارد المحدودة، العمل على مواصلة العملية التعليمية، وهو ما يحدثنا عنه الأستاذ نزار أبو أنس رئيس المكتب:
«عند تشكيل المجلس المحلي، ومن ضمنه مكتب التربية، كانت معظم المدارس قد خرجت عن الخدمة لأسباب كثيرة أبرزها قصف الطيران، وكانت بعض الفصائل قد اتخذت من بعض المدارس مقراتٍ لها. كانت التحديات كبيرة، فالمدارس مدمرة والطيران لا يكاد يغادر سماء المنطقة، ومع ذلك كان الإصرار كبيراً على متابعة التعليم.
بمساعدة الأهالي تمت إعادة الحياة للعملية التعليمية عن طريق تجهيز بعض المنازل التي تبرع أصحابها بها لتحويلها إلى مدارس. كان العمل على مرحلتين حتى نستوعب أكبر عدد ممكن من الطلاب، وكان المعلمون يبذلون مجهوداً مضاعفاً رغم عملهم المجاني، فاستطعنا اجتياز العام الدراسي 2013/2014 بنجاح. كانت الامتحانات ناجحة من حيث المشاركة والإشراف والانضباط، وكانت الخطط تسير بشكل جيد حتى دخول داعش، وتوقف جميع الأنشطة المدنية عن العمل».
مديرية الأحوال المدنية
حافظ الناشطون على أغلب أجهزة الدولة في المدينة، وبحماية الجيش الحر، ويذكر لنا الناشط قتيبة المشعان كيف تمت المحافظة على سجلات الأحوال المدنية «النفوس» من الضياع:
«بعد تحرير المدينة كان ثمة اتجاهٌ لنقل سجلات مديرية الأحوال المدنية فيها إلى المقر المركزي في دير الزور، وتم تكليفي بهذا العمل كوني موظف سابق في الأحوال المدنية، ومُقالٌ بسبب نشاطي الثوري، ولاعتقاد المدراء في مديرية النفوس المركزية أنني أملك تأثيراً على الجيش الحر في موحسن.
لم يقبل الجيش الحر بنقل السجلات إلى سيطرة النظام، لكننا توصلنا إلى حل وسط، وهو أن يستمر العمل عليها بشكل طبيعي ولكن في موحسن نفسها، وتحت إشراف الجيش الحر. وبالفعل بقي العمل مستمراً حتى بعد نقل سجلات محافظة دير الزور جميعها إلى الرقة، حيث لم تنقل سجلات مدينة موحسن، ونجحتُ بالحفاظ عليها بمساعدة الأهالي، وتأمين مكان جيد للعمل لأن المقر السابق كان مدمراً.
تم نقل السجلات عند دخول داعش إلى مكان آمن حتى تاريخه، أما الآن فلا أعرف أي شيء عن مصيرها كوني غادرت المنطقة».
إدارة حقل التيم النفطي
يقع حقل التيم النفطي على بعد نحو 25 كم جنوب غرب موحسن، وقد سيطرت عليه فصائل الجيش السوري الحر أواخر عام 2012، وتعرض لهجمات وقصف متكرر، وحاول جيش النظام اقتحامه عدة مرات، كما طاله بعض التخريب والتجاوزات من بعض عناصر الفصائل. حالت هذه الظروف دون تشغيله بكامل طاقته وبشكل مستمر، ومع ذلك فقد شكلت فعاليات موحسن الثورية المدنية والعسكرية لجنة لإدارته وتشغيله بدأت عملها بتاريخ 5/7/2013، بهدف ضبط التجاوزات والاستفادة بأفضل شكل ممكن من عوائده. وقد حدثنا عنها أحد أعضائها، أبو هشام العمران:
«بعد تحرير مدينة موحسن والسيطرة على حقل التيم النفطي، حدثت بعض التجاوزات والتخريب والسرقات في الحقل، فقامت الفعاليات المدنية مع قيادة الجيش الحر بالعمل على تنظيمه والحدّ من تلك التجاوزات، وقام الجيش الحر بحماية الحقل ووضع طواقم حراسة، وكان للمجلس المحلي وهيئة حماية الثورة الدور الأكبر في تشكيل لجنة حقل التيم.
قامت هذه اللجنة بإنشاء إدارات، مثل إدارة مبيعات حقل التيم وإدارة للإنتاج وإدارة مالية تقوم بتوزيع العائدات. كذلك كان هناك لجان الإطعام، الإغاثة، الشهداء والجرحى، الذخيرة، والرواتب. كان مصابو الجيش الحر يحصلون على دعم مادي، وكانت العمليات الجراحية تجرى لهم على حساب الحقل، وذلك بصرف مبالغ نقدية والتكفل بشراء احتياجاتهم، كذلك كان هناك رواتب شهرية لأسر الشهداء.
تم استثمار الحقل لتوليد الكهرباء أيضاً، حيث قام عمال الكهرباء والطوارئ بجهد جبار للحفاظ على تأمين الطاقة الكهربائية للأهالي، وكانت هذه العمليات كلها تجري بواسطة البرامج الحاسوبية والمراسلات الرسمية وقيود وحسابات، ومعظمُ العاملين كانوا خريجين جامعيين.
لم يكتمل المشروع لأسباب كثيرة، أهمها دخول داعش وسيطرتها على المنطقة، كما كان هناك معوقات أخرى أبرزها استهداف الحقل بشكل متكرر من قبل قوات النظام».
المشفى الميداني
لم يكن في موحسن قبل الثورة سوى مستوصفات لا تقدم إلا خدمة اللقاح والإسعافات البسيطة، ومع انطلاق الثورة والمظاهرات، بدأت بعض الكوادر الصحية في المحافظة ومنهم أبناء موحسن بتقديم الخدمات الطبية، خاصة للمصابين في المظاهرات. كانت هذه الخدمات تقدم بشكل فردي، وبعيداً عن أعين قوات الأمن لأن عقوبتها كانت شديدة. كان كثيرون من أبناء موحسن يعملون في المجال الصحي، وبدأوا بتقديم الخدمات في الريف والمدينة، مع تأمين الادوية والمعدات اللازمة التي كان تأمينها بالغ الصعوبة والخطورة، إذ كانت قوات النظام تقوم باعتقال كل من تجد عنده تجهيزات طبية أو أدوية، خاصة خلال الحملات التي كان يقوم بها بحثاً عن مطلوبين.
بعد تحرير المدينة كان لا بد من تنظيم العمل وتوحيده، خاصة بعد قدوم عناصر جديدة منشقة من مشافي النظام العسكرية ممن يملكون خبرة واسعة في هذا المجال، إضافة لعدد من العاملين في المشافي وخريجي المعاهد ومدارس وكليات التمريض.
قام عدد منهم بتأسيس المشفى الميداني في مدينة موحسن أواخر العام 2012، وتم اتخاذ إحدى المدارس مقراً له، وتطور بشكل سريع تحت إشراف مجموعة من الأطباء أبرزهم الدكتور عبد الملك الفناد أخصائي الجراحة العامة والأوعية، الذي حمل على عاتقه العمليات الجراحية، وقد بذل جهداً كبيراً مع فريق من الممرضين.
احتوى المشفى على أقسام عديدة كقسم الأذن والأنف والحنجرة بإشراف الدكتور خالد، والجراحة العامة والتجميلية بإشراف الدكتور هاني، والفكية بإشراف الدكتور طلحة أحد مؤسسي المشفى. كان المشفى منظومة عمل متكاملة، ونموذجاً للعمل الثوري إذ تمت إدارته بالانتخاب، وكان له سجل مالي وإدارة طبية وإدارية ومنظومة إسعاف سريع، حتى أصبح يضاهي المشافي العامة التي كانت أيام النظام، بل تفوق عليها بإجراء عمليات نوعية رغم نقص التجهيزات. ومن النوادر الجدير ذكرها أنه تم تحويل مصاب مدني من المشفى العسكري بدير الزور الخاضع لسيطرة النظام إلى المشفى الميداني بناء على طلب عائلته، وذلك لعدم وجود الاختصاص المطلوب في المشفى العسكري.
كان ضغط العمل كبيراً بسبب كثرة الإصابات كونه المشفى الأقرب إلى خط الجبهة، إضافة لاستقباله الأهالي والحالات «الباردة»، باعتباره المركز الطبي الوحيد الفعال في المنطقة، كما قام بتنفيذ حملات لقاح وتوعية.
استهدفت طائرات النظام المشفى عدة مرات، ما أسفر عن تدمير بعض أجزائه وتدمير سيارة إسعاف ومنظومة الحماية من المواد الكيميائية التي أنشئت بعد استهداف المنطقة بالفسفور الأبيض. تطور المشفى بسرعة وزاد عدد أقسامه على الرغم من استهدافه، حيث كانت تتم أعمال الترميم وإصلاح الأضرار سريعاً، وأجريت فيه عمليات عظمية وجراحة أوعية وعمليات تجميلية، ومختلف أنواع العمليات، كما كان فيه أقسام للأشعة ومخبر وصيدلية، وقام الدكتور حسين الأخصائي بالأمراض الداخلية والهضمية بعمليات تنظير هضمي.
كان هناك طاقم كامل تمريضي وفني متمرس بجميع الأعمال التمريضية، وقام بعض الممرضين بعمليات جراحية نتيجة الضغط الكبير، وكانت عمليات ناجحة مثل فتح البطن وكسور الأطراف وغيرها. كما تم تجهيز وحدة عناية مركزة وتجهيزات لجهاز غسيل الكلية، تمت مصادرتها من قبل داعش بعد السيطرة على المدينة.
وبالإضافة إلى المشفى الميداني الرئيسي، كان هناك مشفى ميداني آخر في البوليل، ونقاط طبية في المريعية والبوعمر، استشهد بعض أفراد طواقمها الطبية أثناء إسعاف الجرحى، ومنظومة إسعاف تتواجد طواقمها قريباً من مناطق الاشتباكات.
مساهمة نساء موحسن في العمل الثوري
حدّثتنا ياسمين المشعان عن نشاط المرأة في موحسن خلال فترة الثورة، وهي ناشطة في مجال حقوق المرأة، وشقيقة لخمسة شهداء، وإحدى النساء اللواتي كان لهن مساهمة هامة في الحراك الثوري:
«كان للمرأة في دير الزور عامة، وفي موحسن خاصة، دورٌ مهمٌ في الثورة. وعلى الرغم من أن تواجدهن في المظاهرات كان محدوداً خشية الاعتقال، إلا أنه كان لهن دورٌ بارزٌ وشجاعٌ في مساعدة المنشقين من أقاربهن. كذلك عملت النساء على تجهيز الطعام للمنشقين، وبعضهن قمن بحملات من أجل جمع المال حيث تم شراء بعض الملابس الشتوية للمنشقين الذين كانوا يبيتون خارج منازلهم.
كان هناك كثيرٌ من النساء اللواتي يلعبن دوراً في التجهيز للمظاهرات وتجهيز الأعلام وخياطتها، وفي تهريب الأدوية وأكياس الدم كون الحواجز كانت لا تفتش النساء خوفاً من ردة فعل الأهالي. وكان لهنَّ دورٌ في مراقبة الطرق أيضاً، حيث شكلنَ مجموعات على سكايب لمراقبتها وإنذار الثوار عند مرور الحملات، كون وجودهن أمام منازلهن لا يثير ريبة أحد.
بعد التحرير كان لهن دورٌ كبير في العمل المدني، مثل التدريس والتمريض وحملات اللقاح، كما عملت بعض الفتيات كإعلاميات، غير أن العمل الإنساني كان الوجه الأبرز لنشاطهن».
أما عن بيان حرائر موحسن، فقد حدثتنا أم عمار، التي كان بيت زوجها مكاناً للاجتماعات السرية، وكانت تساهم في تأمين هذه الاجتماعات، وإخفاء معدات العمل الإعلامي فيه:
«كان لا بد من دعوة الحرائر في دير الزور وموحسن وسائر سوريا للوقوف إلى جانب الثوار، متظاهرين ومقاتلين، فكانت فكرة البيان الذي توجهت به حرائر موحسن لأخواتهن، وقد أصدرتُه مع مجموعة من الفتيات اللواتي كان لهنَّ مساهمة في العمل الثوري».
العمل الإعلامي
شارك عدد من أبناء موحسن في العمل الإعلامي في مدينة دير الزور مبكراً، أما في مدينتهم نفسها فقد كان العمل الإعلامي في بدايته ضعيفاً، ثم أخذ يتطور ويصبح أكثر حرفيةً مع تطور مراحل الثورة، وهو ما يحدثنا عنه الإعلامي والناشط ياسر العلاوي:
«بدأ الناشطون منذ الأيام الأولى بتصوير المظاهرات بكاميرات جوالاتهم، إذ لم يكونوا يملكون أي تجهيزات أخرى، وبدأوا نشاطهم الإعلامي بجهد ذاتي دون أي مساعدة آنذاك. تطور العمل تدريجياً حتى وصل عدد المكاتب الإعلامية في موحسن منتصف العام 2012 إلى ثلاثة مكاتب: المكتب الإعلامي في مدينة موحسن، شباب الثورة في أرض الفرات، وشبكة موحسن الآن، إضافةً إلى تنسيقية المدينة وعشرات الصفحات.
برز عدد كبير من الناشطين الإعلاميين الذين أصبحوا فيما بعد مراسلين لكبرى القنوات التلفزيونية، ومن بينهم: محمود الهلال، سامي السعيد، ربيع حميدي، هاني البدر، مؤيد الشريف، سعد الصليبي، عهد الصليبي، أحمد العساف، خالد العمران، سليمان الياسين، صهيب الجابر، حسين الطايس، وآخرون. وقد اعتقل كثيرون منهم ولا يزال بعضهم معتقلاً، فيما غاب آخرون عن العمل لظروف قاهرة.
تشكلُ قصة استشهاد الإعلامي ياسين الطوكان نموذجاً لشجاعة الإعلاميين وخطورة العمل الإعلامي أثناء وجود حواجز النظام، حيث كان يقوم بتصوير تلك الحواجز ليعتقله أحدها بتاريخ 3/7/2012، وتتم تصفيته ودفن جثمانه قرب الحاجز المعروف بدوار السيوف في مدينة دير الزور، دون أن يعرف أحدٌ مكانه حتى تاريخ 13/9/2012 عند تحرير الحاجز، حيث عُثِرَ عليه مدفوناً بالقرب منه.
استمر آخرون حتى اللحظة في عملهم الإعلامي والثوري رغم مغادرتهم بعد دخول داعش، التي استهدفت في البداية الناشطين والإعلاميين ما أدى إلى تركهم المنطقة. كانت الإعلاميون يعملون على توثيق الأحداث ونقلها إلى العالم، وتغطية الاشتباكات والمعارك الجارية مع قوات النظام، وقد أصيب بعضهم إصابات أدت لتشوهات مزمنة مثل الإعلامي ربيع حميدي».
هيئة حماية الثورة
تأسست الهيئة العامة لحماية الثورة في موحسن في 30/5/2013، وكان الهدف من تأسيسها ضبط ما كان يرى فيه الناشطون انحرافاً في العمل الثوري، وكان لها دور الرقابة والإشراف على مؤسسات العمل المدني والثوري والأهلي.
تألفت الهيئة من مجموعة من الناشطين من مختلف الاختصاصات، وأخذت مصداقيتها وشرعيتها الشعبية من توافق قيادات العمل المدني والأهلي عليها، ومن سمات الأشخاص القائمين عليها ونشاطهم الثوري. وقد كان لها دور في تقويم العمل في نواحي كثيرة، وكشف كثير من التجاوزات وتقديمها للهيئة الشرعية.
الهيئة الشرعية
بديلاً عن السلطة القضائية الغائبة بعد التحرير، تم تأسيس الهيئة الشرعية في موحسن بتاريخ 23 آذار 2013، وكان أحد أعضائها الأستاذ بدر الدين البرجس، وهو خريج كلية الشريعة في جامعة دمشق، وتحدث عن تشكيلها والأعمال المنوطة بها:
«كانت مهمة الهيئة الشرعية العمل على حل الخلافات وتسهيل الأمور الحياتية والتعاملات، كالبيع والشراء والزواج والطلاق والإرث، وحل المنازعات بين السكان واستقبال الشكاوى، ويساندها جهاز شرطة مدنية. كان أعضاء الهيئة من خريجي الشريعة والحقوق، أي من المختصين في هذا المجال، وكان عملهم تطوعياً دون أي دعم مادي.
كانت الهيئة ترتكز في قراراتها على الرؤية الشرعية والقانونية المتوفرة لعناصرها، وتعتمد في حل قضاياها على احتضان البيئة الاجتماعية فضلاً عن المساندة الشرطية، وتميزت بعدم تبعيتها لأي فصيل سياسيٍ أو عسكري، بل كانت هيئة مستقلة تجري أحكامها على المدنيين وحملة السلاح على حد سواء.
استمرت الهيئة في عملها حوالي عام وأربعة أِشهر، لم تخلُ من بعض الصعوبات والمعوقات التي وقفت في طريقها، سواء اجتماعياً بسبب بعض التدخلات العشائرية، أو بسبب استقواء بعض مقاتلي فصائل موحسن بسلاحهم عليها، أو من قبل بعض الهيئات الشرعية لبعض الفصائل الموجودة خارج حدود المدينة».
دخول داعش
كانت المدينة هدفاً استراتيجيا ًلتنظيم داعش لعدة أسباب، لعل أهمها أنها واحدة من معاقل الجيش الحر، وفيها قيادة مجلسه العسكري في المنطقة الشرقية. ويبدو جَمعُ شهادات لأشخاصٍ فاعلين أو مطلعين على أسرار تلك المرحلة شبه مستحيلٍ لعدة أسباب أبرزها الخوف الشديد من انتقام تنظيم الدولة، ولذلك سيعتمد هذا المقطع على مطابقة أحاديث متفرقة دون نسبتها لأصحابها، وعلى محاولة تحليل تتابع الأحداث واستخلاص نتائج منها.
اتبعَ التنظيم للسيطرة على موحسن استراتيجية ذات عدة نقاط، أهمها استمالة بعض القيادات المحلية والمقاتلين في بعض كتائب موحسن، الذين بايعوه سراً في تواريخ مختلفة، وليست معروفةً أساليب الاستمالة على وجه الدقة، لكن الأرجح أنها كانت تعتمد على وعودٍ بالسلطة والامتيازات.
أصبح لتنظيم الدولة قاعدة شعبية بسيطة تتكون من عدد من الأفراد، بالإضافة إلى خلايا نائمة تم تجنيدها، وكان لها دورٌ بارزٌ في السيطرة على المدينة. عمل التنظيم على حصار موحسن من جهة الشرق بعد مبايعة بعض الفصائل من المناطق الشرقية، وكذلك من جهة الشمال بعد سيطرة التنظيم على الضفة الأخرى لنهر الفرات التي راح يستهدف المدينة بقذائف المدفعية منها. كذلك سيطر التنظيم على البادية جنوب المدينة، وبذلك يكون قد تم إحكام الطوق حول المدينة التي كانت قوات النظام تتمركز على جبهتها الغربية، جبهة المطار العسكري، حيث كان أبناء المدينة، خاصة أبناء البوعمر والمريعية، لا يزالون يرابطون على حدود المطار بعد انسحاب أغلب مقاتلي الفصائل لقتال داعش في مناطقهم.
اكتملت خطة السيطرة على موحسن باختطاف عدد من قيادات الجيش الحر، ممن كان التنظيم واثقاً على ما يبدو أنهم سيقاتلونه حال دخوله. تم اختطاف هؤلاء القادة من داخل المدينة قبل دخول التنظيم إليها وإعدامهم، وأبرزهم الملازم طيار حسن الحافظ، والقائد العسكري ياسر المطلق، وثائر الحماد. كذلك تم اختطاف النقيب زياد الخزام القائد العام لألوية أحفاد الرسول في محافظة دير الزور، ولا يزال مصيره مجهولاً.
دخل تنظيم الدولة إلى موحسن صبيحة يوم 20/6/2014، وسيطر على أجزاء واسعة منها. كانت الفصائل أمام خيارين: إما قتال التنظيم، وبالتالي خسارة جبهة المطار وتحويل المدينة إلى ساحة قتال فوق رؤوس ساكنيها، أو التسليم. فكان خيار التسليم، حيث خرج المقاتلون بعد اشتباكات بسيطة استمرت لعدة أيام، قام بعدها عناصر التنظيم بتمشيط المنازل واعتقال العديد من القادة والناشطين والإعلاميين، الذين تم الإفراج عن بعضهم لاحقاً، ولا يزال مصير بعضهم الآخر مجهولاً حتى اللحظة.
خرج بقية الناشطين من المدينة إلى مناطق أخرى، كما خرج عدد كبير من مقاتليها إلى العشارة بريف الميادين قبل سيطرة تنظيم الدولة عليها، ومنها توزعوا على جبهات الثورة السورية كما سنرى لاحقاً.
يرى كثيرون أن سيطرة داعش على موحسن كانت نتيجة تقصيرٍ من مقاتليها، وذهب آخرون إلى تخوين المقاتلين، على الرغم من تهجير كثيرين منهم مع عائلاتهم، واستشهاد آخرين في سجون داعش. ويستند هؤلاء إلى حقيقة أن موحسن كانت تشكل ثقلاً عسكرياً في المنطقة، ومن ثم كان من المتوقع أنها ستصمد في وجه التنظيم، ولكن لم يدر في خلدهم أن المدينة كانت مفتوحة على عدة جبهات، وأنها استنزفت خلال عدة سنوات من قتال النظام على جبهة المطار، كما أنها وقعت تحت حصار شديد من قبل داعش ومن جميع الجبهات.
كان التسليم هو الخيار الأفضل وفق تقدير كاتب هذه السطور الشخصي، وإن كان سقوطها بيد داعش قد عجل سقوط باقي المناطق. وكما حصل في مناطق عديدة، اضطرت الكتائب للانسحاب بشكل جماعي أو فردي، فيما استولى التنظيم على عدد من الأسلحة واعتقل العديد من الأشخاص، منهم قادةٌ في المجلس العسكري، كما بايع التنظيم قادة آخرون.
كان للأخطاء التي ارتكبتها فصائل الجيش الحر خلال مسيرتها في موحسن أثر في تقوية شوكة داعش، ولعل أبرزها عدم اعتقال الخلايا النائمة، وعدم تطهير بعض الفصائل من بعض الأشخاص المناصرين لتنظيم الدولة، والانقسامات فيما بينها، وفساد بعضها قادتها ورغبتهم في السلطة. وهو ما أدى إلى إضعاف الجيش الحر ومجالسه العسكرية، وعدم قدرته على خوض معركة موحدة ومتكافئة ضد تنظيم الدولة.
أبناء موحسن على جبهات سوريا
بعد سيطرة داعش خرج أغلب مقاتلي وناشطي موحسن إلى عدة جهات داخل سوريا وخارجها، وانضم كثيرٌ من المقاتلين إلى الجبهات في درعا وإدلب وحلب وحماة، ومن أبرز المعارك التي ساهموا فيها معارك تحرير إدلب وجسر الشغور، وفك الحصار عن حلب ومعارك الساحل وريف حماة والقلمون، ولا يزال أبناؤها يقاتلون في تلك المناطق حتى اللحظة. كما أن هناك عدداً من إعلاميي موحسن يقومون بتغطية المعارك في تلك المناطق، مثل يونس السلامة وعهد صليبي وغيرهم.
خاتمة
قدمت موحسن أكثر من 1600 شهيد في مختلف بقاع الأرض السورية، وآلاف الجرحى والمعتقلين والمغيبين في معتقلات النظام. وتم تهجير نحو 60% من سكانها خلال مراحل الحرب إلى مختلف بقاع الأرض، حيث يقدر عدد من خرجوا منها بنحو 35 ألف نسمة، توزعوا بين دمشق وغيرها من مناطق سوريا، وتركيا بجميع مدنها ومناطقها، وأوروبا وخاصةً ألمانيا وسويسرا وغيرها.
يواصل كثيرٌ من أبناء موحسن بحثهم عن حياة أفضل في منافيهم، فيما يعمل آخرون من أجل العودة إليها بوسائل مختلفة، تشمل العمل المدني والسياسي والإعلامي والمسلح. وثمة محاولاتٌ وطروحاتٌ لتأطير عملهم وكفاحهم من خلال منظمات مجتمع مدني، غير أن هذه المحاولات لم ترَ النور بعد، كما أن معالم طريق العودة إلى مدينتهم لم ترَ النور بعد أيضاً.
موقع الجمهورية