موسم الهجرة إلى تركيا
رشا رامي
جلسنا على شرفة المنزل في ساعات الفجر الأولى، نراقب الطائرات الحربية وهي تهدم البيوت على رؤوس قاطنيها. كنا ننتظر سائق السيارة الذي سيقلنا في رحلة هروبنا المذلة إلى تركيا. لن أنسى المشهد ما حييت؛ مشهد لم أراه إلا في نشرات الأخبارعن بلدان بعيدة كل البعد عن موطني. في ذلك اليوم بالذات، لم يتوقف قصف الطائرات والمدفعية منذ حلول الليل، وكأنّ الجيشين النظامي والحر يعمدان إلى توديعنا بأصوات الحرب!
بعد وصول سائقنا وتحميل ما استطعنا من حاجيات جمعناها عشوائياً، بسبب انقطاع التيار الكهربائي لمدة ثلاثة أيام متتالية، ودّعنا بعض الأصدقاء ممن استطاع المجيء. راقبتهم من بعيد يلوحون لنا باكين كالأطفال، متسائلة: “هل سنعود إلى حلب من جديد؟ وإن عدنا هل سيكونون على قيد الحياة لاستقبالنا أم لا؟”
كثرت التساؤلات في عقلي أثناء سيرنا في شوارع حلب المنكوبة، قاصدين معبر باب الهوى الحدودي “المحتل،” كما يسميه الإعلام الرسمي. تُرى كيف سيكون الطريق؟ هل سيقصفنا طيران الجيش النظامي؟ هل سنتعرض للإختطاف على يد الجيش الحر أو العصابات الإرهابية؟ فقد كثرت الإشاعات في الفترة الأخيرة حول عمليات الإختطاف وطلب الفدية المالية.
ولكن السائق أبا مصطفى طمأننا، قائلاً إننا سنكون ضمن قافلة من ست سيارات متوجهة إلى تركيا، فالمسافرون لا يتحركون إلا ضمن قوافل كي يسلموا من القصف العشوائي للقرى والبلدات القريبة من الحدود، وتسهيلاً لعميلات التفتيش على حواجز الجيش الحر.
بمجرد خروجنا من دوار مصطفى العقاد، أو “دوار الموت” كما يسميه الحلبيون لكثرة حوادث السير التي تقع عنده، حتى اختفى أي وجود للجيش السوري النظامي، وكأننا انتقلنا إلى دولة أخرى. عند قرية خان العسل، دخلنا القرى السورية “المحررة،” كما يطلق عليها الجيش السوري الحر، وبدأت لحظات الترقب والدهشة، فهي المرة الأولى التي سألتقي بها عناصر الجيش الحر. ولكن أبا مصطفى استمر بطمأنتنا بأنهم لطفاء جداً ولن يتعرضوا لنا، طالما لن نقوم بتصويرهم أو مناقشتهم بأمور تخص عملهم.
وكان الأمر كما قال أبو مصطفى. كان أكثر العناصر شباباً في مقتبل العمر، يبتسمون لكل من يعبر متمنين لهم رحلة موفقة وعودة سالمة. إرتحنا قليلاً لما بدر منهم من لطف، ولكن بقيت بعض الريبة في عقلي، فهم جميعاً ملتحون على طريقة المتدينين السُّنة، ومازاد من ريبتي هي الشعارات الإسلامية التي ملأت الجدران – منها، على سبيل المثال لا الحصر: “لن يهزم جيش قائده رسول الله محمد.” وهنا تبادر إلى ذهني سؤال: هل مخاوف الأقليات الدينية كالعلويين والمسيحيين من أسلمة الثورة وانتشار الفكر المتطرف السلفي صحيحة؟ لطالما استنكرت في الماضي مخاوف أصدقائي المسيحيين من الطابع الإسلامي للثورة، ولكني لم أستطع أن أمنع نفسي من سؤال أبي مصطفى عن التواجد الإسلامي في الجيش الحر، فأجابني ساخراً: “هذا طبيعي جداً. ماذا ستفعلين إذاً عندما تقابلين عناصر القاعدة بعض قليل؟”
لم أصدق ما سمعت في البداية. تصورت للحظات أنّ أبا مصطفى يحاول إخافتي، ليس أكثر.
فمن الطبيعي أن أتقبل فكرة وجود الجيش الحر، بغض النظر عن التوجهات الدينية المتشددة للبعض منهم، فهم شباب سوري.
أماعناصر القاعدة، فهم إرهابيّون بشهادة العالم بأكمله! لم أستطع تقبل فكرة أن يكون من يحكم معبر وطني لايمت له بصلة!
وبالفعل، مع اقترابنا من نقطة حدود باب الهوى، إلتفت أخي وطلب منّا – أنا وأمي- أن نرتدي الحجاب، وكانت هذه أول مرة أرتديه، ولكن خوفاً من القاعدة لا من غضب الله! ظهر علم القاعدة — وهو راية سوداء كتب عليها بالأبيض “لا إله إلا الله محمد رسول الله” — معلقاً على كل زاوية مدمرة في المعبر. عندها سمعنا أصواتاً لم تكن بالغريبة علينا، ولكن الغريب أنّ أصوات الرصاص هذه المرة كانت من عناصر القاعدة. حوالي 40 عنصر من مختلف الجنسيات — الهندية، الباكستانية وحتى الأوروبية، كما قال لنا أبو مصطفى — يتدربون على الرماية في ساحة المعبر بالقرب من السوق الحرة المدمرة البعيدة عن ممر السيارات.
أوقفنا عناصر الحاجز وبدأ أحدهم بالتحدث مع السائق والتدقيق بجوازات السفر. لم أعرف حينها ما أفعل، هل أطمئن كون الإسم الأول لأبي “أحمد”؟ أم أخاف؟ لم يحاول العناصر التفتيش في أمتعتنا ولكنهم كانوا يبحثون عن أفراد من الجيش النظامي أو الطائفة العلوية، كما أصبح معروفاً لدى السائقين الذين يعبرون الطريق.
في هذه اللحظة توجه عنصر آخر، قال لنا أبو مصطفى إنه باكستاني، إلى مقعد أخي، وتحدث معه بلغة عربية ركيكة قائلاً: “السلام عليكم يا أخي في الإسلام.” أحسست بكلمات أخي ترفض الخروج خوفاً علينا من أي مكروه. تابع المقاتل حديثه بسؤال كاد أن يجمّد الدم في عروقنا جميعاً: “إلى أين أنت ذاهب يا أخي؟ إرجع إلى الجهاد حالاً في سبيل الله والدين، فالجنة بانتظارك.” تدخل أبو مصطفى قائلاً إن أخي شاب مؤمن ينوي أن يترك عائلته الصغيرة في أقرب مدينة آمنة في تركيا ليعود بعدها مباشرة إلى حلب. بين نظرات المقاتل الباكستاني المرتابة وكلمات السائق الواعدة بإعادة شقيقي إلى حلب، مرت لحظات على القافلة بأكملها وكأنها ساعات. إنتهت لحظات الترقب عندما أمرنا عنصر آخر بالمضي إلى الحدود التركية. وبحسب ما أخبرنا به أبو مصطفى، فإن عناصر القاعدة يرفضون أن يخرج أي شاب سني يسافر بمفرده، وغالباً ما يأخذون هؤلاء الشبان ليتم تجنيدهم فيما بعد لدى جماعاتهم، التي بدأت بالإنتشار في مناطق مختلفة في سوريا.
آخر مفاجآت الرحلة كانت على الجانب التركي من المعبر، عندما قال أحد ركاب القافلة إنه لا يملك جوزات سفر لبنتيه (عمرهما خمس وتسع سنوات) وإن الجانب التركي يرفض عبورهما بشكل رسمي. قال الرجل إنه سوف يتركهما في عهدة جماعة من الجيش الحر ليقوموا بتهريبهما عبر الطرقات غير الشرعية، كي لا يضطر للمخاطرة بعودته إلى الأراضي السورية.
طوال الطريق لم تفارقني صور هذه الرحلة الغريبة، كما أنّ الأمر لم يختلف كثيراً في تركيا. لازلت أرى بعيني مخيمات اللاجئين في هاتاي، والأعداد الكبيرة للسيارات السورية، وبالأخص الحلبية، في شوارع أنطاكية. إختلطت هذه الصور بوجوه المقاتلين وبأصوات قصف الطيران، بينما في ذهني سؤال واحد فقط:
كيف ستكون رحلة العودة؟ هل سنقابل الجيش النظامي، أم الحر، أم القاعدة؟
هذا إن كتب لنا العودة من جديد…