مَديحُ الكتابةِ السَهلةِ/ الصَعبةِ/ محمد المطرود
حجُبُ الكتابةِ
لا تكونُ حُجُبُ الكتابةِ مكشوفةً للجميعِ، فَثَمَّ ما تخفيه حيلةً أو دورانًا حولَ المعنىَ الذي يرادُ منهُ الكثير، ويثيرُ ريبةَ أحدٍ أو انزعاج أحدٍ، ما يجعلُ التعاملَ معَ الكاتبَ على أنّه شخصٌ مريب أمرًا واردًا، ومُطَمئِنًا للسلطاتِ التي تَخافهُ، فهي أي السلطاتِ حينَ تضعه في خانة المشكوك منهُ، تكونُ سلفًا قَدْ حدَّت من جهدهِ أو” قلّمتْ أظفاره”، وبهذا سنكونُ أمامَ كتابة في ظاهرها وحشٌ مروّضٌ وفي طيّ كتمانها رسالةٌ خفيةٌ تُشكِلُ على العامةِ وتلتبسُ عليهمُ وتنفتحُ على النخَبِ والمعنيين بها اختصاصًا وعملًا، إذا عرفنا أنَّ الكاتبَ الذي يقول أنّهُ يكتبُ لمجردِ الكتابةِ كفنٍ وسلوكٍ حياتي بحتٍ وخاصٍ بهِ يكذبُ، لأنَّ العلاقة التي يريد تشييدها مع نفسهِ ستمرُّ بالضرورةِ بالآخرِ الذي يعيشُ معه في مراحلِ إنتاجِ كتابتهِ، وتخيّلهُ لشكلِ الوصول يجعلهُ في قلقٍ يحولُ دونَ تركهِ لمنجزه بشكلهِ الأولّ وروحهِ الأولىَ، ليذهبَ الأمر برمتهِ كعمليةِ إنتاجٍ إلى الاشتغالِ والصنعةِ، ولعلَّ هذا ما قرّبنا من أقوال فلاسفةٍ وكُهّانٍ وفقهاء وحكماء حينَ القول بما معناه: الفكرةُ تأتينا من الملائكة ونحن نكملُ، في إشارةٍ واضحةٍ إلى الاشتغال الذي يعقبُ الحالةَ البِكر للكتابةِ. ثمةَ علاقةَ مركّبة ومرتبكةٌ بينَ المتلقي والكاتب ليستْ المحبةُ ضمنها، بلْ هيَ علاقةٌ أميلُ إلى العداوةِ منها إلى المحَبةِ، ترتبطُ بالحجبِ نفسها، تلكَ التي توحي باستعلاءِ طرفٍ على آخر، وحتىَ في حالةِ تحققِ الفائدةِ والمتعةِ للطرفين، فهيَ محكومةٌ بطرفٍ منتجٍ خوفهُ يؤدي بهِ إلى مداورةِ المعنىَ حدًّا يوصلهُ الغموض وطرفُ آخر يؤولُ ويرتابُ ويستفزُ أيضًا، سيندرجُ هذا تحتَ ما سماهُ الجاحظُ “حكمَ القارئ المتربّص” أو العداوة، وقدْ يكونُ الناقدُ المغاربي عبد الفتاح كيليطو عالجَ الموضوعَ فارهًا في كتابهِ “الأدب والارتياب”!.
أيهما أكثرُ وصولًا الكتابةُ السهلةُ أم الصعبة؟
تَتبينُ بداهةُ السؤال وبدائيتهُ من تركيبته، إذ من الواضح الإجابة، بل أنَّ لا مخاتلة أو حيلة في هذا، كما لو أننا هنا أردنا القول بأنَّ الكتابة السهلة هي الأقدرُ على الوصول، فالسؤال لا لعبة ولا ذكاءَ فيهِ، ولا إحالةَ إلى المختلف الذي يمكن من خلالهِ تقديمِ شروحاتٍ حقيقية تظهرُ الفوارقَ بين صناعةِ السهلة وصناعة الصعبةِ من حيث أن كليهما لهما القوة في الحضورِ كخطابينِ أو رسالتين إلى وسطينِ ليسَ بالضرورة أنْ يكونا متمايزين في قبولِ الشكلِ الظاهرِ والشكلِ الخفاءِ، فقارئ النصّ السهلِ، ذاكَ النصّ الذي يطلق عليه “السهلِ الممتنع” هو قارئ ذوّاقٌ بالضرورة و”يتربّص” بالكاتبِ ليقرأ ما وراءَ السهلِ، في حالِ ارتبطَ هذه السهلِ بالدرايةِ: أي أنَّ السهولة هنا شكلٌ مختار ومنتبهٌ لهُ، ومعمولٌ عليهِ، وبالتالي هو طريقة تعايش مُثلى معَ البنيةِ النفسية والفكرية والتجربةِ والمثاقفةِ والنصوصِ الغائبة للكاتب نفسهُ وبعلاقتهِ مع داخله وإحساسهِ بقارئه المتربّص والمستَفِز، بما يشيّدُ من محاكماتٍ، تؤهلهُ لأنْ يكونَ طرفًا في العمليةِ الإبداعية، وما القول عن غيابهِ إلّا محضُّ كذبةٍ، أو إذا أخذنا بصحتهِ فسيكونُ جائزًا في أواليةِ تشكُّل الفكرة/ الشرارة، حينَ طراوتها وهلاميتها قبلَ أنْ تشتدَّ وتحوز قوامها وكينونتها. أمّا في الكتابةِ الصعبةِ، المثقلةِ بالشغلِ لغةً وفكرةً، شكلًا ومضمونًا، لا خلافَ مع السهلة “المنتبهةِ” لذاتها ومتحسسةِ لها، ليظهر الفراق بينهما كما لو أنّه في الشكلِ فحسب، سيما إذا قلنا في أكثر من موضعٍ عن وجودِ الصنعةِ وذلكَ اللامصرّح به وإنّما المومأ إليهِ إشارةً، إمّا لرقيبٍ يتصيّدُ العثرات على غير طريقةِ القارئ الندّ أو لفتحِ شقّ التأويلِ على مصراعيه، ليكونَ هذا الفتحُ الموارب بحدّ ذاتهِ فعالية مضاعفةٌ تضفي سحرًا آخرَ على الكتابةِ وتفخيخًا للمتلقي يدخلُ في صلبِ النديةِ المفترضةِ أو المتواطأ عليها بين الكاتبِ وقارئِهِ” عدوّه”!.
فكّ الاشتباك
يؤخذُ على الكتابةِ السَهلةِ، بتمنعها وانحسارها في قلةٍ يملكون مفاتيحها ويتخذونها رهانًا على الحضورِ والمجالدةِ في فضاءٍ واسعٍ تتناهبهُ خياراتٌ وفيرةٌ، بأنَّ نصّهم لا حظوظ لهُ في المداومةِ أو في قراءةٍ ثانيةٍ محايثةٍ أخذًا بيدِ مقولةٍ “النصُّ الجيدِ هو الذي ترجعُ إلى قراءتهِ أكثر من مرة”، ولعلَّ سائلًا يسألُ: ألّا يمكنُ للكتابةِ السهلةِ أنْ تفعلَ هذا، فإنَّ المنطق سيجلبُ إجابة: السهلُ لا يؤولُ، وبالتالي الفعالية المركبّة ستنتفي هنا كشرط تفترضهُ حينَ إشراكِ القارئ في التعبِ والانشدادِ إلى الغامضِ والخفاءِ بوصفهما سِرّا/ حجابًا ومحفِزًّا. ويمكنُ القول خلاصةً: إنّ نصًّا واحدًا قد ينطوي على السهلِ والصعب معًا، وتأتي تدرجاتهُ لترضي قارئين على ألّا يكونَ التدرّج أو المبادلةُ بينَ النقيضين من وهنٍ وإفلات بالصعب لصالحِ السهلِ السهل، لا السهلِ الممتنع، ولا إفراطٌ في السهلِ لصالحِ الصعبِ الصعب، والذي هو تعميةٌ وتغميضٌ للنصّ كليًا.
*شاعر وناقد سوري
ضفة ثالثة