صفحات الثقافة

ماذا تأكل الأشجار؟/ إدريس الشرايبي

 

 

كان سرّها الأول. طوته مع فستانها ولمّته في خزانة ملابسها. إذا كانت لمّحت له ذلك المساء بعد انتهاء العشاء ـ وترتيب المائدة وإعداد الشاي بالنعناع ـ إلا أن ذلك كان رغماً عنها. كان أبي يحاول التحدث في أمور زراعة الخضروات المكثفة والأسمدة الكيماوية، وضرورة إعادة النظر في الميدان الفلاحي برمته في علاقته مع مآل الصناعة. لمن كان يتوجه؟ ليس إلى أبنائه. نجيب وأنا كان علينا الاهتمام بشيء واحد: دروسنا. ثم احترام عالم الوالدين أثناء وجبات الطعام، ثلاثة لقاءات يومية وفي صمت.

ـ جاءت بعثة أمريكية عبر البحر لبلادنا من أجل مساعدة أبناء عمومتها في أوروبا. وهدم أبناء عمومة آخرين في أوروبا. حقبة جديدة بدأت. مهما كان المستقبل؛ ماضينا انتهى. أعمال همجية ستطال كل الأرض. كل حرب ليست مجانية. كل شيء بالمال، حتى الخدمة. نحن الذين لا علاقة لنا بذلك النزاع الكبير سنتورط عندما تنتهي تلك الحرب؟ ما وراء تحويل الاختصاصات، ما وراء السياسة كذلك؛ إنها مؤسساتنا العتيقة؛ مكوناتنا الاجتماعية، نظرتنا إلى العالم منقلبة، ستكون موضوع نقاش، إذا لم تكن مرمية على الأرض. موجات جديدة، الأجيال الصاعدة ستفكر في المبادرة، ليس من أجل الاقتصاد العنيف وحرارة المضاربة، والمردودية، والإنتاجية، والإضرابات والقمع، إلخ…

كانت أمّي جالسة أمامه: جمهوره. الرأس ثابت، وكذلك العينان اللامعتان بنور العزيمة، وكأس الزجاج التي تلمس شفتيها كانت مملوءة عن آخرها وطفح بها الكيل، ليس بالشاي، ولكن بالاقتصاد السياسي. ماذا يعني هذا؟ بين الفينة والأخرى كانت تنفخ على المشروب الغامض والحارق قبل أن تشرب جرعة، تهز رأسها، توافق، في حين تفتحت عيناها الكبيرتان وأضحتا أكبر، وأعمق. وقالت:

ـ والأشجار، كذلك؟

ـ أية أشجار؟ يرد أبي. هل ذكرت الأشجار؟

ـ أوه لا! أجابت أمي بكل برودة. لقد نسيتها. تكلم لي عن الأشجار. كيف تعمل من أجل الزواج والحصول على الأولاد، وكيف تغني لشمس الغروب؟

من فوق المائدة اتكأ نحو زوجته. يتأمل في نظراتها، وجهاً لوجه.

ـ ذكّروني، عن ماذا كنت أتكلم منذ ربع ساعة؟

ـ لا أعرف، ردت أمي. كنت أعرف أنك لم تكن تتحدث عن الأشجار ولا عن العصافير. ولا عن جدول ماء صغير.

ـ آه! حسناً. حسن جداً. هذا كل ما تتذكرينه؟

ـ أنا متأكدة.

ـ أنا كذلك. اسمعي، سأحكي لك حكاية: أنا حرثت فداناً، زرعت القمح وحصدت الفئران. هل فهمت؟

ـ نعم، فهمت؟

ـ ما تفسير هذه الأعجوبة؟

ـ أية «أعجوبة»؟ كل الناس يعرفون أن في الحقول فئراناً. كانت جائعة وأكلت القمح وتناسلت. أنا مسرورة لهم. لكني لا أفهم كيف تفعل الأشجار للحصول على الأبناء. ماذا تأكل؟

ـ ساد صمت مطبق.

ـ الحمد لله! أنهى أبي حديثه وهو ينهض. سأذهب إلى النوم.

وهكذا كان الموقف: الدهشة رسمت خطوطاً على شفتي أمي، والحزن جعلها ترتعد.

ـ لكني ماذا قلت؟ ماذا قلت؟

ـ لا شيء، ردّ نجيب. يجب أن تنتبهي. ربما في السنة المقبلة بمساعدة الأمريكان سيزرع الفئران ويحصد القمح.

ـ أو أشجاراً، قلت بصوت منخفض. وفي انتظار ذلك، اكتمي السرّ ولا تقولي شيئاً لأحد. وبعكس ذلك، لن ينبت شيء إلا الريح.

ـ انظروا يا أبنائي! أنا أمكم! هل سبق أن بحت بسرّ؟

ـ أوه، لا! قلت صائحاً. تقريباً أبداً.

ـ إلا خمسة أو ستة مضروبة في عشرة، قال نجيب. من وقت إلى آخر، أليس كذلك؟

ـ كانت أسراراً تافهة، احتجت أمي. من أجل الكبيرة، الأسرار الحقيقية، إني قبر، وأنا مدفونة فيه.

ـ هكذا أحسن! رد نجيب، ابقي هكذا إلى موعد النزهة المقبلة.

ـ متى؟ متى؟

ـ قريباً. يسعد مساءك أيتها الأم الصغيرة.

في الغد باكراً اتصلت هاتفياً بابنة عمتها. تكلمت عن فستانها الجديد، وحذائها، والحديقة، والخضرة، ولكن ذلك كان بصورة مقتضبة، وموضوعية، وتقريباً ماركسية، أو شيء من هذا القبيل:

ـ ألو، مريم؟… قولي لي: الماء من دون صنبور، يأتي من حيث لا تعلمي، يجري كثعبان الضوء على العشب الأخضر والأزهار المختلفة الألوان، على بساط من الرمل والحصى الصغيرة، ماذا؟… آه! جدول ماء!… هل سبق أن رأيت جدول ماء أنت؟ اسمعي، يا ابنة عمي، هل سبق لك أن رأيت من فوق السطح هؤلاء السيدات الغربيات بفساتين ضيقة لاصقة عليهن كالجلد الاصطناعي وينتعلن الأحذية بالعكاز؟… مضحكات، أليس كذلك؟… أكيد أن ذلك جميل، لا أقول العكس… الأزهار التي تمشي على سيقانها… لكن ماذا يفعلن طوال النهار، من متجر إلى آخر؟ أليس لهنّ بيوت يرعينها؟ هل هن تائهات أم ماذا؟… نعم، أكيد، أكيد… يمشين ويرجعن بكل حرية، لا أحد يراقبهن… لكن هناك شيئاً لم أفهمه: إذا كنّ بالفعل حرّات، لماذا نراهن مضطربات؟ لماذا يجرين في كل الاتجاهات؟ الشخص الحر هو شخص جامد كالشجرة، بربّي نعم… والبيت من دون جدران ومن دون سقف، مشرع على السماء، كله اخضرار، مزروع بالأشجار والزهور: ماذا يكون؟… أها! حديقة؟.

في الصباح، في قسم الرياضيات، عندما فتحت دفتري أرى على الصفحة رسومات، شجرتين، واحدة كبيرة ومرتفعة، والأخرى ضعيفة مثلي: كانت الأوراق متناثرة بعناية وبعض أزهار الورد، صفراء، زرقاء، وبين الشجرتين خيال، دائرة للرأس، أربعة خطوط من أجل الأطراف، بيضة للتعبير عن الجسد. أمّي، من دون شك. إنها تبتسم.

 

عن «الحضارة أمّي»، 1972.

ترجمة سعيد بلمبخوت

 

ذات الروائي ومجتمعاته

 

الروائي والقاصّ المغربي (1926 ـ 2007) أحد أبرز أسماء الأدب المغاربي الفرنكوفوني في الحقبة المعاصرة؛ ليس على صعيد الخصائص التي انفرد بها نتاجه ضمن المشهد الأعرض للسرد المغاربي، والمغربي تحديداً، فحسب؛ بل كذلك ضمن إطار أعرض يخصّ السرد المكتوب بالفرنسية عموماً، وفي النتاج الروائي والقصصي الفرنسي المعاصر أيضاً. لم يكن غريباً، إذاً، أن تصدر أعماله عن دور نشر فرنسية كبيرة، وعريقة، اعتادت نشر أعلام الأدب الفرنسي؛ مثل «غاليمار»، و»سوي»، و»دونويل».

أرسله والده إلى فرنسا، سنة 1945، ليدرس الطبّ، فهرب من سماعة الطبيب إلى دورق المختبر، وتخرّج مهندساً كيميائياً؛ لكنه زاول، بعدئذن سلسلة مهن لا صلة تجمع بينها، سوى حسّ الاستقلال وحرّية العمل: حمال في الميناء، حارس ليلي، مدرّس لغة عربية، منتج برامج في الإذاعة؛ ثمّ، بالطبع، مهنة الكتابة التي كانت أولى بواكيرها رواية «الماضي البسيط»، 1954، التي أثارت ضجة في فرنسا لأنها أعملت مبضع التشريح النقدي في ظواهر اعتلال المجتمع المغربي. ومنذ هذه الرواية وحتى آخر عمل له، صدر سنة 2004، سوف تتبلور سلسلة خصائص لصيقة بأدبه، لعلّ أهمها قدرته الفائقة على المزج بين نزوعات التمرّد الفردي، والتوغل في مختلف أنماط الشعور الجَمْعي والباطن العميق من المجتمعات التي التقطتها رواياته.

بهذا المعنى فإنّ روايته «الحضارة أمّي» لم تكتفِ بالتقاط شخصية أمّ مغربية أقرب إلى نموذج عالي التمثيل لقسط واسع من هواجس المرأة المغربية الحديثة، وهمومها وآلامها وآمالها، وعوالمها النفسية والحسية والتخييلية، فحسب؛ بل كانت دعوة ـ أولى ومبكرة كما يتوجب القول، إذْ تصدر عن كاتب مغربي فرنكوفوني ـ لتحرير المرأة المغاربية إجمالاً، ليس دون نقد لاذع لشتى الاستيهامات، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي اكتنفت دعوات التحرر النسوي. في المقابل، كان طريفاً، وذا دلالة جمالية خاصة، أن يصدر الشرايبي رواية تتخيّل قيام مفتش شرطة مغربي يدعى علي، بفتح تحقيق حول وفاة أسامة بن لادن في مدينة مراكش؛ على خلفية ناقدة دائماً، تتصل بقصور المفاهيم التي اقترنت بما سُمّي «الحرب على الإرهاب».

وحين رحل الشرايبي، المغربي المهاجر إلى فرنسا وكندا، كان رصيد اعماله يقارب 16 رواية، تناولت ذات الروائي ومجتمعاته؛ وكانت أدراج مكتبه تختزن مخطوط رواية قيد الكتابة، عن… مجزرة ملجأ قانا!

إدريس الشرايبي

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى