مَنْ كتبَ خطاب مناف طلاس؟
يارا بدر
أطّل العميد الركن ‘مناف طلاس’ على السوريين مساء يوم 24/07/2012 في خطاب، هو الأوّل له، أعلنّ فيه انشقاقه الرسمي عن طاقم النظام السوري. هذا الخطاب الذي نجد صعوبة في قراءته بمعزلٍ عن شخص قارئه، خاصة للسوريين. إلاّ أنّ الواقع الذي عاشه السوريون خلال عام وسبعة أشهر تقريباً، والذي فاض بالخطابات السياسية العائدة إلى انشطار المعارضات السياسية متنوعة الطيف من جهة، وإلى خطابات رئيس الجمهورية التي أطلقت ردوداً عالمية المدى، من جهة ثانية، يفرض علينا التوقف لبرهة مع بيان مناف طلاس، الرجل السرّي حتى اللحظة، وحتى أثناء بيانه.
فهذا المُقرّب الصدوق من شخص رئيس النظام، والذي يُعدّ أحد أفراد الدائرة الضيقة في النظام، لم ينهج منهج المعارضة السورية التي تصارعت في الكواليس وأمام الشاشات وتراشقت بالعبارات وحتى بالايدي في بعض الأحيان، اختار اللا ظهور، وصاغ- أو صيغَ له- بيانٌ لا يُقدّم لنا مناف طلاس، بل يقدّم الصورة ‘مناف طلاس’.
بيانٌ مختصر، أظهر وبشكلٍ جليّ انعكاس كلماته على شخص ‘مناف طلاس’ وليس العكس، مُكثّف، وكل كلمة فيه اتت مدروسة بدقة شديدة، لم يُهاتر، لم ينفعل، حاول ضبط إيقاعه، وأرسل مجموعة من الرسائل في جمل تمّت صياغتها كي تلائم الجميع، فكان خطاباً قد نراه للوهلة الأولى لا يُقدّم جديداً، إلاّ أنه في الواقع يمزج أزمات عام ونصف تقريباً ثم يحاول رسم موقف لنفسه من الوضع القائم بعد هذا العام والنصف. ومن هنا فإنّ أي قراءة للبيان من حيث أّنه ‘خطاب’ تفترض قدراً من الحياد السياسي، ومحاولة النظر إليه كمؤيد، كمعارض، وحتى ككتلة صامتة.
أوّل ما يمكن قراءته في البيان هو ‘الجيش السوري’ وليس ‘الجيش العربي السوري’ حيث ورد: ‘أنا من الجيش السوري الذي يرفض النهج الإجرامي’. علماً أنّ كلمة ‘العربي’ لم ترد في أي من جمل البيان، في إشارة واضحة إلى الأكراد السوريين الذين هم جزء أساسي من سوريا، مواطنون لهم كامل الحقوق وعليهم كافة الواجبات.
أمّا الجملة بمجملها فهي جملة يقرأها الطرفان، فيها انتماء إلى الجيش السوري، الذي هو جيش وطني، من أهم شروط هذه ‘الوطنية’ رفضه النهج الإجرامي المتمثّل بقتل مواطني بلده على أرضهم، علماً أنّ كل من رفض هذا النهج شكّل خلال زمن الثورة ما يُعرف ب ‘الجيش الحر’.
تحدّث البيان عن ضرورة التوّحد من أجل المرحلة القادمة، وفي إشارته إلى هذه المرحلة ذكر البيان’: (إنّ كل منتمٍ شريف لهذا الجيش ولا يقوم بقتل السوريين أو إهانتهم فهو يطبع قبلة اعتذار وتقدير على جبين كل مواطن سوري حر لحق به الأذى ممّن سوّلت لهم أنفسهم التنكيل بأبناء بلادنا، وهؤلاء الشرفاء هم امتداد لشرفاء الجيش السوري الحر).
هنا تستوقفنا ثلاث نقاط، الأولى أنّ كاتب البيان عاد إلى جوهر الحراك السوري، ألاّ وهو الهتاف الذي نطق به شباب ‘الحريقة’ حين خرجوا في مظاهرة عفوية قبل انطلاق الثورة من درعا وهتفوا : ‘الشعب السوري ما بينذّل’، إذ ورغم كل الدماء والتي لم يتوقف الحديث العربي أو الدولي ولا حتى حديث المعارضة السورية عن ذكرها، ذكر البيان ‘ ولا يقوم بقتل السوريين أو إهانتهم’، هذه الإشارة إلى شرط عدم إهانة السوريين، نسيها المعارضون السوريون في أحاديثهم المكررة على شاشات الفضائيات منذ زمن، وهي الجوهر الذي يجب ألاّ يُنسى.
النقطة الثانية أنّ سياق النص يوحي بأنّه لا يزال في الجيش السوري الكثير ممن لم تتلوث أيديهم بالدماء ولم يقوموا بإهانة السوريين، ومن هنا هم امتداد للجيش الحر، وهو ما ليس بالأمر العابر، فمن هكذا رؤية يمكن الانطلاق لبناء قاعدة عفو عَمّن لم يحسموا، أو عَمّن لم يستطيعوا أن يحسموا موقفهم بشكل علني بعد وهم لا يزالون عناصر في الجيش السوري.
النقطة الثالثة وقد تكون الأهم: ‘وهؤلاء الشرفاء هم امتداد لشرفاء الجيش السوري الحر’. يمكننا قراءة جملة ‘لشرفاء الجيش السوري الحر ‘ باعتبار أنّ صفة ‘شرفاء’ تنسحب إلى جميع عناصر الجيش السوري الحر، ويمكننا قراءتها في سياقها الكامل ‘وهؤلاء الشرفاء هم امتداد لشرفاء الجيش السوري الحر’ حيث تمّ التمييز بين عناصر الجيس السوري ب ‘شرفاء’ و’غير ذلك’ الأمر الذي ينسحب كذلك إلى الجيش السوري الحر حيث يقوم التمييّز ضمناً بين ‘شرفاء’ و’غير ذلك’، وفي هذه القراءة لا تكون الجملة موّجهة إلى الداخل السوري أو إلى المعارضة السورية بقدر ما هي موجّهة إلى الخارج، إلى روسيا وأوروبا والأمم المتحدة، حيث أنّ أي مرحلة انتقالية لا بد وان تتطلّب ما يُعرف ب ‘العدالة الانتقالية’ وهذه العدالة توضّح الجملة أنها ستقوم على محاسبة كل من ارتكب أعمالاً إجرامية إن كان في الجيش السوري، أو في الجيش السوري الحر.
أشار البيان مرتين، رغمّ إيجازه الشديد، إلى ضرورة الحفاظ على النسيج الاجتماعي الموّحد، في رسالة الغاية منها تطمين جميع الأقليات، واعتقد بخاصة الأخوة المسيحيين الذين لا يزالون على الحياد التام تجاه كل ما يجري في البلاد.
كذلك تحدّث البيان عن ضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة لأنها مؤسساتنا نحن السوريين (وليست مؤسسات أفراد اختطفوها أو افقدوها مكانتها)، وهذا التميّز في حال مؤسسات الدولة السورية هو تميّز هام جداً، وواقعي، وإن كان السؤال لا يزال قائماً عن كيفيّة الحفاظ على مؤسسة ‘تمّ اختطافها’؟.
المـلاحظة الأخــيــرة، أنّه وفي أغلب الخطب السياسية تكون هناك دومــاً جمل مميزة، توضع من أجل تفرّدها، لكي يحفظها التاريخ، في بيان مناف طلاس كانت عبارة: (فسوريا أكبر من الأفراد).
قد يكون مناف طلاس الرجل الذي يُراد له أن يكون رجل المرحلة القادمة، وقد لا يُسمح له، قد يكون وقد لا يكون. قد لا يكون لهذا البيان أي أثر أو فاعلية لاحقة، وقد يكون. إلاّ أنّه بالتأكيد خطاب فارق في سياق الخطابات السياسية التي تابعها السوريون طوال عام وسبعة أشهر، خطاب تمّت كتابته بحنكة دبلوماسية خاصة، خطاب قد لا يبقى منه سوى اتفاق الجميع على ما عاشه السوريون خلال ثورتهم إيماناً وقولاً وفعلاً: ‘فسوريا أكبر من الأفراد’، إنّها الصياغة الدبلوماسية لهتاف المدن السورية : ‘وإن متتْ يا مي ما تبكيشْ… أنا متتْ مشان بلادي تعيشْ’.
‘ كاتبة سورية
القدس العربي