مَن يدير الجيش السوري الإلكتروني؟/ عامر أبو حامد
المتابع لـ”إنجازات” الجيش السوري الإلكتروني، يخلص إلى أن عالمنا الافتراضي أكثر هشاشة من واقعنا الملموس، فكما تسخر دبابات وصواريخ الجيش السوري النظامي من عجز المجتمع الدولي عن إيقافها، يتابع الشق الافتراضي للجيش السوري المهمة، بضرب أهم المواقع الإعلامية العالمية ومواقع أخرى كتلك التي يديرها من يفترض بأنهم يحكمون الأرض.
ليس خافيا على أحد أن الجيش السوري الإلكتروني هو مجاز منمق وافتراضي لصيغة تشبيحية أخرى، ابتكرها فكر الأسد وأضافها إلى الانجازات الأمنية الـ17، إذ أن الثناء الذي وجهه بشار الأسد في خطابه في 20 حزيران 2011 لمقاتلي العالم الافتراضي كان دليلاً على تبنيه شخصياً لهذا التنظيم، الذي تمدد ليصبح إحدى مافيات الافتراض العالمي خلال الأشهر الأخيرة، مهدداَ أمن المعلومات في البلاد التي توجد فيها الخوادم العالمية للإنترنت. لكن فرع الجيش السوري الألكتروني لم يُنتَج لينكّل بالسوريين افتراضياً ويتجسس عليهم فحسب، بل ليفيض عن سوريا إلى التشبيح الإقليمي والدولي، مختزلاً “ممانعة” الأسد لإسرائيل والغرب بضربات الكترونية تنوب عن ضربات الصواريخ المنشودة إلى عمق العدو من جهة، ومنفذاً أجندات وأهدافاً إلكترونية فوق إقليمية من جهةٍ أخرى.
العقيدة
يعتلي ناشط موالٍ للنظام، منبر ساحة “السبع بحرات” الدمشقية في نيسان من العام الفائت، ليتلو قَسَم الجيش السوري الألكتروني على الحشد الموالي فيردد من ورائه: “نقسم بالله العظيم، بأن نبقى مخلصين لسوريا، وشعبها، وبشارها، وجيشها الإلكتروني. ونقسم بأن نبقى متحدين، طائفتنا سوريا، وعشقنا أرضها، وغايتنا إعلاء شأنها، وأن نبذل الغالي والرخيص من جهد وعرق ودم للدفاع عنها، والله على ما نقول شهيد. عشتم وعاشت سوريا وقائدها وجيشها الإلكتروني”.
من هو الجيش الالكتروني السوري؟ سؤال حيّر وسائل الإعلام ومراكز صناعة القرار في الغرب، إذ أن الـ IP المزور ووسائل التضليل الألكترونية تبقي على هويات أفراد هذا التنظيم سرية، كما الهيكيلية التنظيمة والجهات الممولة والداعمة له. ورغم التصريحات المتكررة لنشطاء من SEA كما يسمون أنفسهم في مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تنفي أي صلة لهم بالنظام السوري، إلا أن الأدلة كلها تشير إلى دعم مباشر من قبل الدائرة الأمنية الصغيرة في دمشق. أحد الناشطين في دمشق، من الموالين للنظام والمقربين من الجيش الإلكتروني، يصرح لـ”المدن” مشترطاً عدم الكشف عن اسمه: “لا يمكن لأحد من الجيش الألكتروني التحدث إلى الإعلام إلا بشكل منسق وآمن، ولايتم التصريح اعتباطياً”، ويتابع: “هناك غرف سرية ومغلقة في فايسبوك وسكايب، يتواصل من خلالها مسؤولو الجيش الالكتروني مع تقنيين من الجمعية المعلوماتية السورية وفرع المعلومات 255”.
وبحس صحف غربية، فإن الجيش الإلكتروني هو التنظيم الأول من نوعه في المنطقة، على غرار تنظيم “أنونيموس” العالمي، إذ أن “بنك الأهداف” الافتراضية يصب في قضية سياسية تشغل العالم منذ عامين. لكن المقاتلين الإلكترونيين يصرّون على تعريف أنفسهم بمعزل عن النظام: “نحن لسنا جهة رسمية ولا مكلفين من قبل أحد، نحن شباب سوريون لبينا نداء الوطن والواجب بعد تعرض وطننا الحبيب سوريا لهجمات على الإنترنت، قررنا الرد وبعنف باسم الجيش السوري الإلكتروني ونحن صامدون… باقون… سوريون”. وهذا التعريف الوارد على موقعهم الإلكتروني وصفحاتهم في “فايسبوك” و “تويتر”، هو كليشيه إيديولوجي لا يمكن أن يخرج أحدهم عنه في أي تصريح صحافي. لكن واقع الحال في سوريا يشير دائماً إلى وجود عقل مدبر أو رجل مُجند من قبل النظام لأداء هذه المهمة الإلكترونية، إذ تدور شائعات حول عمار اسماعيل، وهو مدير شبكة دمشق الأخبارية والمسؤول عن الصفحة الرسمية لبشار الأسد في فايسبوك، كما له صلات أمنية مباشرة بالقصر الرئاسي وفق ما ذكرت تسريبات “ويكيليكس” العام الماضي.
يحاول الإعلام السوري التركيز على عفوية نشأة الجيش السوري الإلكتروني. ففي حديث خاص مع جريدة “بلدنا”، المقربة من النظام، في 2011، قال من عرّف عن نفسه بمدير موقع الجيش الإلكتروني ورفض ذكر اسمه، إن الفكرة كانت لعلي فرحة وحاتم ديب، وهما طالبان يدرسان هندسة الكومبيوتر، مواليان للنظام السوري، وأنشآ صفحة في “فايسبوك” باسم الجيش السوري الإلكتروني. لكن نشطاء المعارضة يرون أن هذا التنظيم الوهمي ليس سوى فرع آخر من فروع الأمن السورية، مدعوم تقنياً من إيران وروسيا. يقول دلشاد عثمان، وهو ناشط معارض ومهندس نظم التشغيل، لـ”المدن”: “في البداية كان الجيش الإلكتروني عبارة عن مجموعات ناشطة على الشبكات الاجتماعية، انضم إليها تقنيون يقومون بأعمال التهكير (القرصنة)، ومن ثم تم تبنيهم من قبل النظام الذي بات يوجههم ويأتمرون بأوامره مباشرة”.
انتصارات افتراضية
تتفاوت المواقع المستهدفة من قبل الجيش الإلكتروني السوري، بين وكالات الأنباء والصحف والمواقع الحكومية الغربية ومواقع التواصل الاجتماعي، وتشمل المروحة تطيبقات التواصل السريع على الأجهزة المحمولة.
كانت بداية الجيش الإلكتروني مقتصرة على الضربات المحدودة، من طريق الضغط العددي على المواقع وهجمات التعليقات والتبليغات في صفحات التواصل الاجتماعي، إذ يمكن تلخيص معظم الانجازات في 2011 في قرصنة صفحات الناشطين وحسابات بريدهم الإلكتروني بطريقة الـ phishing وضرب موقع تلفزيون “أورينت” وتعطيل الخادم، إضافة إلى تظاهرات افتراضية بتعليقات كثيفة على صفحات رؤساء دول غربية. وكانت أهم المحاولات، إغلاق صفحة الثورة السورية لفترة وجيزة.
وفي العام 2012، طوّر الجيش الإلكتروني هجماته لتشمل حسابات وسائل الإعلام العربية في “فايسبوك” و”تويتر”، كحسابات قنوات “العربية” و”الجزيرة” و”سكاي نيوز” ووكالة الصحافة الفرنسية. وتمثّل أبرز الهجمات في قرصنة موقع قناة “العربية” ونشر خبر كاذب عن انقلاب عسكري في دولة قطر، إضافة إلى قرصنة حسابات لعاملين وتقنيين في “الجزيرة” ونشر معلوماتهم الخاصة. وهنا يعلّق الناشط الموالي في حديثه مع “المدن”: “كان ما قام به الجيش الإلكتروني هو الرد الأمثل على وسائل الإعلام المضللة، إذ لا يقابل التضليل إلا بالاختراق وكشف الحقيقة. وهذا ما دفع معظم وسائل الإعلام إلى إعادة النظر في محتواها الأمني”.
لكن الأشهر الأخيرة أظهرت تحولاً نوعياً في قدرات الجيش الإلكتروني، إذ أحدثت الضربات الموجهة إلى المواقع العالمية ضجةً في الأوساط السياسية والاقتصادية. فتم اختراق حساب القناة البريطانية ITV في “فايسبوك” و”تويتر” وحسابات تابعة لصحيفة “ديلي تليغراف” البريطانية، وحسابات شبكة E التلفزيونية وخدمات SMS الخاصة بها، واخترق موقعا صحيفتي “واشنطن بوست” و”فاينانشال تايمز” وحساباتهما في “تويتر”. إضافة إلى حسابات تعود لصحيفة “غارديان” البريطانية. إلّا أن الضربة الكبرى كانت باختراق الحساب الخاص بوكالة “أسوشيتد برس” في “تويتر” ونشر خبر كاذب عن وقوع انفجارين في البيت الأبيض وإصابة الرئيس الأميركي باراك أوباما، ما أدى إلى بلبلة إعلامية في الوكالات العالمية وهبوط سوق الأوراق المالية في نيويورك مخلفاً خسائر كبيرة.
أيدٍ خفية وخلافات داخلية
غالباً ما يزترك قراصنة الجيش الإلكتروني رسائل على المواقع المخترقة تتمثل بوسمة #SEA وكتابات عن التضليل الإعلامي أو تحويل الموقع إلى واجهات مزورة وأخرى لمواقع سورية موالية، بهدف كشف “التضليل” وتعريف العالم “بالحقائق” كما تفيد “رسالة” الجيش الإلكتروني. لكن الاختراقات الأخيرة لصحيفة “نيويورك تايمز”، ومن بعدها تطيبقات “تانغو” و”فايبر” وأخيراً موقع المارينز الأميركي، حملت طابعاً تهديدياً على خلفية القرار الأميركي بتوجيه ضربة عسكرية لسوريا، ما جعل أمن المعلومات الأميركي يستنفر، وذلك لأن الاستهداف كان في مستوى DNS.
ويقول دلشاد عثمان: “لدينا تجربة مع الجيش الإلكتروني، لقد كانت خبرتهم التقنية أقل من عادية، معتمدين على ثغرات معروفة ومكشوفة. إلا أن تحولاً نوعياً طرأ منذ نيسان/أبريل الماضي”، ويروي تجربته مع الجيش الإلكتروني الذي اخترق موقعاً من تصميم دلشاد، مهمته رصد صواريخ السكود وتحذير الناس منها: “تم الهجوم على الموقع من قبل 11 ألف مستخدم، أي 11 ألف جهاز كومبيوتر وهذا عدد هائل، لا يمكن أن ينحصر تواجد أصحابه في سوريا”.
بعد اختراق صحيفة “نيويورك تايمز” المدوي، أجرى أحد أعضاء الجيش الإلكتروني حواراً عبر الإيميل مع ABC news، مدعياً أنه القائد العام للتنظيم، وصرّح: “عندما نخترق وسائل الإعلام، لا ندمّر الموقع، بل ننشر إذا أمكن نصّاً يحتوي حقيقة ما يحدث في سوريا. لكن إذا قامت الولايات المتحدة بضرب سوريا، سنستخدم طرقاً أخرى ستسبب أذى للاقتصاد الأميركي وغيره”. لكن الضربة التالية لم تتأخر، لتصيب في أوائل أيلول/سبتمبر الجاري موقع المارينز الأميركي، حيث نشرت رسائل موجهة إلى جنود المارينز تدعوهم إلى عدم المشاركة في الهجوم على سوريا.
“الهجمات الأخيرة لا تحمل بصمات سورية ولا حتى إيرانية، أنا أشك في دول الاتحاد السوفياتي السابق”، يقول دلشاد عثمان، مضيفاً: “لكن علينا التمييز بين الاختراقات، فهناك ما هو على مستوى حسابات شخصية وعناوين بريد الكتروني، واختراقات أهم من مستوى DNS، وهذا بدوره لا يظهر عجزاً أو ضعفا ً في نظام الحماية للمواقع الإعلامية المخترقة، لأن هذا الاختراق يتم بمستوى حامل الموقع أي الدوماين وليس الموقع ذاته. ومن المرجح أن تكون الثغرة في موقع هش محمول على الخادم (سيرفر) نفسه”.
حسابات الجيش السوري الإلكتروني في “فايسبوك” و”توتير” تعرضت للإغلاق من قبل الشركات لأكثر من 150 مرة، بينما صودر “دوماين” الموقع الإلكتروني من قبل الجمعية العلمية السورية التي أسسها باسل الأسد العام 1989، في ما يشبه إعلان الطلاق بين المؤسسة والتنظيم الافتراضي، أو كما يرى ناشطو المعارضة بأنه إعلان تمثيلي كي لا يلام النظام السوري على ما سيقدِم عليه الجيش الإلكتروني في الأيام المقبلة.
لكن يبدو أن مقاتلي الافتراض السوريين، خرجوا في الآونة الأخيرة عن قضيتهم المفترضة من دفاع عن النظام السوري، ليدخلوا أجندة الحرب الألكترونية بين أقطاب العالم، منفذين أجندات خفية باسم سوريين موالين للأسد، وهذا قد يدفع للاعتقاد بأن مهمة الجيش السوري الألكتروني لن تنتهي بنهاية النظام. فقد ينتهي التنظيم هذا إلى مآلات أخرى، تتبناها جهات تستفيد من العمل تحت مظلة اسمية، لتحقيق مصالح اقتصادية وسياسية، في حين أن انطفاء شاشة كومبيوتر واحدة قد تعني خسارة ملايين الدولارات.