إياد الجعفريصفحات المستقبل

“نابلسية” شلاش/ إياد الجعفري

 

 

تزدحم سماء سوريا بطائرات الدول، وتتوالى الاجتماعات العلنية منها والسرية، للتفاوض حول الكعكة السورية بين الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة، وسط غياب سوري مرير،.. لكن ذلك لا يغيّر شيئاً في عقليات ونفوس مسؤولي النظام السوري.

قبل يومين، نشر أحمد شلاش، عضو ما يسمى بـ “مجلس الشعب”، في صفحته في “فيسبوك”، قصة ادعى أنها حدثت معه، خلاصتها، أن شاباً اقترب منه في أثناء سيره بأحد شوارع العاصمة، وكان يريد، على ما يبدو، أن يحدثه ببعض طلباته، فـ شلاش، عضو “مجلس الشعب”، والمفترض أن واجبه أن يستمع لطلبات وشكاوى السوريين، لكن مرافق شلاش دفع الشاب بعنف وبطحه أرضاً، فغضب شلاش، حسب وصفه، وصفع المرافق، وأنّبه، وطيّب خاطر الشاب بصحن “نابلسية” في محل حلويات “نفيسة” الشهير بدمشق. وختم شلاش قصته بأنه فعل ذلك، كي لا يزيد من “عمق الفجوة والثقة بين المسؤول والمواطن”، على حد وصفه.

أراد شلاش بقصته أن يُشيد بنفسه، أمام متابعيه، لكنه وقع من حيث لا يدري في إساءة لنفسه، استجلبت الكثير من الشتائم والسخرية في وسائل التواصل الاجتماعي. بكل الأحوال، ذلك ليس جديداً على شلاش، فهو كثير الطلّات على وسائل إعلام النظام و”محور المقاومة”، ويستجلب لنفسه الكثير من السخرية في طلّاته الدائمة تلك، ومن أشهر سقطاته، تعهده بحلق “شواربه” على الهواء مباشرة، في حال لم يستعد جيش النظام إدلب، في عشرة أيام، وذلك بعيد سيطرة “جيش الفتح” عليها. وما يزال السوريون ينتظرون أن يفي شلاش بوعده.

لكن اللافت في ما كتبه شلاش، أنه يؤكد استقرار الصفات التي أدت إلى الثورة، في عقليات ونفوس مسؤولي النظام. صفات فاقمت من أزمات سوريا، ومن ثم، منعت مسؤولي النظام من تقدير الطريقة الأنسب للتعامل مع المظاهرات الأولى في عام 2011، فاعتمدوا الحل الأمني والعسكري، كتعبير عن هذه الصفات المستقرة في عقلياتهم ونفوسهم. صفات من قبيل، العجرفة، والتعالي على المواطن، والانفصال التام عن الواقع المُعاش، والأبرز، نظرية المكرمة في حال تقديم أي شيء للمواطن. وهي صفات تنطبق على معظم مسؤولي النظام، من أدناهم، من قبيل أحمد شلاش، بطل قصتنا، الذي هو عضو “مجلس شعب”، أي “لا بيحل ولا بيربط”، حسب المثل السوري الشائع، انتهاءاً برأس النظام ذاته، بشار الأسد.

شلاش، الذي هو عضو “مجلس شعب”، كان يسير برفقة مرافق، والمرافق كان رد فعله الأولي لدى اقتراب مواطن من المسؤول، أن دفعه وبطحه أرضاً، وهو ما يؤكد كيف ينظر مرافق المسؤول للمواطن، فما بالك بنظرة المسؤول ذاته!، لكن الأهم في قصة شلاش، والذي يدلل على استقرار العجرفة والتعالي في عقليات مسؤولي النظام، أن شلاش مجرد عضو “مجلس شعب”، وهو ليس مسؤولاً بالمعنى التنفيذي للكلمة، ورغم ذلك، استخدم الرجل تعبير “المسؤول” عن نفسه. وكلمة “المسؤول” في الوعي السوري، لطالما ارتبطت بذلك “المتعالي” على الناس، القادر على تجاوز العقبات التي تقف أمامهم، والذي يقصده الناس، ويتزلفون له، أملاً في أن يتكرم عليهم بحل بعض مشكلاتهم.

في بداية الثورة، ومع أحداث درعا الأولى، أُشيع بأن بعض العقلاء اقترح على بشار الأسد زيارة درعا، والجلوس مع قادة ووجهاء العشائر فيها، والوصول إلى تسوية، على الطرق العشائرية التقليدية، ودفع دية مقابل ما سقط من شهداء على يد رئيس فرع الأمن السياسي، عاطف نجيب. وتعهد العقلاء حينها بأن خطوة كهذه من بشار، ستُطفئ نيران الفتنة في بدايتها، لكن بشار لم يستمع لتلك النصائح، وأرسل شقيقه مع فرقة عسكرية كاملة، لإخماد الاحتجاجات الأولى في درعا، وكانت الشرارة التي عمت كامل التراب السوري.

قبل ذلك بأسابيع فقط، يذكر السوريون وزير الداخلية بحكومة النظام، سعيد سمور، الذي تمكن من فضّ أول حراك احتجاجي بسوريا، في حي الحريقة بدمشق، حينما تعامل مع الجمهور بشيء من التقدير، وسعة الصبر والأفق.

الجميع يذكرون حادث “الحريقة” ذلك، حينما أهان رجل شرطة ابن أحد تجار السوق العريق بقلب العاصمة، فانتفض الناس، فقدم الوزير إلى مكان التجمهر، وصفع رجل الشرطة أمام الجمهور، وتعهد بمعاقبته، وانفض الجمع لاحقاً. سعيد سمور هذا، أُقيل بعد تلك الحادثة بأسابيع قليلة. أقاله بشار في أول تغيير حكومي أجراه بعد الثورة، في نيسان من العام 2011، في إشارة واضحة للمعنيين، بعدم رضا بشار عن سياسة استيعاب الجمهور ومحاولة إرضائه.

***

حاول أحمد شلاش أن يُوحي بأنه يقتدي بنموذج وزير الداخلية العتيد، سعيد سمور، حينما طيّب خاطر الشاب الذي ضُرب على يد مرافقه، بصحن “نابلسية” من حلويات “نفيسة”، لكن عبارة شلاش التي أشار فيها إلى أنه “مسؤول”، رغم أن الرجل لا يحتل أي موقع تنفيذي في السلطة، فهو كما يُفترض، نائب عن الشعب، تُدلل على أنه يرى في نفسه جزءاً من الكيان المنفصل عن الشارع السوري، ذلك الكيان المُتعالي، المُسمى بـ “المسؤولين”، الذين أداروا سوريا، وما يزالون، بعقلية الراعي الذي يتعامل مع أغنام، عقلية أبوية لم تُثبت صلاحيتها خلال خمس سنوات من الصراع، لكنها لم تتزحزح حتى الآن، ولم يفهم المصابون بها بأنهم يتحملون مسؤولية ما أصاب البلاد من فتنة واقتتال ودمار.

مع نموذج شلاش المُصغر عن بشار الأسد، يمكن أن نفهم كيف يُعاند رئيس دولة نتائج خمس سنوات من الدمار غير المسبوق في بلاده، ويصرّ على البقاء رئيساً، رغم أننا إن كنا متسامحين معه إلى حدّ ملائكي، يمكن أن نقول في أحسن الأحوال، أنه فشل في أداء مهامه.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى