صفحات المستقبل

نايف.. أسى سوريا اليوم

 

جهينة خالدية

من أنت يا نايف؟

من أنت يا رجل؟

روايتك، كلماتك، حركاتك، لهجتك، لكنتك، حزنك، جديتك، ألمك المفرط، سردك.. كل هذا نسمعه ونراه في مقابلة معك فوق الركام.

أنت الراوي، وأنت الضحية. أنت الطفل، وأنت الرجل وأنت الرمز.. أنت صورة كل سوري. ما قلته، وكل ذلك الدمار حولك هو سوريا اليوم.

ما كل هذا الذي تقوله؟ أيمكننا أن نترك كل السياسة والمستجدات العسكرية جانباً لنتفرج على مأساتك. نتفرج فقط، ولا يسعنا إلا البكاء في أحسن الأحوال.

 ماذا نفعل لمأساتك يا نايف؟ أيمكننا أن نتوقف عند سؤالك: بس أفهم، ليش عم يضربنا؟ حكم القوي على الضعيف؟ بس هيك؟ يا لهذا السؤال البريء. يا لهذا السؤال الكبير، الواسع، كوسع جرحك.

 من هو ذلك الرجل الذي بداخلك؟ لا أنفك أسأل نفسي هذا السؤال. كلماتك تشعرنا أننا أمام عجوز ستيني. أهذا نضج الذي يجعلك تعرف كيف تصف هول ما رأيت؟ أهذا وجع؟ كبّرتك الثورة يا نايف، بل كبرك القلب الممزق. كل أطفال سوريا كبروا. هم اليوم، إما جوعى، أو شهداء أو يحملون قلوب العجائز. لا شيء تقنياً وتحليلياً ليقال أمام كلماتك. وحدها العاطفة تتكلم، وحتى هذه تُقصر في استيعاب هول ما تقوله. هذه كلمات عفوية، أقوله لك عن بُعد. وأفكر ما السبيل لأشاهدك وأسمعك وفي الوقت عينه أحترم وجعك. علينا نحن، أن نعتذر منكم أننا نتفرج على أوقات حرجكم.

 هناك فوق الأحجار التي تقول إنها كرتون، تقف أمام الكاميراً لتقول لنا “إيش بدي أقولك؟”، ناسياً جرحاً تقول إنك أخفيته عن والدك لأنه حساس. كيف تعيش وسط هذا الموت يا نايف؟ هل مازلت على قيد الحياة والموت يأتيك دفعات دفعات؟

 راحوا، بيت جدي راحوا، أولاد عمي أربعين واحد راحو. تقول. كلهم شباب، ورائحة المسك طلعت منهم. هنا، عند هذه الجملة أقف. أقول وما أدرى الطفل الذي فيك برائحة المسك؟ تلك التي يضعها العجزة والموتى. أسى. وجهك مليء بالأسى.

كم عمرك يا نايف؟ كيف قلت كل ما قلت وأنت تحرص على إخفاء دمعتك. حتى الجملة الأخيرة، كنت تأخذ النفس وتعود لتحكي، وكأن الكلام هو كل ما يمكنك فعله الآن. أنت الذي تقول إن جاركم الذي مات أطفاله، ينام معهم في القبر.. جنني”. تقول إنه جعلك تجن. والجنون يا أيها الرجل الصغير أرحم مما أنتم فيه. وتعود لتردد “طلعنا لبرا، نصيح يا عالم حدا ينقذنا، وأتاري العالم هي بدها منقذ”.. “ولاد عمي، ماتوا”، وتقلب شفتك، في حركة عادة ما تُرسم على وجوه أطفال يعبرون عن “حزن” صغير، كأن ينتهي لوح الشوكولاتة بسرعة، مثلا!

 أية قصة هذه التي تخبرنا إياها أيها الطفل؟ قصة عائلة؟ قصة قرية؟ قصة مدينة؟ قصة بلد؟ مجموع لقصص الموت المتواصل، المترابط، كل يوم، كل يوم، كل يوم؟ تجمدت أمام صوتك.. وخفت. وضعتني، كما كل من شاهدك، أمام الموت. نحن الذي نهرب منه كل يوم. وأنتم الذي لا تحظون بفرصة للهرب ولا الإحتماء، ولا النوم الدافئ لدقيقة أخيرة.

الدقيقتان والثواني القليلة لمقابلتك التلفزيونية على وشك الإنتهاء، وها هي دمعتك تسقط يا نايف. يمكننا الآن أن نخفض رؤوسنا، ونخجل من كوننا أحياء. نخجل من عيشنا ودفئنا وشبعنا وحتى أصابعنا، التي تكتب.. تكتب فقط.

أنت تكبر يا نايف ونحن نصغر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى