نجونا من الهدنة.. بقي أن نتفاءل بالحرب!
عمر قدور
كما هو متوقع أثبتت هدنة الإبراهيمي فشلها في سوريا، ولم ينخفض منسوب أعمال القتل والقمع الذي تمارسه قوات النظام، ربما باستثناء الفراغ الذي خلفه ضباطها وعناصرها الذين استحقوا أيضاً إجازات العيد على أدائهم، ولم يفلح زملاؤهم المناوبون في تزجية الفراغ بالحصة اليومية المعتادة من الضحايا. مع ذلك لم تتوقف وسائل الإعلام عن الإشارة إلى الخروقات التي تعرضت لها الهدنة، بل انقلبت وسائل إعلام النظام على ذاتها، وبدلاً من الأخبار التي لا تتوقف عن إنجازات قوات النظام في ملاحقة “الإرهابيين” وإبادتهم، راحت تبث أخباراً عن هجوم هنا أو هناك تشنه “العصابات المسلحة” على تلك القوات الوادعة المسكينة!
ما يزيد على الأربعمائة قتيل في أربعة أيام؛ لعلها الهدنة الأقسى والأكثر كلفة عبر التاريخ، هذا إن لم نتوقف عند كونها سابقة من نوعها أن يعلن نظامٌ الهدنةَ على شعبه، بعد أن سجّل سابقة بإعلانه أن العدو في الداخل، أي أن عدوه هو شعبه الذي حاز تسمية “العصابات المسلحة”! إذاً كان من المستغرب أصلاً أن يقبل النظام بهدنة مع العصابات المسلحة، فهذه خيانة لواجباته أمام شبيحته ومواليه؛ لكن، وبما أنه لم يعتد على إقامة أي وزن لقدراتهم العقلية، فقد كان من السهل عليه أن يضرب بعرض الحائط هذه المحاكمة العقلية البسيطة، والتي سبق أن روّج لها بوصفها جوهر ديمومته. لذا، وكتعويض عن السلامة العقلية المهدورة، كان ينبغي مراعاة غرائز الجمهور، فالموالون قد ألفوا شبيحتهم المتعطشين للدماء، وعلى ذلك لا بأس بالهدنة إن أتت ملطخة بها، بل لعل ذلك يبلغ مدى العبقرية التي تُدهشهم حقاً، وتزيد من تراصهم خلف قيادتهم الحكيمة!
لم يتفاءل السوريون عامة بالهدنة، فهم خبروا أكاذيب النظام جيداً، ويعرفون أن موافقته عليها لا بد أن تكون مفخخة. المستغرب من قبلهم كانت تلك الرغبة الدولية في أن يصدق النظام هذه المرة، على الرغم من التجارب المريرة للمجتمع الدولي معه، إذ ليست بعيدة بعدُ أعمال القتل والتنكيل التي مارسها تحت أبصار المراقبين الدوليين الذين تم سحبهم مع فشل خطة كوفي عنان. هكذا تضاءلت الجهود الدولية إلى حد أن تكتفي بالمطالبة بأربعة أيام خالية من القتل؛ ليس مهماً أن النظام سيستمر في إبادة السوريين فيما بعد، أو أن الفرصة متاحة أمامه لتعويض ما يفوته في الهدنة المنشودة؛ هي أربعة أيام يُفترض أن يسعد بها السوريون ويعدّونها عيداً، فقط لأنهم سيكونون في أثنائها بمنجى من الإبادة، فقط لأن الوساطة الدولية أفلحت في تأجيل قتلهم لساعات معدودة ليس إلا.
مع ذلك لم يكن تأجيل قتل بعض السوريين بالأمر السهل، فقد تطلب ذلك جولات من المبعوث الدولي، وربما مساومات حول الحد المقبول من الإبادة اليومية، وأولاً وأخيراً تطلبت الهدنة موافقة ضمنية وتمنيات علنية من طهران وموسكو، ليخرج النظام بمظهر من يقدم هدية العيد لحلفائه. فالهدنة لو تمت فعلاً لم تكن غايتها حقن بعض الدماء، بل منح مسحة أخلاقية للمجرمين الدوليين الذين يُقتل السوريون يومياً بأسلحتهم وعتادهم، من أجل هذا فقط بدا أن النظام قد يكون مستعداً ليجافي طبيعته الدموية، من أجل خاطر أولئك المجرمين الدوليين الكبار، بدا أن كذبة الهدنة قد تنطلي بأقل قدر من الخسائر، لكن هذا الاحتمال كان ليتبدد بدوره أمام الشراكة التامة لتحالف الإجرام، وربما لم يكن وارداً أصلاً إلا من قبيل اليأس المطلق لا التمني الجدي.
لا معنى في الأصل لهدنة العيد إلا لمن يفترض، بسطحية، أن السوريين قادرون حقاً على بهجة العيد. مثل هذا الافتراض لا يدرك حقيقة العيد الذي ينتظره السوريون منذ عشرين شهراً، والذي يتخلص بكلمتين هما إسقاط النظام. لا يملك السوري ترف المهادنة في مطلبه هذا، مثلما لا يملك النظام خياراً آخر سوى المضي بالقتل حتى نهايته، وفي الواقع لم يمنح النظام السوريين هدنة من القمع طوال أربعة عقود، وكان مشروع الإبادة التي ينفذها اليوم سيفاً مصلتاً على رقابهم بلا هوادة، وعندما أسفر عن وجهه الدموي الوحشي بات متعذراً العودة إلى الهدنة المصطنعة فيما قبل الثورة. الهدنة تقوم بين طرفين متحاربين، وتقتضي في حدها الأدنى أخلاق المتحاربين، أي أنها تقتضي أخلاقاً تُمارس في الحرب أيضاً، وهذا ما يعجز عنه النظام، وسيكون من الشطط مطالبته بما يخالف جذرياً طبيعته.
هي الحرب إذاً؛ هذا هو الخيار الذي دُفع إليه السوري، وتكالبت الظروف والقوى الفاعلة لتجعل منه خياراً وحيداً. هي الحرب التي يخوضها السوري، ويقابلها النظام بالإجرام، فنحن لسنا أبداً أمام طرفين متحاربين. ثمة طرف يحارب، ويتحلى بأخلاق المحاربين؛ طرف يمتلك النزاهة ويحدد أهدافه بوضوح، طرف لا يبتغي القتل إلا إن اضطر إليه، وفي المقابل ثمة طرف آخر لا يملك هدفاً سوى الإبادة والتدمير. نعم، هي حرب السوري على نظامه، لكنها ليست أبداً حرب النظام، لأن الأخير لا يملك حتى مشروعية الحرب؛ هو بالأحرى فاقد الأهلية إلى حد لا يصلح معه أن يكون طرفاً في صراع، ولئن استبق الآخرين في إعلانه أنه في حالة حرب على شعبه، فذلك لا يضعه في مرتبة المحارب، لأن أقصى ما يطاله أن يكون مجرم حرب.
هكذا لم تكن كذبة الهدنة سوى مكسب للنظام، لا لأنه استمر في ممارسة القتل كما كان يفعل خارجها بل لأنه حاز معنوياً على صفة الطرف المحارب. وهي صفة بات يسعى إليها ليبرر جرائمه القديمة والجديدة بحق السوريين، وأيضاً بحق جيرانهم. على ذلك يأتي تصريح الإبراهيمي عن حرب أهلية في سوريا، بمثابة اعتراف بأهلية النظام كطرف فيها، ومع أن الأخير نفى إعلامياً وجود حرب أهلية في سوريا إلا. أن هذا يدخل في باب الدجل السياسي ليس إلا، فالصورة التي حاول تكريسها منذ بداية الثورة، كحامٍ للأقليات، لا تعني في الواقع سوى محاولته تكريس نفسه كطرف في الساحة السورية بعد أن أفقدته الثورة شرعيته الأخلاقية والسياسية.
من حيث الأساس لا ينتظر السوريون وسيطاً دولياً أو عربياً يستعطف النظام ليقلل من عدد الضحايا، فالمسألة السورية لم تكن يوماً عند هذه العتبة، وهم لم يثوروا ليحصلوا على الحق في الحياة الذليلة على أنقاض بيوتهم ومنشآتهم وتاريخهم. إن فكرة الوساطة بحد ذاتها تمنح الغطاء الذي ينشده النظام، وتشرعن الإجرام كوسيلة للكسب السياسي، ما دامت غير مبنية على إرادة دولية لتحويل الجناة إلى العدالة. نعم، قد تحقق الوساطة هدفها، إن كانت على المدى البعيد تبتغي زرع اليأس في نفوس السوريين، وإذا ما قُيّض للنظام البقاء حتى ذلك الأمد. بخلاف هذا التطلع إلى الخارج؛ لا شيء يتغير فعلياً على الأرض، فالثورة مستمرة في استنزاف قوى النظام، والذين يشعرون بالخذلان من المجتمع الدولي لا يشعرون به إزاء المجتمع السوري الذي يعيش حالة حرب حقيقية. في الواقع لم ينتظر السوريون من الهدنة أن تشكل انعطافة في مسيرة الثورة، وكان جلّ همهم أن ينجوا منها بأقل الخسائر، ولم يتبقَّ للناجين سوى التفاؤل بأن تُحسم حربهم بأقل الخسائر البشرية، مع التأكيد على أنها الحرب الأفظع لأنهم لا يواجهون طرفاً محارباً بالمعنى المعتبر للكلمة.
المستقبل