نحن الذين تآمرنا على دمشق ودخلناها مثل”غزاة”
حسين جمو
تشويه وتشهير من تيمورلنك إلى الثورة السورية الكبرى
“سأدرس في الشام”. كان قراري قاطعاً بعد صدور نتائج الثانوية العامة في صيف 2001. انقسمت الأسرة تجاهه إلى موالين ومعارضين، وفي معسكر الموالاة كنتُ وحيداً.
استعانت العائلة بحلفاء مهمتهم الاستهزاء بالصحافة التي لا مكان لدراستها إلا في جامعة دمشق، إلا أن هؤلاء بدأوا الحديث أيضاً عن دمشق. ويصح القول إنه لم يكن كلاماً اعتباطياً، بل نظرة تاريخية ممتدة تتغذي من التنافس التجاري بين حلب ودمشق.
“الشامي بيضيعك.. مثلاً لو سألته وين صايرة الجامعة، رح يدلك على طريق غلط… والله انا برأيي ما في أحسن من حلب.. عنا جامعة هون.. أدرس حقوق.. خيّو.. ليش تتغرب عن أهلك وبيتك.. حدا بيكون من حلب وبيروح عالشام… غريبة شغلتك لك خاي…”.
تيمورلنك في دمشق
كان هذا ملخص “مهذّب” أحتفظ به في ذاكرتي لبعض ما قيل عن دمشق قبل أن أقيم فيها، ولن أفصّل في أمور أخرى غير مهذّبة سمعتها كثيراً وتتعلق بتيمورلنك. لا داعي لإخفاء ذلك الآن، فهذه التفصيلة المخزية هي اكثر ما يشيعه “المتآمرون الكارهون” عن دمشق. ندرك متأخراً أنّ أحد الأركان التي كانت تضمن بقاء النظام هو خلق مثل هذه الحالة تجاه دمشق تحديداً.
إنها مؤامرة اشتركت فيها كل المدن، يضاف إلى هؤلاء أيضاً الوافدون إلى العاصمة من شتى أنحاء سوريا. شيء كان أشبه بنهج رسمي اتخذته تركيا بعد الحرب العالمية الأولى، والتي لا تزال تتردد حتى اليوم: “عرب بيس مللت” أي أن العرب قوم خائن أو سيئ. وفي صيغتها السورية، وصلتنا العناوين العريضة المتداولة من قبيل: “دمشق تفتح أبوابها للأقوى دائماً، ولا تقاوم الغزو الخارجي”. صدقتُ ذلك ورددته رغم قراءتي للتاريخ الذي لم يذكر أو يشر بالصيغة التي كان يتم تداولها. أو”يعتقدون أنهم راقيين جداً ويترفعون عن مخالطة أبناء باقي المدن اجتماعياً”. استهجنت ذلك رغم أن من تقاليد عشيرتي في القرية عدم تزويج أي فتاة لمن ينتمي لعشيرة أخرى داخل القرية ذاتها وعدم السماح للغريب بالاقامة، متجاوزين بذلك القانون. ونسمع أحياناً ما هو أمرّ وأدهى حينما تتوجه أصابع الاتهام إلى “الشوام” في جوانب من “التآمر” على الثورة السورية الكبرى أيام الانتداب الفرنسي، والذي دشّن هذه النظرة هو أكرم الحوراني الذي دأب على اتهام الكتلة الوطنية بخذلان الشعب في الاضرابات والاحتجاجات أيام الانتداب.وأضافت إليها الأقليات نكهتها الخاصة أيضاً. رددنا ذلك، نحن الذين ما زلنا نجهل الأسباب الحقيقية “الميدانية” التي كانت وراء هذه الثورة “الكبرى” التي فشلت فشلاً ذريعاً بينما نردد انتصاراتها إلى الآن.
وطني العاري
هكذا كانت الغلّة التي نزلت بها إلى الشام للدراسة. الاقامة في المدينة الجامعية هي شرط قدرة الطلبة من أبناء المحافظات الأخرى على الاستمرار. هناك تعرفنا على سوريا للمرة الأولى عارية، لا تسترها أي أقمشة. بدأت تتكون صداقات تستند في جذرها إلى قاعدة “كلنا لا ننتمي إلى هنا”. أصبح الكشف عن الهوية الطائفية والقومية والمناطقية للشلّة الطلابية أمراً اعتيادياً، بل ومطلوباً. فعندما يقول أحدهم أن اسمه فادي، من حمص، نسأله بدون حرج: علوي أم سني أم مسيحي؟. ثم يعقبه الادعاء من الطلبة المحسوبين على الأقليات بأننا جميعاً “علمانيون”.
لكم شامُكُم!
في السنتين الأولى والثانية، يبدأ الفرز الطائفي والمناطقي بالظهور أكثر فأكثر، يقل عدد الأصدقاء “الحقيقيين” من طوائف مختلفة. عندما يتشاجر علوي وكردي يستنفر مئات الطلبة من الجانبين، وكذا الأمر مع التجمعات الطائفية الأخرى يضاف إليهم الحوارنة (أهل درعا) والديرية (أهل دير الزور) اللذان يتعاملان من حيث الفكر الجمعي بعقلية طائفة أو حتى قومية.
يكتشف هؤلاء بعضهم البعض، يتناقشون، يتعاركون، يرقصون، يتوحدون حول كأس المتّة، لكن شيئاً واحداً يغيب عنهم: يتصرفون وكأنه ليست هناك من دمشق. دمشق هي الأماكن التي يعرفونها فقط، هي الشيخ سعد والمزة (86 والجبل والأوتوستراد) والبرامكة وجرمانا وزورآفا (وادي المشاريع). أهمية هذه المناطق تأتي من كونها الأساس الذي يجعل من مقولة “لكم شامكم ولنا شامنا” ممكنة التحقق بسهولة.
نزوح منظّم
بعد أن يبدأ الطالب الجامعي بالنزوح عن المدينة الجامعية، يختار غالباً واحدة من المناطق السابقة، وإن لم يكن التوزيع التالي دقيقاً بكل الأحوال، إلا أنه في العموم صحيحة ، فالكردي والعلوي يقيمان في حي واحد بشكل مختلط في مزة 86 (خزان ومدرسة) – ويردد كل من الكردي والعلوي أنهما الأقرب إلى بعضهما البعض في سوريا – ، بينما تقتصر ركن الدين وزورآفا (وادي المشاريع) على الأكراد الوافدين من منطقة الجزيرة مثلما تنحصر الاقامة في مساكن الحرس بالعلويين فقط. بينما يتوجه الدروز إلى جرمانا وصحنايا، والمسيحيون إلى الدويلعة وجرمانا. في هذه المناطق المذكورة تقيم جحافل بشرية من حيث الكم، يتوحد فيها الجامعي مع العامل مع الموظف، والأعزب مع المتزوج، تجمعهم الثقافة الاجتماعية والمستوى الاقتصادي المتوسط المتدني غالباً. لكن الصورة ليست بهذه الحدة من الفرز الطائفي، حيث هناك حتى حالات زواج تتجاوز الطوائف، إلا ان المقصود دائما هنا هو رصد المزاج العام السائد، والذي يكون غالباً ذا طابع شعبي وطبيعي أيضاً، إذ ليس من الغريب أن تقيم الأقليات في أحيائها، لكن النقطة الأساسية هو توافق عام على النظر بازدراء إلى الدمشقيين وإلى تاريخ دمشق.
لا بد أن نراقب خارطة التظاهرات اليومية في العاصمة حتى نفهم شيئاً عن التركيبة الاجتماعية التي تتحرك. الشام الحقيقية تنتفض عن بكرة أبيها، جوبر، الميدان، حي الأكراد، برزة، القابون، وصولاً إلى الريف الذي يحيط بدمشق كزنّار حريري. وهنا يمكن تسجيل استثناء في أحياء القدم والحجر الأسود وتجمعات نازحي الجولان الأخرى. هذه المناطق شعلة حقيقية للانتفاضة، يهابها الأمن رغم انه يقتل شبابها. نازحو الجولان هم الجزء الآخر من المسكوت عنه في العلاقات بين مكونات الشعب السوري.
في جلسات المتآمرين على دمشق، كان اتهام دمشق وأهلها من التجّار بالتحالف مع السلطة البعثية غير قابل للجدل. وصل بهم الانفصام إلى هذا الحد. إنه أقرب إلى مشهد سوريالي، يتهم فيه المتفرجون شخصاً على منصة الإعدام بالتحالف مع السيّاف الذي يتهيأ لقطع رأس المتّهم.
أين هي دمشق؟
كان يراودنا شعور بأننا جزء حقيقي من دمشق، لنا أحياؤنا الخاصة، ولسنا أقلية فيها. عندما يداهمنا تصور خيالي بالخطر من الأغلبية، التي نتخيل أنها سنّية (طائفياً) وأكثر عروبية (قومياً)، نتوحد ويزول الخوف. لكن لمَ لمْ يتملك معظم الوافدين إلى العاصمة رغبة في اكتشافها؟. الوافد لا يعرفها، بل يضيع فيها بسهولة لو أنه قرر الخروج إلى أبعد من “شامِهِ” رغم مرور سنوات على مغادرته مدينته وقريته إلى العاصمة. لم يتملك الفضول أحداً منا في التعرف إلى شخص “شامي”، كنا ننفر منهم بطريقة غير مفهومة، ولم نسأل ولو مرة واحدة: ما الذي فعله الشامي والشام حتى يستحقا منا كل هذه النزعة الانتقامية؟.
طلائع الحرس الجمهوري
في المقابل، لم يحاول الدمشقيون الاحتكاك بوسط الوافدين “الغرباء” أيضاً، ولهم أسبابهم، أوضحها هو ما وصلت إليه العاصمة من انحطاط عمراني في الأطراف وانتشار العشوائيات بدون قيود. والتوزيع المجحف للوظائف الحكومية على أبناء أقارب الرئيس في الطائفة. وبدا كل وافد جزءاً من السلطة السياسية الأمنية القائمة. صباح كل يوم، يستيقظ الدمشقي ويرى أمامه طلائع قطعات الحرس الجمهوري على قمة جبل قاسيون. هذا الشامي المنتفض اليوم، مع قلّة ممن هم بخلافه، أدرك منذ زمن طويل أن هذه القوات إنما جاءت لتراقب تحركه وتقصف مدينته لو عصت أوامر “السلطان”.
غزاة منتصرون
تآمرنا على دمشق وريفها بما فيه الكفاية، نزلنا إليها كغرباء نحلم بالعودة، ثم أعلنّا من هناك أن “الشام لنا” ولن نخرج منها طالما هناك روح تنبض فينا، مثلنا في ذلك مثل الحرس الجمهوري على قاسيون. وغضضنا الطرف عن تدميرها أيضاً تحت مسميات مختلفة. قررنا نسيان مدننا وقرانا، وتعاملنا مع الشام بعقلية الغزاة المنتصرين.. نحن المنهزمين في كل قضايانا، جئنا نلفّق انتماءنا إلى دمشق. لكن، دائما كان الهاجس الحتمي موجوداً في أعيننا نحن المتآمرين :”الشام ليست عاصمة بلا سكّان، وهي تعرفنا فردا فردا”. كان صوت آخر يشوش على التأنيب الذي يعترينا :”أحببناها بجنون لكن أيضاً بتملك وإقصاء لأهلها، مع ذلك، لو ترك لأمر لنا، لنفيناهم أجمعين”. هكذا، ساهمنا في إطالة عمر “الاحتلال الخفي” للمدينة طيلة خمسة عقود منذ تسلم البعث للسلطة في انقلاب عام 1963. هل هناك غرابة أو إشارة تعجب إذن في دفع السلطة سكان المناطق الشرقية والغربية إلى الهجرة لدمشق؟. أليست سياسة مربحة للدكتاتورية؟.
خسارة أبدية
أستعيد اليوم هذا الشريط من الذاكرة بينما يزاحم مشهد آخر اكتشفت فيما بعد أنه لم يكن عبثياً ، بل كان ذا معنى استغرقني سنوات لأعيَه. لم أعانق أياً من أفراد عائلتي في أول فراق لي عنها عام 2001 مذ وعيت هذه الدنيا، وهو ما دفع بأمي إلى وصفي بـ”قليل الأدب”. أردت القول لهم إن دمشق ليست بعيدة، وما أفعله ليس هجرة، بل رحلة مؤقتة للدراسة والعودة إلى المنزل نهاية كل أسبوع. شعورهم أني أصبحت متغرباً كان مؤذياً. في المقابل، توحدت العائلة خلف جملة قالتها أمي ببكاء في موكب جنائزي كان يتحرك خلفي: “لقد خسرناه إلى الأبد.. الشام ستسرقه منا”.
أمي العزيزة، لترقد روحك بسلام، الشام تُسحِر ولا تَسرِق أحداً. وهي اليوم تسترد مقتنياتها المسلوبة. دمشق ليست لي أو لقطّاع الطرق.. إنها لكل من لا يتآمر عليها. نحن أبناء الريف السوري (منها السلطة) أثبتنا تاريخياً عدم أهليتنا في حبّها. ولن ندع عقلية قروية تدمّرها من جديد.
المستقبل