نحن المثقفين ال ******* /رشا عمران
بعد قرار الإفراج عن الأصدقاء الذي اعتقلوا إثر ما سميت، يومها، تظاهرة المثقفين في منطقة الميدان في دمشق في منتصف 2011، ذهبنا، مجموعة من الأصدقاء، للتضامن معهم، وانتظارهم أمام المحكمة القريبة من سوق الحميدية. أذكر، يومها، كانت الباحة أمام المحكمة ممتلئة بالشبيحة، وفي أيديهم صور بشار الأسد، محمولة على عصيٍ طويلة وثخينة وجاهزة للاستخدام، بينهم سيدة أربعينية بشعر منكوش، كما لو أنها خارجة من عراك للتو، ترتدي بنطالاً أسود وبلوزة بيضاء، مطبوعة عليها صورة لبشار بابتسامته الشهيرة. كان صوتها حاداً جداً، وفيه بحة مزعجة، قدّرت أنها بفعل الهتافات بحياة سيادة الرئيس في المسيرات المؤيدة المواجهة للتظاهرات المناهضة للنظام. اقتربت السيدة من المكان الذي كنا نتجمع فيه يسار باحة المحكمة، باتجاه مقهى كان ينتظرنا فيه أصدقاء آخرون، وبدأت بالهتافات (الوطنية) المعهودة في سورية، ثم اقتربت منّا أكثر، وهي تشتم الحرية والثقافة والمثقفين. ممّا قالته يومها جملة لا أنساها طوال حياتي، لما تحمله من دلالاتٍ عميقة عن الذهنية التي تعامل بها مؤيدون كثيرون وقتها، والتي لا ترى في الوطن سوى الحاكم، ولا ترى في أي إنجاز فردي، أو جمعي، سوى منّة وهبة وعطاء من عطايا هذا الحاكم، الذهنية التي تلغي كل ما عدا الحاكم، فهو المانح الواهب العاطي الكاسي المنّان، وعلى الآخرين تقديم فروض الشكر له ليل نهار. صرخت بنا تلك السيدة، يومها، وهي تلوح مهددة بالعصا الحاملة صورة الأسد، وبلهجة أهل جبال الساحل، مع مبالغة بإظهارها بسبب الانفعال الوطني: أنتم يا مثقفين يا ****** لولا بشار الأسد، هل كنتم تعلمون ما هي الثقافة. نظرنا، أنا وبعض الأصدقاء المقصودين، إلى بعضنا، وتبادلنا ابتسامات مشوبة بالخوف، فقد كان عدد الشبيحة الغاضبين يزداد حولنا، وخلفهم عناصر من الأمن لم يتدخلوا، حتى حينما هجم علينا الشبيحة، وبدأوا سحل وضرب من استطاعوا الوصول إليه. كان عناصر الأمن هناك لحماية الشبيحة المدججين بالعصي من المثقفين الذين لا يحملون سوى هواتفهم النقالة، والتي كنا نخشى إظهارها، كي لا يتم القبض علينا بذريعة التصوير والإرسال إلى المحطات المغرضة.
تعود إليّ ذكرى ذلك اليوم، وصراخ السيدة الشاتم للمثقفين، وأنا أقرأ على “فيسبوك” شتائم مشابهة للمثقفين أنفسهم، لا يطلقها، هذه المرة، شبيحة الأسد، بل، شبيحة السلاح المؤدلج الذين يختصرون الوطن والثورة والحاضر والمستقبل بالسلاح الجهادي، فلم يعد ثمة معنى لكلمة الثورة والثوري. هنا، صار الجهاد في سبيل الله، ولغاية إعلاء كلمته، لا في سبيل الوطن وأهداف الثورة والمستقبل، وصار المجاهدون ضد أعداء الله الكفار، لا ضد أعداء الوطن والشعب والثورة، وكما كان المثقفون الذين يطالبون بالتعامل مع الوطن باعتباره وطناً، لا مزرعة للأسد أو لغيره، يُشتَمون من المغيّبين في مزرعة الأسد، ها هم الآن المثقفون أنفسهم الذين يطالبون بالتعامل مع الثورة، بصفتها ثورة شعبية، لا دينية، يشتمهم المغيّبون في مزارع الأديان والمذاهب والطوائف، وبالاستعلاء السوقي العنصري البغيض نفسه.
والغريب أنه، في الحالتين، يطلق لقب المثقف على كل من يسعى إلى تحقيق دولة الحريات والمواطنة الديمقراطية العادلة. وفي الحالتين، يتعرض هذا (المثقف) للشتائم والتخوين والتكفير. هل يعني هذا أن الطرفين، على الرغم من الخراب السابق والحالي، يخشون من تأثير المثقف على الوعي الجمعي، لهذا يبدأون في مهاجمته وشتمه، نوعاً من الاستباق لما قد يحدث، في نوع من استبدال استبداد قديم بآخر جديد، محمول على حامل شعبوي مغيّب؟ وهنا، ليس غريباً أن نقرأ على صفحات “فيسبوك” الشتمية التالية، مكتوبة بطريقة النسخ أو الرقع: أنتم يا مثقفون يا ****** لولا الجهاديون، هل كنتم تعلمون ما هي الثورة.
أما عن المثقفين الذين يشتمون مثقفين آخرين، فلذلك مقال آخر.
العربي الجديد