صفحات العالم

نداء لفرز داخل الانتفاضات العربية يؤهّل المنطقة لزمن مختلف

عبدالامير الركابي
أتحدث هنا ليس بصفتي كاتباً، يدلي بوجهة نظره. بل كواحد من قدماء العاملين من أجل التغيير الديموقراطي، في ساحة من أخطر ساحاته، وأكبرها، وأكثرها إستعصاء ودلالة. عدا عن أنها، ومن بينها، الأكثر طليعية… العراق.
العراق كان أول من واجه شجون التغيير، في ظل الإنقلاب العالمي، على مشارف إنهيار الإتحاد السوفياتي، وصعود الولايات المتحدة، وتفردها عالمياً كقوة عظمى وحيدة. والعراق كان يحكمه نظام هو الأعتى. وهو نظام لم ير أي من البلدان العربية، مثيلا له. من حيث بطشه، وقسوته، وشموليته المطلقة، أوتشريده لكل القوى السياسية والثقافية والإجتماعية، المناقضة له، ناهيك عن المعارضة. وظاهرة المعارضة العراقية، هي الأسبق والأكبر، والوحيدة التي تحولت خلال ثلاثة عقود، قوة مقابلة للنظام، حاضرة إقليمياً وعالمياً، وتعبر عن كل تيارات المجتمع العراقي وفئاته وشرائحه، وتصل عددياً، إلى نسب ملموسة من أصل التعداد السكاني العام.
هذا المظهر، لم يكن قد نشأ عن مجرد فعل صيرورات داخلية، عراقية، نابعة من الصراع المحلي فقط، بقدر ما كان تعبيراً عن قوة فعل أوسع، على المستويين الإقليمي والدولي. وخلال صعود نظام صدام حسين في العراق، تجلت تداخلات وتصادمات، ذات أبعاد، تتجاوز المنطقة، وتمس أهم شواغل العالم. فالنفط والقومية، والاسلام، كانت تتقاطع وتتصادم وقتها في مكان واحد، بعد الثورة الإسلامية الإيرانية، وبعد عقد على أزمة الطاقة، وإرتفاع أسعار النفط، ووجود نظام في العراق يحكم بعنوان “قومي” عربي.
تلك التصادمات، تجلت حرباً، هي الأطول بعد الحرب العالمية الثانية بين دولتين، إستمرت ثماني سنوات، وذهب ضحيتها مئات الألوف من القتلى، كما شهدت كل التوترات النفطية، التي أعقبت تلك الحرب، وكان من تداعياتها إحتلال الكويت من قبل العراق، وما ترتب عليه. وهو ما أثار الحماسة “القومية”، وأججها على أوسع نطاق، وبمستويات لم تعرف من قبل، سوى أيام عبدالناصر ومعركة السويس. وفي كل هذا، لم تكن مسألة الديموقراطية قد غدت شعاراً جماهيرياً، وكانت الثورية القومية، لا تزال هي الطاغية على صعيد الموقف الشعبي، بينما وجدت الولايات المتحدة، برغم الحرب الأولى عام 1991، والحصار الإقتصادي الأقسى، المفروض على دولة في التاريخ، وجدت لها موقعاً داخل المعارضة العراقية، فأرست قاعدة أو ظاهرة جديدة غير مسبوقة، ترجمتها، التغيير بقوة التدخل الخارجي.
هذا المبدأ “الجديد”، تطلب قدراً من الإهتمام بالمعارضة، من قبل الدولة الأعظم، المتفردة وقتها، لم يعرف له مثيل. فالمعارضة العراقية من دون شك، هي المعارضة التي حظيت، بأعظم دعم سياسي وإعلامي، ومالي، في التاريخ. هذا إذا لم نخطىء، ونقارنها بمنظمة التحرير الفلسطينية، التي هي قوام آخر مختلف، ولا ينتمي إلى عالم “المعارضات”. وفي ذلك الوقت أيضا ظهرت “المعارضة الوطنية العراقية”، مثّلها العديد من الشخصيات المستقلة، والتنظيمات في الخارج. ولكنها كانت تفتقر إلى الدعم على أي مستوى كان، وبالأخص على مستوى الدول، وفي مقدمها الدول العربية. إذ كانت تواجه على العكس حصاراً خانقاً. وقد يكون ـ بعد تجاوز التفاصيل. أهم ما صدر عن هذه المعارضة وقتها، ما توصلت اليه من مبادرة، أخذت عنوان “التغيير من دون حرب”. والمبادرة التي نتحدث عنها تقول: بأن التغيير واجب ولازم، لكن الحرب، ليست الخيار الوحيد الذي يؤمن تحقيقه، وأن “الحرب” خيار أميركي وليس خياراً دولياً، وأن المجتمع الدولي، مسؤول عن إيجاد الطريقة المناسبة للتغيير، من دون تدمير العراق ودولته، وتعريض كيانه للخطر. كنا وقتها نخوض صراعاً، وسط إختلال عالمي في التوازنات، لم يكن يسمح بتحقيق مثل هذا الخيار، ولكن الأيام أثبتت رغم الكارثة، بأن الطريق الذي إختاره المعارضون الوطنيون العراقيون، في حينه. كان طريق إعادة بناء الحركة الوطنية العراقية، في مرحلة أو حقبة، ما بعد الدولة الحديثة الأحادية الإستبدادية. وهذه القوى تواجه الآن، ومنذ أكثر من ثماني سنوات، معضلات تاريخية، تستحق أن تهدى للتذكير، لقوى وإنتفاضات ومعارضات، تخوض في اللحظة الراهنة، معارك ومعضلات التغيير في ظروف مختلفة، يفترض أن التيار المؤيد لمبدأ التغيير بالإستعانة بالخارج، لم يعد الغالب أو المسيطر فيها، كما كانت الحال أيام التحضير لغزو العراق.
كذلك فان الوضع الدولي تغير اليوم. ومع أن الغرب، إستطاع أن يكرر التجربة العراقية في ليبيا، إلا أن إندفاعته تلك هي نفسها أعطت أولى الإشارات، على بداية تعثر هذا النمط من التدخلات. فالولايات المتحدة مثلاً لم تعد قوة هجومية طليعية، أو منفردة، ولا حتى سافرة. وها هي ليبيا الآن، تعاني نتائج مثل هذا النمط من التغيير. ومع تكرار، وتوالي، حالات الحراك الشعبي الناجح، أو المتعثر، لايبدو إلى الآن، أن القوى المتصدرة للإنتفاضات، وعمليات التغيير الديموقراطي، قد تجاوزت نطاق الإنجرار وراء السياقات العفوية والارادوية من ناحية، وإغراءات الأوضاع الدولية، وأموال النفط، هذا في وقت تتعاظم فيه الإفتراضات المحفزة على ملء فراغ، ينتظر شكلاً جديداً، من “السياسات” والإستراتيجيات الوطنية والقومية، ولاشك بأن الذي يستحق أن يشمله التغيير، ليس فقط النظم المستبدة البائدة، بل وأيضاً، نمط تفكير وممارسات القوى السياسية، المتصدية للعمل الوطني في المنطقة.
كل هذا يظهر لنا الحاجة إلى لقاءات عربية، لهذه الإنتفاضات، أو الأشكال والوجوه، التي تحيي الإستقلالية من بينها، فتركز على الإبداعية العربية، في قلب التطورات المستجدة عالمياً، وتؤهل المنطقة لزمن مختلف، ينمو ويلوح في الأفق، سيكون مطلوباً فيه على الأرجح، يقظة المجموعات الحضارية الكبرى، وتعددية العالم، لا تصارع حضاراته، كما روج حتى الآن. وباختصار، فإن بوادر القطبية الدولية النامية تحفز، ويجب أن تحرك في القوى العربية الحية، الرغبة لإعادة بناء منظورها وسلوكها، ويجعلها تنكب على موضوعاتها الأهم، التاريخية والراهنة والمستقبلة.
قمنا خلال الفترة القريبة الماضية، بالإتصال ببعض هذه القوى، وفي أكثر من ساحة، وما زلنا نتصل، على أمل أن يتجسد تحركنا، في صيغة، أو “مركز”، يعطي للانتفاضات العربية حاملاً مختلفاً، يوحد فاعليتها، كما يجعل من أهم مشاغلها وإهتماماتها، المتعلقة بالديموقراطية، والعروبة، وفلسطين والعالم، وموقعنا منه، ومتغيرات التوازن الدولي، والنفط ودوره، والوطنية المجددة … الخ. موضوعات قيد الدرس، تؤسس لفجر إنطلاقة عربية تاريخية، وتجعل من جهد القوى الحية، قوة كبرى ضاغطة، ومغيرة فعلاً. قادرة على الإستفادة من الوضع الدولي، وإغنائه بالحضور العربي الفعال. إلا أننا نلمس تردداً، وضعف إستعداد للحسم، مع وجود تيارات قوية، تنطبق عليها المواصفات التي ذكرناها. في أكثر من بلد عربي، وفي سوريا بالذات، إلا أن هذه، لا تزال تترك الفرصة لتداخل، نشاطاتها، ونشاطات القوى المعارضة الملتحقة بخطط الغرب. ولسنا نعرف متى يحدث الإنقلاب، وتبادر القوى المعارضة الوطنية السورية مثلاً، إلى قبول الخيار الوطني، على مستوى العالم العربي. لقد تشكل اخيرا “المنبر الديمقراطي السوري”، وهو إشارة إيجابية، وفي الأردن، تتحمس قوى عديدة لتجسيد الخيار الوطني التغييري عربياً، والأيام تزيد من شعور قوى متعددة، بضرورة الإلتقاء والتحرك، فهل الأمر يحتاج، لكي يبدأ بالتقدم خطوة عملية ، إلى إطلاق الدعوة علناً؟
المؤسف أن الأوساط المساعدة، أو التي يمكن أن تجعل مثل هذا العمل يتجسد، مرتبكة، ولا أحد منها على إستعداد لمد يد العون، ولو بحدوده الدنيا، والأموال النفطية تسيل متدفقة في المكان المعاكس، ولهذا وجدت ان أوكل إطلاق هذه الدعوة إلى منبر من المنابر الإعلامية الصحافية العريقة، علّه يساعد بوضع هذا النداء، بين يدي من هم معنيون به، فيساهم في دعمه، بإفساح المجال وتحفيز النقاش بخصوصه، وإظهار موضوعاته للعلن.
أدعو كل الوطنيين المؤمنين بالتغيير الديموقراطي، وبالتحول الوطني نحو الديموقراطية، إلى مناقشة هذا النداء، وما إذا كانوا يعتقدون بجدواه، أو يقترحون سبلاً لتنفيذه، وكيف ومتى وأين؟ تلك مهمة حيوية، من دونها تظل الإنتفاضات تراوح مكانها، مع خطر أن تستنفد طاقاتها، وآليات دفعها.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى