نريد ائتلافا ثوريا
رشيد الحاج صالح
إن دلت نتائج اجتماع الائتلاف الوطني السوري الأخير في إسطنبول على شيء ما فإنما تدل على بقاء الفجوة واسعة بين الائتلاف من جهة وبين الثورة السورية في الداخل من جهة أخرى. فالمتابع لاجتماعات الائتلاف في مختلف العواصم العالمية, ولطريقة عمله, سرعان ما يلاحظ أنه عمل يتصف بالبطء والتثاقل, بعكس الداخل المشتعل, الذي يواجه اليوم أشرس آلة قمع تعمل في القرن الواحد والعشرين.
ولذلك يجد غالبية السوريين أن استسلام الائتلاف للواقع السياسي المعقد, وغرقه في مستنقع الجزئيات والتجاذبات، يجعله غير قادر على مجاراة ثورتهم, التي يرتفع أداء ثوارها, وتكبر تضحياتها يوماً بعد آخر.
والسؤال الذي نريد طرحه: إلى متى ستبقى هذه الفجوة قائمة؟ ومن المتسبب بها؟ وهل من سبيل للخروج من هذه المشكلة؟ وهل الائتلاف الوطني مستعد لإعادة النظر في منطلقات عمله, ومراجعة الرؤى التي تقوم عليها سياسته, بغية الوصول إلى ائتلاف ثوري, بكل ما تحمله الكلمة من معنى؟
في البداية لا بد من التأكيد على أن الائتلاف الوطني السوري الذي رأى النور في الدوحة قبل أشهر قليلة قد تطور كثيراً, وأصبح أكثر تمثيلاً للحراك الثوري الداخلي والتيار الديمقراطي, كما أنه تمكن من تأسيس مكتب خاص مهمته دعم الثوار بالعتاد والأسلحة, وتنسيق عمل الجيش الحر, عبر التواصل معه, وتقديم كل ما يحتاجه قدر الإمكان.
يضاف إلى ذلك الطابع المؤسساتي والديمقراطي الذي أخذ ينتظم العمل بموجبه داخل الائتلاف, وهو ما اتضح في طريقة انتخاب رئيسه الجديد أحمد الجربا. ناهيك عن حرص زعمائه وقيادته على زيارة الداخل السوري لتفقد عمل الثوار في الداخل, ومتابعة الشؤون الإنسانية التي أخذت الكثير من وقت وجهد الائتلاف.
غير أن هذا لا يكفي, ولا يرتقي بالائتلاف لكي يقود الثورة السورية إلى بر الأمان. كما أنه لا يؤهل الائتلاف لكي يأخذ على عاتقه مهمة إسقاط النظام القائم, والوصول إلى وطن ديمقراطي يشارك الجميع في بنائه. فمشكلة الائتلاف أكبر من أن نسكت عنها أو نتجاهلها, وهي تتكون من ثلاثة عومل متداخلة:
1- عدم إدراك الائتلاف أن العمل السياسي شيء والعمل الثوري شيء مختلف تماماً.
2- عمل الائتلاف من خارج الثورة وليس من داخلها.
3- عدم التزام الائتلاف بما يمكن أن نسميها بـ”أخلاقيات الثورة “.
بالنسبة للعامل الأول, يلاحظ المتأمل لعمل الائتلاف أنه يقوم بعمل سياسي وليس بعمل ثوري. والعمل السياسي يقوم -كما هو معروف- على التخطيط وحسابات المصالح والممكنات المتاحة, في حين يقوم العمل الثوري في جوهره على الشجاعة والإقدام والتضحية واستسهال المصاعب أياً كانت.
ولذلك لا يجوز أن تكون قيادة الثورة بطريقة سياسية, بل لا بد من إخضاع السياسة نفسها لمنطق الثورة, لأن السياسة في النهاية تكييف مع الواقع, واستخراج الممكنات المتاحة من الواقع, ولذلك عرفها بعضهم بأنها: “فن الممكن”.
في حين أن الثورات لا تندلع إلا من أجل تغيير الواقع جذرياً. ولذلك يخطئ الائتلاف عندما يستسلم لمهمة التكيف مع المتطلبات الدولية وتعقيدات الحسابات السياسية, وإنما عليه فتح باب المستحيلات, لأن الثورة ليست أكثر من قلب موازين القوى رأساً على عقب, والعمل على تفجير قدرات خفية لم تكن واضحة قبل الثورة.
فالعمل الأكثر إلحاحاً بالنسبة للائتلاف اليوم هو زيادة تثوير الثورة, وتحفيز كل الإمكانات الكامنة داخل الثورة. والشعب السوري بذل الكثير, وقلب الكثير من المعادلات, وقدم تضحيات هائلة, وهو مستعد اليوم, أكثر من أي وقت مضى, لكي يبذل المزيد من التضحيات, واجتراح القدرات الخلاقة.
ولذلك كانت دائماً حسابات السياسة كريهة بالنسبة للثوار. كما أن معادلات المصالح تكاد تكون عديمة القيمة لهم, لأن الثورة تقوم على الإرادة وليس العقل. وعلى الائتلاف أن يركز على إرادة الثوار وليس حسابات السياسة الدولية, لأن إرادة الثوار هي القادرة على إسقاط النظام وبناء مستقبل أفضل يستحقه السوريون. أما حسابات المجتمع الدولي اليوم فليست مهتمة سوى بمصالح “جيران سوريا”, أكثر من اهتمامه بمصالح الشعب السوري وثورته.
وفيما يتعلق بالعامل الثاني فقد بات من الواضح أنه لم يعد يليق بالائتلاف الوطني اليوم, ولا بالثورة السورية, أن تبقى قياداتها في الخارج, لا سيما وأن جزءاً كبيراً من سوريا أصبح خارج سيطرة النظام. حتى إن وجود الائتلاف في الخارج أصبح يشكل له كثيراً من الإحراجات, ودفع بالكثير من الثوار للحديث عن الدور الهامشي للائتلاف في مجريات الثورة السورية, كما دفع ببعضهم الآخر للتذمر من استكانة الائتلاف للتدخلات الخارجية في شؤونه الداخلية.
وتدلنا التجربة العالمية للثورات وتاريخها على أن غالبية قيادات الثورات كانت تعمل من الداخل. فبالنسبة للثورة الروسية فإن ما حصل هو عكس ما حصل مع الثورة السورية, حيث عاد لينين إلى روسيا ليقود الثورة بعد اندلاعها, كما أن قيادات الثورة الفرنسية بقيت داخلية على الرغم من الويلات والإعدامات التي ساقت قادتها إلى المقاصل, وقل مثل ذلك على الثورة التركية والأميركية, ويبدو أن قيادة آية الله الخميني للثورة الإيرانية من فرنسا تبدو من الاستثناءات القليلة.
إن وجود الائتلاف خارج سوريا له رمزية كبيرة, ولكنه يوقع الائتلاف في ثلاث مشاكل قد لا يستطيع إيجاد حل لها في المستقبل: بقاء شرعيته غير مكتملة, وظهور العسكرة غير المسيطر عليها, وعدم تمكنه من زيادة قدرته على التأثير في الداخل. وهذه مشاكل تعود في إجمالها إلى عدم التحامه بمتطلبات الثورة وهمومها.
حتى إن هناك من وصف النقاشات والمناكفات التي دارت بين أعضاء الائتلاف في إسطنبول قبل أيام قليلة بـ”المنفصلة عن الواقع” السوري المعقد, وهو اتهام طالما وجه لبشار الأسد الذي يعيش في واد, وسوريا في واد آخر.
إن وجود الائتلاف في الخارج يعني أنه يعول كثيراً على الدعم الخارجي للثورة, ويجعل هذا المطلب من أولوياته, وهذا مطلب حق, ولكن الأولوية في الثورات تعطى للداخل وليس للخارج. أما الدعم الخارجي فيكتفى بتأسيس مكاتب فرعية له, تعمل على التأثير في المواقف الدولية, والتعريف بمطالب الثورة, وفضح سياسات النظام الإجرامية أمام العالم.
ويدلنا تاريخ الثورات على أن العامل الخارجي لم يكن عاملاً حاسماً وجوهرياً في انتصار غالبية الثورات, بقدر ما كان عاملاً مساعداً وداعماً ليس إلا. فالعمل على توحيد صفوف الكتائب المسلحة في الداخل, والتأسيس لمجالس محلية فعالة, وتنظيم العمل الداخلي.. إلخ, أمور أهم بكثير من الاكتفاء بمراقبة مواقف الدول المؤثرة وانتظار مساعدات منها, قد تأتي وقد لا تأتي.
حتى إن المواقف الدولية من الائتلاف نفسها كثيراً ما تتحدد بحسب قدرته هو على وجوده بين الثوار, وعمله بشكل مباشر معهم, وإلا ما الذي يفسر تعامل بعض الأطراف مع الثوار في الداخل من وراء الائتلاف نفسه.
وإذا ما عدنا إلى العامل الثالث وهو عدم تخلق الائتلاف بأخلاق الثورة, فإنه من الواضح أن الائتلاف بحاجة إلى من يذكره بأن الثورة هي أولاً قبل كل شيء في سبيل الحرية, والحرية هي التي تبث البسالة في القلوب, والإقدام في النفوس, والجسارة على الظالمين, ولذلك ارتبطت ثورات الحرية في نفوس البشر بالكرامة والشرف والكبرياء, وهذا هو السبب في تفضيل الثوار, في كل مكان, الموت في سبيل الحرية على العيش من دونها.
هذه الأخلاقيات لا نكاد نعثر عليها في أعمال وسلوكيات غالبية أعضاء الائتلاف. فالائتلاف يكاد يكون مستلب الإرادة, ويفتقر إلى القدرة على التعبير عن انتفاضة المظلومين, وحرقة المقهورين, ونزق الثوار, والشغف العارم بالحرية.
إن أخلاقيات الثورة هذه لا تتناسب مع المزاجية التي نجدها عند البعض من الأعضاء غير القادرين حتى على العمل بروح الجماعة. فاليوم لا يخدم الثورة في شيء أن نجد ائتلافا تتباين كتله إلى درجة عارمة من التناحر والتحاسد والتغاير بطريقة شعبية مباشرة.
من أجل كل ما سبق, نجد أنه لزاماً على الائتلاف الوطني السوري مراجعة منطلقاته في العمل السياسي بشكل جذري, بحيث يطرح رؤى جديدة تناسب ماهية العمل الثوري, حتى يرتقي الائتلاف بالثورة, وترتقي هي به. ونرى أن مثل هذه المراجعة يجب أن تأخذ النقاط التالية بعين الاعتبار:
1- على الائتلاف أن يراجع طريقة عمله بحيث يأخذ بعين الاعتبار أن أساس العمل الثوري ينطلق من الداخل وليس من الخارج, لأن الخارج لا معنى له لو خسرنا الداخل, ولأن الخارج هو محصلة ونتيجة لما يدور في الداخل. فماذا سيفعل الائتلاف لو بقي الدعم الخارجي متواضعاً على حاله, ولم يرتفع إلى المستوى المطلوب؟ ألا يخاطر الائتلاف بالانتحار سياسياً؟
2- انتقال الائتلاف الوطني إلى سوريا والعمل من الداخل. ولا نعتقد أن هناك مبررات ذات جدوى تمنع ذلك سوى الخوف والخشية من الاستهداف, وهذه مخاوف مشروعة, ولكن ليس بالنسبة لمن يريد أن يقود ثورة. فالثورة يناسبها الشجاعة وليس الجبن, الإقدام وليس الإحجام, المخاطرة وليس المراوغة.
هناك بالتأكيد صعوبات وتعقيدات, ولكن لابد من البدء بالانتقال, وتلافي كل ما من شأنه أن يعرقل العودة , لا سيما وأن الأرضية الجغرافية والسكانية لاحتضان الائتلاف موجودة. فاليوم هناك أكثر من 80% من الريف السوري خارج سيطرة النظام, وهناك محافظة الرقة محررة بشكل شبه كامل, وقد آن الأوان أن يعاد الاعتبار لأول محافظة محررة, لم يتمكن الائتلاف من الأخذ بيدها, وجعلها نقطة انطلاق لتحرير باقي الأراضي السورية.
3- لا يجوز لأعضاء الائتلاف أن يسمحوا لأنفسهم بنسيان تضحياتهم التي قدموها, قبل الثورة وبعدها, ولا يليق بهم أن يستبدلوا أقبية السجون, التي طالما قضوا فيها أياماً وليالي, بالتخاصم على هذا المنصب أو ذاك, والتزاحم لرئاسة هذه اللجنة أو تلك. بمعنى آخر على أعضاء الائتلاف تبديد الشكوك التي أخذت تزداد حول بعض الأعضاء الذين أصبحوا عبئاً ليس على الائتلاف وحسب, بل على الثورة نفسها.
بقي أن نقول: مرحباً بالائتلاف في الأراضي السورية المحررة, وإذا كان هو بحاجة إلى الداخل, فإن الداخل بحاجة إليه أكثر من أي وقت مضى. إننا نريد لائتلافنا أن يكون ثورياً.
الجزيرة نت