صفحات العالم

“نسبية” الأسد/ حسام عيتاني

 من أطرف المدارس الفكرية التي يقابلها القارئ تلك المعروفة بـ”المعرفية النسبية”، التي يبدو أن سياسات النظام السوري تبنى وتشتق من مفاهيمها.

تقوم “المعرفية النسبية” على استحالة الوصول إلى الحقيقة، بالمعنى المطلق للكلمة. فالحقيقة التي تؤكدها التجربة تبقى مرتبطة بالطريقة التي تم التعرف اليها بها. فإذا كنتَ تُقر بكروية الأرض، على سبيل المثال، استناداً إلى التجربة العلمية، فهذا ليس أكثر من حقيقة نسبية تتساوى من حيث القيمة مع إنكار شخص آخر لكروية الأرض استناداً إلى تجربته الخاصة.

لا تبالي “المعرفية النسبية” بالحقيقة العلمية كمعيار لصدق التجربة، فالعلم الوضعي هو في نهاية المطاف وجهة نظر تجمعت وتراكمت عبر مجموعة من المعاينات والخبرات لا يصح – بحسب هذه المدرسة- أن تنفي حقائق أخرى توصلت إليها حضارات وثقافات متنوعة على امتداد آلاف السنين من التجارب المختلفة وخلصت إلى أن الأرض مسطحة. سيان هنا استخدم الناقد البرهان العلمي وصور الأقمار الاصطناعية والمعادلات الفيزيائية لإثبات وجهة نظره أم لم يستخدم سوى فصاحته. فـ”المعرفي النسبي” لن ينكر أن ما تقدم حقيقة، لكنها “حقيقتك” التي لا تتفوق على “حقيقة” مقابلة هي أن الأرض مسطحة. البراهين العلمية لا تزيد أهمية عن أساطير الأولين، وفق هذا المقياس.

تجاوز هذه المدرسة ودحض مقولاتها ليس بالسهولة التي تبدو للوهلة الأولى. فلاسفة “المعرفية النسبية” وفي مقدمتهم بول فيرباند الذي تقدم خطوات إضافية نحو “الفوضى المعرفية”، تنبهوا إلى مسألة تعدد “الحقائق”. ولم يكتفوا برفع أهمية الخرافة كمصدر للمعرفة الموضوعية، بل شددوا على أن “الحقيقة” الواحدة يمكن أن تتكون من وجوه عدة يرى كل منها الناظر بحسب موقعه من الحقيقة ومن حدوثها. المثال الأبسط والمتكرر كل يوم هو عن شخصين شاهداً حادث سير فيروي كل واحد منها قصة تناقض قصة الآخر من دون أن يكون أي منهما كاذباً. لا مجال هنا لقصة “حقيقية” للحادث ترويه كما جرى فعلاً.

لم يقتصر نشاط “المعرفية النسبية” على الحقل الفكري والنظري المحض بل انتقل إلى الدراسات التاريخية والاجتماعية بحيث باتت الأحداث كلها في نظر أنصار المدرسة هذه متساوية في القيمة لأن المشاركين فيها لهم “حقائقهم” المختلفة. بذلك تتعادل الحضارة والهمجية والتقدم والتخلف والعلم والجهل، بما أن كل شيء نسبي تبعا لأسلوب معرفته وموقع “العارف” منه، سيراً على مقولة فيرباند الرافض لأي منهج في التقدم خصوصاً في مجال العلم الذي يتغير وفق رأيه تبعاً للصدفة وليس للمنهج أو التراكم.

نلمس هذا النوع من المقاربة في ما يريد النظام السوري اقناع العالم به: هو نظام خيّر لا يريد سوى الرفاه لشعبه، لكن ضراوة المؤامرات التي يتعرض لها من أعداء شرسين في الخارج ترغمه على اعتماد العنف للحفاظ على الازدهار الذي ينعم به السوريون. من يقول إن الجيش السوري والميليشيات التابعة له أو المتحالفة معه يرتكبون الفظائع والجرائم ضد مئات آلاف المواطنين، يعبر فقط عن “حقيقته” التي توصل إليها من دون إثباتات تدعمها. بل أن عشرات الآلاف من أشرطة الفيديو والوثائق والشهادات الدقيقة التي تم التحقق منها عشرات المرات عن مجازر واغتصابات جماعية وقتل متعمد للمعتقلين، هي مجرد أكاذيب أو، في أفضل الأحوال، وجهات نظر قابلة للرد والتوضيح إذا وضعت في سياق “حقيقة” النظام التي تنطق بها وسائل إعلامه والمتحدثين المحليين والخارجيين باسمه.

“المؤامرة” (الثورة) التي يواجهها نظام بشار الأسد هي “الحقيقة” النسبية التي يجب أن يأخذ أي تعامل موضوعي مع الأزمة السورية “حقيقة” ثانية، تقول إن المشكلات الداخلية السورية كانت طفيفة وقابلة للعلاج بواسطة الإصلاح الذي باشره الأسد وأجهضه الأعداء الخارجيون الذين اشتروا بعض “ضعاف النفوس” من السوريين لافتعال الاضطربات وتدمير المؤسسات والبيوت.

وتبلغ هذه القراءة حد الفضيحة عندما يبدأ الأسد وأتباعه بالرد على منتقديهم. لا يحق للغرب انتقاد جرائم النظام السوري لأنه استعمر بلادنا وإفريقيا وآسيا. والولايات المتحدة آخر من يحق له الاعتراض على ممارسات أجهزة القمع البعثي لأنها استعبدت الأفارقة وأبادت الهنود الحمر وأقامت إمبراطورية إمبريالية وخصوصاً لأنها تدعم إسرائيل، العدو النهائي والمطلق لمحور الممانعة. المهزلة تكتمل عند تجاهل ممارسات الحلفاء المشابهة مثل أعمال روسيا في وسط آسيا أثناء العهد القيصري وإبادات ستالين لمواطنيه وسياسات التطهير العرقي في الشيشان…الخ

المهم في هذا المجال أن الصنف هذا من الفوضى المعرفية يلائم من قرر اعتماد التضليل واستغباء الآخرين نهجاً له متجاهلاً الحقيقة البسيطة القائمة على المصالح والوقائع والفئات العريضة من المواطنين، وهذه كلها تقول إن الأسد ونظامه وكتبته في سوريا وبعض العواصم العربية، قد سقطوا أخلاقياً ولن تقوم لهم قائمة، حتى لو استعانوا بترسانتهم الهائلة من الأكاذيب والتهويل و”النسبية”.

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى