صفحات الثقافة

نص الحلم أم حلم النص


علاوي كاظم كشيش

“العمل الفني لا يتكوّن من حلم واحد بل من أحلام عديدة” بازوليني.

لا يمكن للحديث عن الاحلام أن لا يمر بالجانب الذاتي الشخصي، ولهذا نجد أن الذين كتبوا في موضوعة الاحلام لم ينجحوا في الابتعاد عما هو ذاتي حتى وإن كان الطرح علمياً تخصصياً، فرويد مثلاً في (تفسير الاحلام 1900).

ويظل السرد هو حاضنة الحلم بعد إنتاجه وإخراجه من عالم الحدث والصورة الحلميين إلى اللغة التي عليها أن تكون حالمة في أغلب الاحيان. فسارد الحلم أول ما يلبس حلمه لغة ثم يسرده بها ويصبح الحلم في مرحلة تحوّل سريعة من حلم الى نص، ولهذا يصبح نص الحلم منفصلاً عن تيار التجربة المستمرة، لأنه يسمح لنا بالتركيز عليه نفسه وهو في حالة استقطاع. فبهذا يكون الحلم نصاً ذاتياً. فهل تصلح الكتابة عما هو ذاتي بما هو غير ذاتي سواه؟ إذ لم يعد فهم المتخيل متاحاً إلاّ بمتخيل آخر بحسب باشلار.

وإذا كان الحلم يعد بنية تتضمن مجموعة من البنيات التي تقوم بتشكيل نصوصيته ولا يمكن القبض عليه في حدوثه البكر إلاّ بعد أن يتلبس مظهراً لغوياً ليتحول الى نص مسرود، فإن المنهجية التي تسعى الى تطويقه وتحليله كنص تنوعت بتنوع حقول الدراسات التي درسته سواء أكانت طبية أم نفسية، أدبية أم تاريخية. ويصبح الحلم بالنظر اليه كنص خارج السيطرة ويتحول الاشتغال عليه الى منطقة اشتغال خاص. خاصة أن مناهج محللي النصوص قد انقسمت قسمين: فغريماس وبروب وجينيت قدموا مناهج تحليلية جاهزة من دون ان تستلزم أي ذكاء أو جهد ذاتي خاص. أما رولان بارت وباشلار ودريدا فقد قدموا فرضيات مقترحين تطبيقها على النصوص. فالمحلل يكون ملزماً بعدم استنساخ تحليلاتهم وملزماً بالخروج عليها. أي يسهم بجهده الخاص. وبحسب امبرتو ايكو فإنه يعمد الى”مشاركة تأويلية”.

وبيولوجيا فإن الأحلام تكون مثلها مثل العمليات العقلية الصادرة عن الدماغ ونشاطه، فالشخص إن كان نائماً أو مستيقظاً فإن دماغه يعطي باستمرار موجات كهربائية. فالأحلام استجابات مموهة لرغبات الحالم وتعتمد على التكثيف وهو ضم أفكار عدة في صورة خيالية واحدة، خاصة في مرحلة النوم ذي حركة العين السريعة. وفي الاحلام تطفو مشاعر الشخص الدفينة على السطح وهي تعتمد الرمزية غالباً، أي استخدام الرموز للتعبير عن أشياء لا يمكن تصويرها مباشرة.

وقد دخلت الاحلام مرحلة التدوين في الثقافة العربية منذ كتاب (تفسير الأحلام) لأبي بكر بن سيرين الانصاري البصري (729هـ) ثم كتاب (البدر المنير في علم التعبير) للإمام الشهاب العابر المقدسي الحنبلي (697هـ) وآخرها كتاب (تعطير الأنام في تفسير الأحلام) لعبد الغني بن اسماعيل النابلسي الدمشقي (1143هـ). وقد كانت منهجية الكتب السابقة تعتمد تعبير الحلم والرؤيا مادة لها ثم تدوينها بتأويل يرجع الى الحوادث المسرودة والمصنفة بحسب أبواب الكتاب، فمؤلف البدر المنير في علم التعبير بدأ كتابه بالباب الأول وهو (في رؤية الباري) وأنهاه بالباب الخامس عشر وهو (في الساعة وأشراطها) وسرد الحلم مدعوماً بعبارة (حدثنا أو حدثني…) أو (رأيت في ما يرى النائم) وسواها من العبارات المفتاحية للسرد، بينما كان مؤلف تعطير الانام قد صنف أبواب الكتاب حسب حروف المعجم من باب الألف الى باب الياء، وأدرج في كل باب، الاشياء التي تبدأ بحرفه مشروطة بعبارة (من رأى..) الشرطية في الأعم الأغلب. ولا نغفل رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد الاندلسي، ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري، فهما عملان أدبيان فنيان حلميان لم يحتاجا الى منام لكي يسردا.

الأحلام العربية

ولقد تتبعت المستشرقة الألمانية (أنّا ماري شيمل) المنامات والاحلام العربية في كتابها (أحلام الخليفة، الاحلام وتعبيرها في الثقافة الاسلامية) الصادر مترجماً عن منشورات الجمل العام 2010، وخرجت المستشرقة بعد تجوالها في مؤلفات المنامات العربية الاسلامية التي تفوق الألف مؤلف، بحسب زعمها، بخلاصة مفادها أن الاحلام في منتهى الواقعية، إذ أن هناك منامات كان لها دور في تغيير قناعات البعض، أو توليد منشآت عمرانية، أو تحرير مؤلفات ما كانت تخطر على أذهان مؤلفيها لولا حث منام ما، كما حصل مع الزمخشري. وربما يحيل هذا الزعم الى ما اكتشفه باشلار فيما بعد حيث دعا الى اكتشاف الصور التي تحمل سمة حلم يقظة مادي، فقد وجد في العناصر الكونية: الماء والنار والأرض والهواء الاصطلاح الرباعي الذي يترجم نفسيات وأمزجة متنوعة فأدخل مفهوم العنصر الى تاريخ النقد ليصبح حالماً فوق بساط النص الذي يقرأه بعد أن أصبح من الصعب التكلم عن لا مادية الوعي، إذ صارت القراءة هي بعدٌ للنفسية الحديثة، بعدٌ ينقل الظواهر النفسية التي سبق للكتابة أن نقلتها، بحسب باشلار وهو يحلل وينتج شاعرية أحلام اليقظة في كتاب له بهذا العنوان مضافا الى ذلك كتابه الآخر (الماء والاحلام).

ولكن هل يشترط الحلم مناما ما كي يتشكل؟ وهل نعد الحالم شخصا مسرنما وهو يحلم أحلام يقظة؟ أم نعد المبدعين حالمين كبارا؟ فنضرب بهذا الاعتبار كل التصانيف السابقة، العلمية منها والنقدية بكل حقولها من أجل نص حلمي بسيط وعميق. وكيف يمكن لنا أن نعيد ربط الاشارات التي هي اشارات احلام تنبثق بقوتها الذاتية هنا وهناك خارج الزمن ذاته؟ ولأصنع حلماً، عليّ أن أسأل:

خزانة المخاوف

كيف استطاعت إحدى شخصيات مئة عام من العزلة وهي تحمل عظام أسلافها في خرج وتأكل جبس الجدران أن تفتح خزانة المخاوف في ذاكرتي العام 1985 عند قراءتي لهذه الرواية لأول مرة؟ فلن أنسى اللحظات التي اجتاحت وعيي وأنا أرى هذه الشخصية تتحرك أمامي على صفحات الكتاب بعد أن أعادتني الى لحظة من العام 1967 في كربلاء في بيتنا قرب مرقد الامام الحسين، حيث كان بيتنا مأوى لأنواع الزائرين ومنهم امرأة عجوز جلست آخر الليل مع أمي تحتسيان الشاي وأنا نائم قرب أمي، متلفعا بسنواتي الخمس أرى بعين شبه مغمضة هذه العجوز تعرض أمام أمي خرجاً من الصوف عليه مثلثات ملونة كثيرة منتفخاً وممتلئاً بعظام تطقطق كلما حركته العجوز، وقد وضعت جمجمة صغيرة أمام أمي مع بعض من العظام، ثم قرأتا الفاتحة عليها وأعادتها العجوز الى الخرج وأنا مبهور، مما ألمح وأسمع. فقد روت هذه العجوز لأمي ان هذه العظام تعود لابنتها الوحيدة الجميلة وانها ذات يوم كانت تعمل في الحقل ومر عليها ابن جيرانهم وحيّاها بيده من مسافة ليست بعيدة، فاتهمها أخوتها الثلاثة بوجود علاقة بينها وبين ابن الجيران فأخذوها الى ايشان بعيد مكتوفة اليدين وحفروا لها قبراً ودفنوها هناك. وبعد ثلاث سنين تفرق هؤلاء الأخوة فذهبت العجوز الى القبر ليلاً وحفرته وجمعت عظام ابنتها وجلبتها لزيارة الامام الحسين والصلاة عليها لتعود الى دفنها في مقبرة العائلة في النجف. كانت طقطقة العظام وصوت العجوز الخافت يتحايثان مع مذاق سرد ماركيز في الرواية ومع لوحة الشجرة القتيل لجواد سليم التي تحتفظ بتفاصيل هذا المشهد تماماً. ومن هذه الخرافة الفسيفسائية كانت أسئلتي تعجّ. أيهما اسبق الى وعيي المرأة العجوز أم ماركيز؟ مع العلم ان هناك تقارباً زمنياً بين الحادثة وصدور الرواية بعد منتصف الستينيات. ولكن كيف استطاع ماركيز ان يسطو على خرافتي ويدوزنها؟ ثم لماذا كان على صعقة هذا الحلم ان تمد فروعها في الواقع لأرى العام 1986 أجساد وعظام قتلى الحرب في قاطع مجنون أو أن أقف بعد سقوط الدكتاتورية على المقابر الجماعية التي خلفها الجيش بعد اقتحامه مدينة كربلاء في انتفاضة آذار 1991 وأصور العظام وأكتب عنها تقارير وأخباراً الى جريدة الصباح عندما كنت مراسلاً لها؟ من أي الشقين أتخلص؟ من العظام في الخرج ام من الكاتب الذي عبر الحدود الى مخاوفي وأحلام يقظتي؟ ما هي حدود الخرافة والواقع والعلم والحلم؟ وهل ما يشاع عن الخرافة بأنها خرافة تبعا لمبناها وعناصرها أم لأنها تردم الحدود بين الواقع والخيال؟ ثم كم من الاحلام التي تأبى مغادرة الذاكرة والرؤيا قد يكون سبقنا اليها كاتب او شاعر او فنان او أي شخص آخر في أي مكان من الارض، ونحن نظن انها احلامنا الخاصة؟ الا يعني هذا ان لنا نصوصاً مشتركة مثلما ان لنا احلاماً مشتركة؟… وهل نحن نكتب نصوصاً ام احلاماً؟ وهل يكمن الابداع في نص الحلم أم في حلم النص؟

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى