صفحات سوريةميشيل كيلو

نظام الأسد.. خطّ إيرانيّ أوّل/ ميشيل كيلو

 

كان النظام السوري حريصاً، في زمن الأسد الأب، على تجميع أوراقٍ سياسيةٍ تمكّنه من التلاعب بخصومه، وبوضعهم في خدمته، مهما كانت مواقفهم وهوياتهم، سواء كانت علاقاته معهم عابرة أم سطحية، دائمة أم استراتيجية.

في المبدأ، كان حافظ الأسد حريصاً على تحويل نظامه إلى نقطة استقطاب وجذب، عربية وإقليمية متماسكة، وذات صوت واحد، هو صوته داخلياً، مصمّماً على إنهاء وضع سورية بلداً تأرجح تاريخياً بين العراق ومصر، وتأسيس دور مختلف، تتمحور فيه سورية حول نظامه الذي يعيد إنتاجها في صيغة جديدة، وكذلك البلدان المجاورة في فلسطين ولبنان والأردن، بما يجعله مستقلاً عن الدولتين العربيتين المتصارعتين في إطار التنافس الدولي.

لضمان بقاء سورية الجديدة مرتبطةً بحكمه، تحاشى الأسد تحدي دولتين، اعتبرهما مقررتين لسياسات ونُظُم المنطقة، هما أميركا وإسرائيل، بل ووضع نفسه تحت مظلّتهما في حالاتٍ معينة، كحالة لبنان وفلسطين، وخطّط لإبعاد العراق عن المشرق، وتوريطه في صراعاتٍ طويلةٍ تستنزف قدراته، ولإخراج مصر من منطقة نفوذه المشرقية، ودشّن دوره الجديد بدخول لبنان، وفق تفاهم كان قد توصّل إليه مع أميركا وإسرائيل، وتعاون مع قطاعاتٍ لبنانيةٍ تابعة لطهران، قبل أن يعمل لوضع يده على منظمة التحرير الفلسطينية، ويقيم علاقات خاصة مع الأردن، ويبتزّ السعودية، ويفرض عليها تقاسماً وظيفياً هي فيه مركز مالي، وهو قوة القرار السياسي والاستراتيجي في آسيا العربية، التي تحصل على مال الرياض النفطي، ودعم أميركا وتعاون إسرائيل، ومساندة إيران وما تمارسه من ضغوط على الخليج، وتلعبه من دور إيجابي في تحويل نظامه إلى قناة رئيسة، وأحياناً وحيدة، تمرّ عبرها علاقات العرب مع طهران، وعلاقات طهران مع العرب.

في هذه الأثناء، استخدم الأسد الصراع السوفياتي ـ الأميركي لتوطيد نظامه، وإبقائه خارج بؤره المتفجرة: في موقع يعود عليه بالنفع، من دون أن ينجم عنه أي ضرر جدي، أو غير قابل للإصلاح، بما لدى النظام من أدوات ووسائل.

… بانهيار القطب السوفياتي، وجد الأسد نفسه مجبراً على إيجاد بديل له، يعزّز دوره في إطار القطبية الدولية الوحيدة، وما يمكن أن تنتجه سياساته المشرقية عامة، والإيرانية ـ العراقية خاصة، من مخاطر قاتلة، بعدما شرعت واشنطن تفيد من غياب منافسها التقليدي، لتفكيك جوانب من دورٍ كانت قد أوكلته إلى الأسد، في لبنان وفلسطين والعراق. بما أن البديل الدولي كان مستحيلاً، والبديل الداخلي الذي اقترحته المعارضة ظلّ مرفوضاً، فإن الأسد لعب ورقتين هما: الإرهاب، (وقد استعمله لغرضين متناقضين: التهديد باستخدامه، وإبداء الاستعداد للمشاركة في الحرب ضده)، في الوقت نفسه، أخذ يؤقلم نظامه مع واقع دولي متغيّر، ويتراجع عن أدوار لعبها في الحقبة السابقة في لبنان وفلسطين والأردن والخليج، تحت غطاء تكتيكاتٍ هجوميةٍ، لتحسين موقعه في أية تفاهمات محتملة حول دور جديد، أمل أن يمنحه القطب الدولي الجديد في مجالي الإرهاب والعلاقات مع إيران أساساً.

بمجيء الأسد الصغير إلى السلطة، تغيّرت المعادلات، ووقع انقلاب في علاقات نظامه مع طهران، حوّلها من حليفٍ إلى قوة مسيطرة تحكّمت بسياساته وعلاقاته العربية والدولية وبمصيره. صحيحٌ أنه بقي ملتزماً بخطوط حمراء، ضبطت علاقاته الأميركية والإسرائيلية، إلا أن انضواءه تحت السقف الإيراني جعل منه، لأول مرة، تابعاً قطبياً إقليمياً، غارقاً في مشكلاتٍ وصراعاتٍ معقّدة، لا سيطرة له عليها، اعتقد أن علاقاته معها ستردّ عنه ضغوط إدارة بوش، الراغبة في إعادة ترتيب المشرق العربي عبر “فوضى خلاقة”، أدخلت جيشها إلى العراق، وغيّرت علاقاتها مع دمشق، المُطالَبة بإصلاحٍ يجب أن يسبق أي دور عربي ـ إقليمي جديد يوكل إليها، أوضح كولن باول، وزير خارجية واشنطن، بعض ملامحه في زيارة قادته إلى سورية عام 2003، عقب غزو العراق واحتلاله، عبّر فيها عن رغبته بمشاركة دمشق في الحرب ضد الإرهاب، وبضرورة امتناعها عن تمويله وتسليحه وتجنيد السوريين والعرب في صفوفه، وانتهاج سياساتٍ جديدة في لبنان، تفكّك وجودها العسكري فيه.

كان الأميركيون يريدون جعل وجودهم في العراق نقطة تحوّلٍ مفصليةٍ، في زمن ما بعد السوفيات، ويعتقدون أن في وسعهم التخلي، كلياً أو جزئياً، عن علاقاتهم القديمة مع نُظُمٍ يجب عليها التكيُّف مع مطالبهم، قبل تقديم ضمانات تكفل بقاءها، وحين رفضت واشنطن تقديم ضمانات للأسد، تسبق قيامه بالتغيير والإصلاح، ازداد التصاقه بإيران، وشرع ينخرط في صراعاتها مع الغرب، ويرى فيها البديل المنشود للسوفيات. وزاد موقف إسرائيل، والذي بقي وديّاً تجاهه، من اقتناعه بأن البيت الأبيض سيواصل تفهُّم خياراته، وتعزّز اقتناعه بقدرتها على حمايته، من خلال دورها الحريص على ضماناته الأمنية، المكمّلة لدور إيراني يضبط حزب الله، وموقفها الإيجابي من مقاومته التغيير في المنطقة، وشفاعتها له عند أميركا، وتفضيلها يده الحديدية داخل سورية على بدائله الإسلامية والديموقراطية المحتملة، وثقتها به لاعباً يعرف القواعد في منطقة هي قوتها الرئيسة، المعنية بالمحافظة على الوضع القائم مشرقياً، وما يؤديه فيه من أدوار، فتّتت المنطقة وورطته، في الوقت نفسه، في مواجهاتٍ مع دولها، بعدما فتح، بدخوله إلى لبنان، صفحة الصراعات العربية ـ العربية، وأغلق صفحة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، بصورة أكملت ما فعله أنور السادات في اتفاقية كامب ديفيد معها.

… واليوم، وبعد ثلاثة أعوام ونيّف من حرب طهران وأتباعها ضد شعب سورية، تتعالى تصريحاتها التي تؤكد أن النظام باقٍ بإرادتها، وأنه لا بأس إنْ قُتل السوريون من أجل مصالحها، وأن تابعها الدمشقي كان سيسقط منذ نيّف وعامين، لولا دعمها، وتحوّله إلى إسفين في جسد المشرق العربي والخليج، يحافظ عليه الخارج: الإسرائيلي في الغرب والفارسي في الشرق، بعدما حوّل الأسد الصغير سورية إلى وجبة يتقاسمها الطرفان، يقضم هذا منها قضمة ـ الجولان، فيلتهم ذاك استقلالها، فلا حرج إن تباهى ضباطه بأنهم قلبوها إلى خط دفاع أول عن جمهوريتهم “الإسلامية”، تنهض وظيفته، اليوم، على معادلةٍ حدّها الأول حماية طهران النظام، وحدّها الثاني حمايته لها، بثمن باهظ من دماء شعب سورية المنكوب.

وبما أن الحدّ الأول يُترجَم إلى مَقتَلَةٍ غير مسبوقةٍ، ضحيتها السوريون جميعهم، بينما يترجم حدّها الثاني إلى واقعٍ لا سيطرة لأحد عليه، ويخضع خضوعاً متعاظماً للعنف والفوضى، فإنَّ تُفاعُلَ حدّي المعادلة يقود إلى انهيار واحدٍ من أعظم أوطان العرب، وأكثرها تقدماً وتطوراً، بجهود تلعب دوراً مفتاحياً فيها دولة اسمها إيران، يؤمن قادتها أن نظامهم سيسقط إنْ توقفت حربهم السورية، وإن تدمير بلادنا، وقتل مواطنيها، من مستلزمات أمن نظامهم وسلامته، وإن تحويل الأسدية إلى خط دفاع أول عنهم كان يستحق الجهد الذي بذلوه، مباشرة عبر انخراطهم في القتال، أو بصورة غير مباشرة، فالسوريون يجب أن يموتوا في الحالتين، كي لا يموت سادتهم الإيرانيون، ولا بد من تدمير وطنهم، كي يبقى نظام إيران.

يدرك السوريون ما تفعله إيران بهم. ويعلمون أن الأسد ينفّذ مهمةً ثمنها حياتهم ووجود وطنهم، وأن ما يحدث لهم سابقة خطيرة في علاقات بلدان ألزمها الإسلام بتبادل الحماية والدعم، ومنعها من الغدر بأي شعب مسلم، وتأسيس أشكالٍ من السيطرة، لا تسوّغها القيم الدينية، ولا الاعتبارات الإنسانية.

فضح قادة إيران السرّ، فالنظام، الذي حوّله الأسد الصغير إلى تابعٍ خَنوعٍ لها، هو خطّ دفاعها الأول، وقتالها في سورية ليس دفاعاً عنه، بل عن نظامها. وإذا كانت تقاتل باستماتة لإنقاذه، فلخشيتها من أن ينهار، وتخرج من المنطقة بخروجه من السلطة. مع ذلك، تبدو طهران عازمةً على مواصلة غلطتها الاستراتيجية في سورية، لإيمانها المحق بأن سقوط الأسد سيضعها في مواجهة نتائج لن تقوى على احتوائها، بحسن روحاني أو بغيره من “الإصلاحيين”، الذين وُضعوا في السلطة، كي يستبقوا هزيمة الأسد بتدابير تخفّف من آثارها ونتائجها على طهران، والتي لن يقبل شعبها، بعد ذاك، ما سبق أن رفضه السوريون: العيش في ظل نظام عصاباتي، مقاوم للإصلاح، اقتلاعه من جذوره هو الحل الوحيد الذي سيريح سورية من صواريخه وقنابله، وإيران من جرائمه، وسيوقف مشاركته في حرب تجعل حرية الإيرانيين رهناً بحرية سورية، وبالعكس، وسقوطه بداية عبور شعوب المنطقة إلى حريتها وكرامتها وحقها في الحياة.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى