نقاشات عن داعش/ بدر الإبراهيم
تنظيم الدولة الإسلامية، المعروف بداعش، يملأ الدنيا ويشغل الناس، منذ فترة طويلة، ويدور حوله الجدل، في المقالات، ومواقع التواصل الاجتماعي، والبرامج الحوارية، وحتى الأعمال الدرامية، إذ تمكّن هذا التنظيم، في فترة قصيرة، من التوسع بشكل كبير، في العراق وسورية، ومن ثم تهديد دول عربية، عبر إنشاء فروع له فيها، تقوم بأعمال عنف، سعياً إلى إحداث الفوضى، وزعزعة الدولة. لكن النقاشات العامة حول هذا التنظيم تشهد خلطاً بين أسباب نشوئه، ودوافع التحاق الشباب به، كما تشهد ظهور الانحيازات الأيديولوجية والمذهبية، في تحليل الظاهرة. ويبدو مهماً إلقاء الضوء على بعض هذه النقاشات، لأنها تؤسس، غالباً، لوجهات نظر مختلفة، حول سبل معالجة الظاهرة، والتعامل معها.
يفضّل بعضهم إحالة ظاهرة داعش إلى أسباب عقائدية وفقهية، متعلقة بالتراث الإسلامي، أو بالمناهج الدينية في بعض الدول العربية، وعند جاليات إسلامية، في حين يرد آخرون بإعلاء شأن البعد السياسي والاقتصادي. وفي الحقيقة، يبدو من الصعب للغاية اختزال الظاهرة بعامل واحد. لكن، من المهم تحديد العوامل الرئيسية، والعوامل الأقل أهمية، في تكوّن الظاهرة، كما أنه من المهم التفريق بين أسباب نشوء الظاهرة والتبرير الأيديولوجي الذي يضفي عليها الشرعية، وهو ما لا ينتبه له كثيرون، إذ للظاهرة أسباب سياسية واقتصادية رئيسية، لكنها تستخدم الأيديولوجيا الدينية، لتقديم غطاء شرعي لأعمالها التي تسعى، من خلالها، إلى تحقيق أهداف سياسية، وليس للقتل من أجل التسلية، كما يظن بعضهم، والأيديولوجيا الدينية متصلة بالأهداف السياسية، ومفيدة في تفسير سلوكيات كثيرة للتنظيم، لكن التنظيم لم ينبع من كتب التراث كما تفترض بعض الأطروحات، بل هو نتاج الواقع الحالي.
يمكن الحديث عن فشل الدولة العربية وانهيارها، وبروز الصراعات الطائفية بصيغتها الحادة، كما في العراق، بوصفه عاملاً أساسياً في تكوين داعش، وفي تفسير أولوياتها، المتعلقة بقتال من تسميهم “الرافضة” و”المرتدين”، إذ يفرض الصراع الأهلي أولويته على أجندة هذا التنظيم الجهادي الذي يخرج من رحم الانقسام الأهلي، ليعيد ترتيب أولويات تيار الجهاد العالمي، من محاربة “الكفر العالمي”، ممثلاً بأميركا والغرب، إلى إقامة الدولة الإسلامية، ومحاربة خصومها داخل المجتمعات المسلمة، وفرز المكونات الاجتماعية وتصنيفها، ضمن استراتيجية حربٍ شعواء، إبادية الطابع، بغرض إقامة المجتمع الصالح، للدولة الصالحة المفترضة التي ترث دولة الفساد المنهارة.
“يمكن الحديث عن فشل الدولة العربية وانهيارها، وبروز الصراعات الطائفية بصيغتها الحادة، كما في العراق، بوصفه عاملاً أساسياً في تكوين داعش” أيضاً، لا يجب إغفال الدور الذي تلعبه التدخلات الغربية في منطقتنا، في بروز تنظيمات مثل داعش، فالاحتلال الأميركي للعراق أسهم في نشوء التنظيم رفضاً له، وكثيرون ممن يلتحقون بالتنظيم يرون فيه مجالاً للثورة على النظامين، الإقليمي والعالمي، ومواجهة الحالة الاستعمارية، بغض النظر عن الانحراف الذي يحصل، عند التطبيق العملي لهذه الفكرة، حيث يغرق هؤلاء في استهداف “عدو الداخل”. كذلك، إن فشل عملية إدماج المسلمين في الدول الأوروبية تلقي بظلالها على تلك الدول، عبر قدرة التنظيم على تجنيد مسلمين أوروبيين كثيرين، وخصوصاً في فرنسا، مستغلاً بشكل احترافي مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا كله يعني أن الحالة الاستعمارية، سواءً تُرجمت باحتلال عسكري، أو بهيمنة اقتصادية وسياسية، تعمل على إيجاد بيئة خصبة لنمو تياراتٍ جهادية، مثل داعش.
أما دوافع الأفراد للانضمام لتنظيمٍ كهذا، فتختلف باختلافهم، والحاجة ملحة لدراسات تتعلق بدوافع الأفراد، إذ ليس الحديث النمطي عن دوافع، من نوع قلة التعليم والفقر، دقيقاً في حالاتٍ كثيرة، فكثيرون يتمتعون بتعليم جيد، ومستوى معيشة مقبول، ويفضلون الالتحاق بالتنظيم، ويمكن تفسير ذلك بحالة الاستنفار الهويّاتي التي يعيشها كثيرون منهم، نتيجة الشحن والتعبئة بخصوص ما يحصل في سورية والعراق، إضافة إلى أن بعضهم يرنو إلى نموذج دولة تمثل النقاء الأيديولوجي، كما أن آخرين يمثلون حالة العدمية، كما يصفها أوليفيه روا في مقالٍ له عن الشباب الملتحقين بالحركة الجهادية.
محاولة تفسير ظاهرة داعش تشبه السير في حقل ألغام، فهناك خيط رفيع، مثلاً، بين (تفسير) وجود داعش بوجود صراع طائفي، و(تبرير) وجود داعش وأفعالها بمظلومية سنيّة، أو وصف التنظيم بأنه “سني” متطرف، والبحث عن مكافئ “شيعي” له، للتخفف من “عبئه السني”، كما في بعض تحليلاتٍ لا تغادر الثنائية المذهبية. كذلك، يوجد خط ثالث في التحليل بين اختزال الإسلام السياسي (وبالذات الإخوان المسلمون) بداعش، وتبرئة “الإخوان” بالكامل من الظاهرة الجهادية، في حين أنهم دعموا الظاهرة منذ بدايتها في أفغانستان، وداعش نتاج تراكم الظاهرة، كما أن تنظير سيد قطب معتبرٌ عند الجماعات الجهادية بالعموم، ما يجعل وضع مساهمة الفكر الإخواني في صناعة الحالة، في حجمها الطبيعي، أمراً مطلوباً، من دون مبالغات.
يبقى التساؤل عن الدول الداعمة لداعش، أو التي تقف وراءها، أمراً تختلط فيه النكاية السياسية بالتحليلات المؤامراتية الخيالية، ولا بد من القول إن داعش فاعلٌ مستقل في المشهد، لكنه يستفيد قطعاً من التناقضات الإقليمية التي سهّلت تضخمه البشري والمسلّح منذ عام 2011، وتمدده الذي نشهده، غير أن هذا البُعد في التحليل، يغرق في المناكفات السياسية العابثة.
العربي الجديد