نقد موقف المدافعين عن الدولة السورية/ راتب شعبو
بعد أن استقرت الكلمة في الساحة السورية للرصاص، وأغلق الباب إلا أمام من يمتلك التمويل والسلاح والطابع الإسلامي أو “الإلهي”، توّزعت المعارضة السورية غير الإسلامية، أي التي لا تتوفر فيها المؤهلات السابقة، إلى ثلاثة اتجاهات لا تتمتع بأيّ فاعلية واقعية، وتكتفي بصفة المراقب والمعلق على الحدث. اتجاه يختصر كل تفاصيل الحدث السوري بالكلام عن “الخطر على الوطن والدولة” ويرجئ أي كلام سياسي إلى حين زوال هذا الخطر على يد الجيش السوري. واتجاه يعاني من تثبّت مرضي على فكرة إسقاط النظام، باستقلال عن كل تطورات الحالة السورية، ويحتفظ بصيغة ثابتة تتكلم عن نظام مستبد يقمع ثورة حرية، وبذلك يخرج نفسه من أي نقاش مجد في التطور السوري. فيما يبقى الاتجاه الثالث في أسوأ حال يمكن لمعارضة أو لجماعة سياسية أن تشهده، وهو الجمع بين انعدام الفاعلية وانعدام اليقين، اللهم سوى اليقين بالجحيم والكارثة. هذا الاتجاه لا يجد في ذاته ميلاً إلى أيّ من طرفي الصراع العسكري، فلا يفرح لنجاح النظام في حصار حلب، ولا لنجاح جيش الفتح في تحرير إدلب، في اغتراب مرير عن لوحة الصراع السوري. والملاحظ أنّ انعدام الفاعلية شبه التام لهذه الاتجاهات الثلاثة، يرافقه تبادل عداء منقطع النظير، ولاسيما بين الاتجاه الأول والثاني، كما لو أن كل اتجاه يرى في موقف الأخر المحدد النهائي لمصير الأمور في سورية.
سنناقش في هذا المقال الاتجاه الأول الذي يرى أن المستهدف في سورية اليوم (بصرف النظر عما مضى، وعما قاد الأمور إلى هنا وعن الموقف من مجريات ما جرى) هو الوطن والدولة السورية، وأن ضمانة الوطن والدولة هو الجيش السوري، وأنّ الموقف الصحيح هو الاصطفاف مع النظام الذي يعادل الاصطفاف مع الدولة والجيش وبالتالي الوطن. يعبّر أحد هؤلاء عن موقفه على صفحته على الفيسبوك بالشكل التالي: “هذه الحرب هي حرب وطنية بامتياز، في هذه الحرب يصبح التناقض مع النظام ثانوياً في هذه الحرب، التي هي حرب وطنية بامتياز، يصبح تناقضنا مع النظام تناقضاً ثانوياً بالقياس للتناقض الرئيسي مع التحالف الصهيو وهابي وأدواته من جيوش الارهاب التكفيري، لأن هذا التحالف وأدواته هو الخطر الأكبر الذي يتهدد وجودنا برمته. ومن أجل وضع النقاط على الحروف كما يقال، لا بد من القول أنه لا يمكن، في ضوء تعقيدات الواقع ومعادلاته، خوض معركة الدفاع عن سورية اليوم إلا مع الجيش السوري، الذي يشكل القوة الرئيسية لمواجهة خطر الانهيار الشامل، والخروج من التاريخ.، قياساً على التناقض الرئيسي مع التحالف الصهيو وهابي وأدواته من جيوش الإرهاب التكفيري. وفي ضوء تعقيدات الواقع لا يمكن خوض معركة الدفاع عن سورية إلا مع الجيش السوري الذي يحمي من خطر الانهيار الشامل، ذلك أنّ مهمة حماية الدولة والوطن تتقدم على مهمة الإصلاح”.
صاحب هذا الموقف معارض سابق، ومن المعروفين بالصدق والجدية والنضالية العالية، وقد قضى سنوات طويلة من عمره في سجون الأسد الأب. وربما كان موقفه الحالي المؤيد للنظام أقوى وأكثر ثباتاً من مواقف كثير من الموالين “العفويين” أو “اللامبدئيين”، نظراً إلى أنّ موقفه هذا مبني على وعي بخطورة ما يسميه “الانهيار الشامل” فيما لو تضعضع الجيش السوري “النظامي”.
بالطبع ليس في استدراك الموقف السياسي أو مراجعته ما يضير، وليس في تقاطع الموقف مع مواقف موالين ما يضير أيضاً. ولكن في التدقيق نجد أنّ أصحاب هذا الاتجاه سلبيون “مبدئيون” أمام كل فساد وانحطاط الاستبداد الأسدي، على اعتبار أنّ “الوطن في خطر”. وعليه، يصبح الغلاء والتشبيح والقمع الذي يطال أفقر فئات الشعب، مجرد ضريبة يجب قبولها لتفادي “الانهيار الشامل”.
هذه المقاربة تسوّغ الرضى بكل شيء على أنه ضريبة ثورية. أكان ذلك في مناطق سيطرة النظام من إفقار وفساد وتشبيح وقمع وتضييق على القوى المعارضة الديموقراطية ..الخ، أو في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام من مجازر وقصف أسواق ومشاف .. الخ، بما لا يتفق مع قواعد الحروب أو مع الضرورات العسكرية، ويدخل في باب جرائم الحرب. ومن الطريف أنك ستجد، فوق هذا، أن هناك من أهل النظام ومن مؤيديه الأصلاء، من يُخرج الأمر كله من خانة الوطنية التي يتكلم بها أصحاب هذا الاتجاه، وينظر إلى هؤلاء على أنهم مجرد جبناء يحتمون بالنظام جرّاء خوفهم الشخصي من الإسلاميين الذين يقتلون “اليساري” أو “الشيوعي الملحد”، مثلما أو ربما قبل أن يقتلوا الأسدي. أصحاب هذا القول من أهل النظام، سبق لهم أن قالوا إنّ النظام منّ من قبلُ على هؤلاء المعارضين حين سجنهم دون أن يعدمهم. والحق أنّ هذا هو المنطق الفعلي الذي يحرك الطغمة الأسدية، كأيّ طغمة تستولي على الدولة وتخصصها لعائلة أو لعشيرة أو لحزب ..الخ، التي ترشحها هذه المقاربة لحماية الوطن والدولة.
هذا الاتجاه في تناول الحدث السوري هو في الواقع اتجاه موال، وصفة المعارضة فيه تتصل بتاريخ أصحابه فقط. والحق أنه حتى في التطلع الإصلاحي، المؤجل إلى ما بعد تجاوز “الخطر على الوطن”، أي إلى ما بعد انتصار النظام وفقاً لهذا المنطق، لا يتفوّق تطلّع هؤلاء على تطلع بقية الموالين.
لا ريب أنّ انهيار الدولة السورية ليس في صالح السوريين، على ما يكشف النموذج الليبي، وعلى ما كشف قبله النموذج العراقي. غير أنّ الوقوف عند هذا الحد في الكلام، يعني إخفاء نصف الحقيقة الآخر، الذي يكشفه السؤال التالي: هل يمكن منع انهيار الدولة السورية بالاصطفاف إلى جانب نظام الأسد؟ هل على السوريين أن يختاروا بين انهيار الدولة أو “انتصار النظام الأسدي”؟ ألا يعني تكريس هذه المعادلة الرضوخ لابتزاز نظام الأسد الذي يجعل أيّ مبادرة تغيير سياسي تكافئ انهيار الدولة؟
لا بأس، لنقل إننا مرغمون على قبول الابتزاز الأسدي، وإننا مقابل عدم انهيار الدولة سوف نقبل باستمرار النظام الأسدي، يبقى السؤال: هل يستطيع النظام الأسدي الحفاظ على الدولة فعلاً؟ أليس في هذه المقاربة إغفال لإرادة ملايين السوريين الذين وصل بهم الحال إلى حد القبول بانهيار العالم، وليس فقط الدولة السورية، مقابل أن يرحل هذا النظام؟
بطريقة أخرى، هل يمكن للجيش السوري، باعتباره جيشاً لنظام الأسد، أن ينتصر؟ أليس في مثل هذه المقاربة للموضوع اختزال عسكري لمشكلة ذات أصل سياسي أولاً وأخيراً؟ ألا يعادل إغفال الجذر السياسي للموضوع الإمعان في حرق سورية؟ أليس دخول الجيش السوري إلى المناطق الخارجة عن سيطرته، في نظر نسبة كبيرة من أهالي هذه المناطق، شبيهاً بدخول جيش الفتح مثلاً إلى مناطق سيطرة النظام، في نظر سكان هذه المناطق؟
بالنسبة لمن هو في مناطق سيطرة النظام، وله موقف ناجز من الإسلاميين، يبدو أن انتصار الجيش السوري أولوية تتفوق على ما سواها، وأن سحق “الجبهة الإسلامية الفاشية” التي تعرض أبشع ممارسات وأبشع تصورات سياسية يمكن تصورها، مهمة ثورية يقوم بها الجيش السوري. غير أن تعميم هذه الرؤية وفرضها على كامل سورية، هو ضرب من قصر النظر أو من استبداد النظر بالأحرى. هناك نسبة كبيرة من أهالي المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، باتت تقبل الإسلاميين بكل تدرجاتهم، وصولاً إلى داعش (انظر مثلاً موقف الأهالي غير المرحب أو اللامبالي، على الأقل، بالهجوم الذي شنه جيش سوريا الجديد برعاية أمريكية وأردنية على البوكمال لانتزاعها من سيطرة داعش)، أكثر من قبولها نظام الأسد الذي يرتكب جرائم حرب ضد من يفترض أنهم شعبه، ولن يدخل هؤلاء السوريون مجدداً في بيت الطاعة الأسدي إلا بالقهر والقوة. هذا ما يجب أن يدركه أصحاب هذه المقاربة، إذا شاؤوا أن يتناولوا الأمر من زاويته الوطنية العامة.
على هذا لا يشكل انتصار الجيش السوري حلاً، هذا إذا تحقق، (وهي نتيجة غير مسموح بها دولياً كما هو ظاهر من اعتماد مبدأ لا غالب ولا مغلوب)، بل استمراراً حاداً للأزمة السياسية والاجتماعية لا يمكن أن تستقر عليها دولة. ينبغي التحرّر من جاذبية الدائرة العسكرية ومفاعيلها، والتركيز على ضرورة فك احتكار الطغمة الأسدية عن الدولة وتحرير المستوى السياسي بما يسمح بتفريغ الاحتقانات السياسية سياسياً وليس عسكرياً. هذا هو الطريق الصحيح للدفاع عن الدولة.