نقد نقد الإسلاميين بعد مأساة حلب/ حسين غرير
بعد مأساة حلب وجدَ الجميع أنفسهم وجهاً لوجه أمام حقيقة الخسارة، التي لم يعد هناك أي مجال للمناورة في إنكارها. لذلك فرضت مراجعةُ المسار نفسها علينا، ولم نجد مفراً من البحث في أسباب هذه الخسارة. لكن المراجعة كانت شكلانية تشبه كثيراً الطقوس الدينية التطهرية، وكانت سريعةً وخاطفةً وما لبثت أن انطفأت جذوتها، حتى أن الأضحية كانت جاهزة منذ وقت طويل، بانتظار الوقت المناسب لوضعها على المذبح.
كان من السهل والمريح جداً القول باختطاف الثورة من قبل الإسلاميين، وحصر مشكلة الثورة في أسلمتها، وإلقاء كل اللوم دفعةً واحدةً على الإسلاميين عموماً، وعلى الفصائل الإسلامية خصوصاً. وعندما أردنا نقد الذات حصرنا هذا النقد في خطأ تركِ الساحةِ للإسلاميين، أي عدم فرض رؤيتنا عليهم منذ البداية.
تجد هذه المقولة سنداً لها في الواقع، فعلى أقل تقدير يمكن المحاججة أن الخسارة تحققت بعد سيطرة طويلة للإسلاميين على كل ميادين الثورة، عسكرياً وسياسياً. لكن مفهوم الإسلاميين، كذا، مشوشٌ وغير محددٍ في سياق هذه المقولة، ولا حتى في سياق الثورة ذاته. كما أن المقولة غير قادرة، وحدها، على تفسير الخسارة، وسوف تسقط بوصفها سبباً وحيداً على المستوى الداخلي عند أبسط محاججة.
لا يُعنَى هذا المقال بتحديد مفهوم الإسلاميين1، بل بنقد من يعرّفون أنفسهم بدلالة الإسلاميين وبوصفهم نقيضاً لهم. ويُعنى بدور هؤلاء في الخسارة، لعل ذلك يساعد في فهمٍ أعمقَ للأسباب، ويساعدُ في تحديدٍ أدقَّ لدور الإسلاميين في الخسارة أيضاً.
قد يُوصَف هؤلاء، أو يصفون أنفسهم، بأنهم علمانيون أو يساريون أو مسلمون مؤمنون لكن غير إسلاميين. لذلك فمن الأنسب أن نسميهم هنا «اللاإسلاميين»، كي لا نضطر للخوض في تحديد كل جماعة بعينها، ولأن هذا المقال معنيٌ أولاً بنقد من عرّفوا أنفسهم بدلالة الإسلاميين.
يعيب «اللاإسلاميون» على أنفسهم أنهم هادنوا الإسلاميين، ولم يعلنوا هويتهم بشكل واضح منذ بداية الثورة، ولم يناضلوا في سياق الثورة انطلاقاً من منظوماتهم الفكرية. يقولون إنهم سكتوا عن كثيرٍ من الممارسات التي لم يكونوا راضين عنها، بسبب رغبتهم في عدم تشتيت الجهد الثوري وحرفه عن أهدافه في معارك جانبية. أما اليوم فهم يفضلون لو أنهم خاضوا تلك المعارك منذ البداية، قبل أن تستفحل الحالة ويخطف الإسلاميون الثورة بشكل شبه تام.
يجب عدم التسليم بهذه الوداعة التي يدعيها «اللاإسلاميون»، ونطرحُ السؤال التالي: هل كان لأي أحد، في سياق الثورة أو في أي سياق نضالي في التاريخ، أن يهادن لو كان يمتلك القوة الكافية للمواجهة؟
دخل الجميع خلال الشهور الأولى للثورة في عملية مُكاذَبةٍ مفضوحة، ريثما يتلمّس كل طرف منهم مقدار القوة التي يمتلكها. وحُسِمَت العملية لصالح الإسلاميين مع انتصاف 2012، مع التهليل لقدوم المجاهدين من كل دول العالم «لمساندة الشعب السوري». كان عنوان هذه المكاذبة: مطالبة الجميع بالدولة المدنية. كان كثيرٌ من «اللاإسلاميين» يقصدون بها ضمناً الدولة العلمانية، أما الإسلاميون فكانوا يتهربون من الإجابة على هذا السؤال في البداية رغبةً في الحصول على دعم الرأي العالمي للثورة ضد الأسد. وفي أول مناسبة استطاع الإسلاميون فيها أن يعلنوا عن موقفهم، فسَّرَ الإخوان المسلمون فهمهم للدولة المدنية بأنها دولةٌ لا يحكمها العسكر.
منذ ما قبل الثورة كان الإخوان المسلمون هم الأكثر تنظيماً والأكثر ملاءةً ماليةً بين جميع التيارات التي كانت تعارض نظام الأسد. ومنذ احتلال العراق في 2003 اكتسب التيار السلفي الجهادي قدرات أكبر في التنظيم وحشد المزيد من المقاتلين والمتعاطفين والممولين. في المقابل فشل «اللاإسلاميون» في تنظيم أنفسهم، واكتفوا بقوقعاتهم الصغيرة، وغلب على نشاطهم الثرثرة النخبوية وأحياناً الفعل النخبوي الهزيل، باستثناء العمر القصير لربيع دمشق إبان توريث سوريا للأسد الابن.
من ناحية ثانية، وبالرغم من أن الإسلاميين لم يستطيعوا طرح مشروع بديل حقيقي، فقد استطاعوا استثمار عملية التجهيل الطويلة التي انتهجها النظام خلال عقود، واستثمار البشاعة التي أظهرها النظام في قمع السوريين، لتوسيع القاعدة الشعبية المناصرة لهم، من خلال اللعب على المشاعر الدينية والمظلومية التاريخية، وتزيينها بمشروع إسلامي شكلاني لا يحمل أي عمق واقعي. أما «اللاإسلاميون»، فلا يبدو أنهم استطاعوا حتى اليوم طرح أي مشروع وطني بديل يحقق مصالح جميع السوريين، وفي الوقت نفسه هم الخاسرون في أي معركة تكون فيها الأرضية مناسبة لاستثمار المشاعر الدينية.
هناك شكوك كبيرة في مدى التزام «اللاإسلاميين» بمبادئ الديموقراطية التي يعلنونها خلال الثورات، وذلك أثناء مواجهة الإسلاميين عندما تتاح لهم الفرصة. ففي الحالة المصرية، وفي سياق التصدي لاستفراد الإسلاميين، متمثلين بالإخوان المسلمين، بالحياة السياسية واستخدامهم الديموقراطية كسبيل لفرض إرادتهم ومشروعهم على المصريين، قامت قوى ثورية «لاإسلامية» بالتحالف مع فلول النظام السابق بواجهتهم العسكرية لإقصاء الإسلاميين عن الحكم. بل تحول ذلك إلى استئصالٍ للإسلاميين من السياسة بذريعة مكافحة الإرهاب.
لقد استخدمت تلك القوى الثورية «اللاإسلامية» أساليباً لا ديموقراطية، وحرضت على الإخوان المسلمين، ما أنتج قبولاً لا يستاهن به بمجزرة رابعة العدوية. وقد دفع كثيرون من هؤلاء ثمناً كبيراً لتخليهم عن الديموقراطية والعمل السياسي لأسباب إيديولوجية بوصفهم نقيضاً للإسلاميين، فقد اضطر العديد منهم للهرب خارج مصر، وزُجَّ بكثيرين في السجون، وكُمّت أفواه البقية. غنيٌ عن القول بطبيعة الحال إن هناك قوى ثورية «لاإسلامية» كانت متمسكة بالأساليب الديموقراطية والسياسية لمواجهة احتكار الإسلاميين للسياسة، لكنها بقيت وحدها ضعيفة وما زالت تحاول البحث عن مخارج لانسداد الأفق الحالي في مصر.
أما في الحالة السورية، ورغم أن النظام لم يسقط بعد، وهذا غير وارد في المدى المنظور، ومع انكسار الثورة، فإن هناك مؤشرات قوية على أن أفراداً كثراً من الثوريين «اللاإسلاميين» (لا يصح الحديث عن قوى في الحالة السورية) قد ينحازون إلى النظام، أو إلى قوى أخرى محلية ودولية ذات تأثير سلبي على مسار الثورة، وذلك بهدف مواجهة الإسلاميين. كما كان الأمر عندما وجدوا أنفسهم مضطرين للانحاء والتحالف مع الإسلاميين الجهاديين الصاعدين منتصف عام 2012، من أجل مواجهة نظام الأسد.
غير كافٍ أن تكون القوى نقيضاً للإسلاميين أو للديكتاتورية أو لأي إيديولوجية. فعندما كانت القوى «اللاإسلامية» تعرّفُ نفسها فقط بدلالة نظام الأسد بوصفها مناقضة له، كانت حتى الفصائل المتطرفة حليفة موضوعية بالنسبة لها، ولو على مضض. وكذلك الأمر اليوم ولكن بشكل معكوس، فإن عرّفت تلك القوى نفسها فقط بدلالة الإسلاميين، وهذا ما يبدو عليه الأمر حتى الآن، فإنها قد تجد في «اللاإسلاميين» من الأسديين حلفاء موضوعيين لها، ولو على مضض. هذا يجعلها حليفاً موضوعياً لمشاريع ديكتاتوريات جديدة أو لفلول الديكتاتورية السابقة، وبالتالي قد يؤدي هذا وفق الاحتمال الأرجح إلى إعادة إنتاج الديكتاتورية بصورة جديدة على أنقاض الثورة. ذلك لأن رؤية هذه القوى لنفسها قائمة على نفي طرف آخر، أكثر من كونها قائمة على بناء منظومات بديلة لمنظومات استئصالية وظالمة وعدمية.
تالياً، ليس من خيار أمام الأفراد السوريين الذي يعرفون أنفسهم بـ «اللاإسلاميين» إلا أن يتحولوا إلى قوى سياسية ثورية، تكفُّ عن تعريف نفسها بدلالة طرفٍ آخر بوصفها نفياً له. وتعمل على تعريف نفسها بدلالة مطالبها السياسية التي ترى أنها تحقق مصالحها، وأن تكون شريكة مع بقية القوى الأخرى في بناء مشروع وطني يستوعب الجميع دون إقصاء أحد.
ومن أجل بناء هذا المشروع الوطني، فإن فهم دور الإسلاميين في الخسارة، وأدوار النظام وحلفائه، وأدوار الدول الكبرى في العالم، وأدوار «اللاإسلاميين»، أمرٌ لا بد منه أيضاً لعدم الوقوع في فخ جلد الذات. فجلد الذات شأنه شأن إلقاء اللوم على الآخرين، لا يخرج عن كونه نقداً شكلانياً أشبه بالطقوس التطهرية، ولا طائل منه سوى مزيدٍ من الخسائر.
يجب على عملية النقد أن تتفحص كافة العوامل التاريخية والظرفية وأدوار الأطراف في خسارة جولتنا هذه من معركتنا من أجل تحرير الإنسان السوري.
حسين غرير
مدوّن سوري. يكتب عن السياسة والمجتمع وحقوق الإنسان.
موقع الجمهورية