صفحات الرأي

نقض للتسوية بين العمل ورأس المال المبرمة بعد الحرب العالمية الثانية/ فولفغانغ ستريك

 

 

لا يزال منطق التراكم الرأسمالي، وتوهم «اليد الخفية» التي تفسره وتسوغه، قائماً وسارياً. والسؤال الذي طرحه بعض مفكري القرن التاسع عشر البارزين عن استفادة طبقة المالكين من الرأسمالية أم استفادة الجميع، لا يزال بدوره راهناً. وما لم ينتبه الذين توقعوا انهيار الرأسمالية له هو تمكن الدولة الديموقراطية، بعض الوقت، من توزيع أرباح النظام توزيعاً أكثر مساواة من المتوسط الغالب والسائر. وكان ذلك ثمرة مساومة أو تسوية بين العمل ورأس المال أقرت في 1945، غداة الحرب العالمية الثانية، وأدت إلى ولادة دولة الرعاية، وعرفت في ما بعد بالنهج الكينزي (نسبة إلى جون ماينير كينز). وعلى هذا يجوز القول إن الذين توقعوا انهيار الرأسمالية، وأولهم كارل ماركس، لم يتوقعوا كينز وسياسة الإنفاق العام التي دعا إليها ونشأت دولة الرعاية عنها.

فغداة الحرب الثانية، وطوال ثلاثة عقود، اضطلعت الدول المتقدمة الغربية بسياسة مستمدة من أفكار كينز، وأملت إجراءات ضبطت الرأسمالية ونظمتها. فانتهجت تخطيطاً رمى إلى ضمان النمو، وتقليص البطالة إلى حد أدنى، وإلى توزيع الأرباح على نحو يراعي بعض المساواة، وتوفير حماية اجتماعية تخفف وقع السوق ومفاجآته غير المحسوبة. وحمل هذا عدداً من المراقبين والمحللين على تشخيص تناغم وشيك بين الرأسمالية والشيوعية يؤدي إلى التقائهما وربما إلى اندماجهما في نظام مشترك! وفي ضوء مساومة 1945 بين رأس المال والعمل، يبدو تاريخ الرأسمالية في العقد الثامن من القرن العشرين تمرداً على قيود العقد السابق، وخروجاً على الإجراءات التنظيمية التي اضطر رأس المال إلى القبول بها قسراً.

وفي عقد 1970 بلغت قوة الدولة الاجتماعية أوجها، وتقهقرت قوة رأس المال إلى حضيضها. وكانت موجة إضرابات 1968-1969 العالمية قرينة صارخة على ميزان القوى هذا، والواقعة التي دعت إلى رد رأس المال المرتعد خوفاً ورعباً. فهو رأى في هذه الإضرابات قرينة على افتقار اليد العاملة المأجورة إلى الإمساك والاعتدال، ودليلاً على طمعها في دلال دولة الرعاية وخدماتها. ومذ ذاك وضع رأس المال نصب سياسته هدفاً واضحاً هو إبطال العقد الاجتماعي الساري والعودة عنه. وتوسلت الرأسمالية إلى بلوغ هدفها بموجة العولمة التي خطت في السبعينات المنصرمة خطواتها الأولى. فحدود الدول الوطنية التي قيدت الرأسمالية، وأتاحت مراقبتها عن كثب، أخذت شيئاً فشيئاً في التلاشي، وذلك تحت وقع حراك الرساميل، والمعاهدات التجارية وابتكاراتها.

فغداة الحرب الثانية، صنعت أحواض السفن أسطولاً من ناقلات الحاويات الضخمة. ووسع الناقلات القيام بما لم تتخيل من قبل: نقل السيارات اليابانية إلى أسواق أوروبا وضفتي المحيط الأطلسي. وكان مارك وإنغلز وصفا في «بيانهما» (1848) إنجاز السوق العالمية وبلوغها أوجها، إلا أن السوق العالمية لم تكن ناجزة يومها. وافتقر إنجازها إلى الوسائل الضرورية. وبذل رأس المال وسعه في رعاية تدويل الاقتصاد، وفتح أبواب الأسواق الواسعة على مصراعيها في وجه الشركات الكبيرة، وتمكينها من نقل تبعيتها للضريبة إلى بلدان متسامحة. فعمدت الشركات الكبيرة إلى تنقيل مصانعها ومكاتبها إلى بلدان تقنع بضرائب قليلة، أو إلى التهديد بنقلها، وشراء بقائها لقاء تخفيض الضرائب عليها في بلدان المنشأ.

فكان التهرب الضريبي هو الشكل الذي تصورت به ثورة رأس المال على «تضخم مطاليب» العاملين المأجورين. وزعم رأس المال أن «تضخم المطاليب»، إذا صح حصوله، ينبغي أن ينسب إلى الطبقات العليا والثرية، وهي لم تنفك تلح في تقليص العوائد الضريبية بينما بلغت أجورها وريوع ممتلكاتها الموروثة ذرى هائلة، وأصاب الركود أجورَ العاملين والتقديمات الاجتماعية العامة، أو انهارت انهياراً مريعاً إلى أسفل السلم الاجتماعي. ويلاحظ أن العجز البنيوي الذي تشكو منه الدول المتقدمة ليس مصدره تعاظم النفقات أو انتفاخها، بل انكماش العوائد، أي تقلص الضرائب على رأس المال.

وتصوير الأمر في صورة عودة إلى الحال التي سبقت عقد دولة الرعاية في 1945، أو إلى رأسمالية القرن التاسع عشر، خطأ يجافي الوقائع. فليس في وسع رأس المال إلغاء مكتسبات العقد، وليس في مصلحته إذكاء النزاعات والاضطرابات الاجتماعية. فتملص من قيود توزيع الأجور، في السبعينات، من طريق «وصفة» التضخم. واضطرت الدول في البلدان المتقدمة إلى تعويض نقص الجبايات الرأسمالية بواسطة طباعة العملة. وهذا حل موقت وعابر. فحلت الاستدانة العامة محل التضخم. ومنذ نهاية السبعينات اضطرت الدول إلى الاقتراض بدلاً من اقتطاع الضرائب، واستعملت المديونية في سبيل المحافظة على مستوى خدمات الرعاية التي تتولى إسداءها وتمويلها. وفي تسعينات القرن العشرين انصرف همّ الدول إلى ثقل الدين العام وتعاظم خدمته على الموازنات. وعالجت الأمر بتخفيض النفقات، وضغط التقديمات الاجتماعية، ما اضطر العاملين إلى الاقتراض الخاص أو الفردي. و «اقترح» النظام الاقتصادي على الأسر، أي على الأشخاص، تعويض ما لحق بهم من خسارة أصابت قوتهم الشرائية بواسطة الاستدانة الميسرة، والقروض السريعة والمحررة من الضمانات. وقادنا هذا إلى كارثة 2008، وانهيار النظام المصرفي بعد أزمة القروض العالية المخاطر على الابنية.

واستنكفت الدول عن إلزام الشركات الرأسمالية الكبيرة بتسديد الضرائب التي عليها أداؤها للمحافظة على مستوى النفقات الاجتماعية السابق، خشية مبادرة الشركات إلى الإضراب عن الاستثمار. ففي وسع رأس المال اللجوء إلى التهديد: إذا لم تستجب شروطي سأستثمر في بلد آخر. ومن ناحية أخرى، ينبغي ألا يستهان بجاذبية الرأسمالية الاستهلاكية المعاصرة، وإتاحتها استهلاك عدد لا يحصى من السلع المتنوعة. ولكن ما يؤاتي مصلحة المستهلك لا يؤاتي بالضرورة مصلحة العامل الذي يتقاضى أجراً… ونحن قد نشتري سلعاً تتفاوت أسعارها غلاءً أو رخصاً، ولكننا نخسر وظائفنا، ولن يكون في وسعنا، على مدى بعيد، شراء شيء. وهذا تناقض بين احتياجات المستهلكين وبين احتياجات العاملين قد لا يدركه الأفراد على الدوام.

ولا شك في أن جزءاً من انتصار الرأسمالية اليوم يعود إلى إحياء مكانة العمل المأجور وتجدد روائه. فالنشوة الاستهلاكية التي غلبت في العقود الأربعة المنصرمة كانت السبب في تقوية الحاجة إلى دخل ثابت. والعاملون المأجورون لم يقتصروا على الرضى بتبعيتهم لأجرهم بل تباهوا بهذه التبعية وعدوها مصدر فخر. وتوافد النساء على العمل المأجور، منذ أعوام 1970، اضطلع بدور حاسم في إعلاء مكانة العمل والأجر. فهن حملن الانخراط في العمل على تحرر حقيقي من الأعمال المنزلية، وبدت هذه لهن شبه العبودية. ودعتهن مزاولة مهنة إلى عقد تحالف مع أصحاب العمل ومماشاتهم في تحرير سوق العمل من قيود القوانين والحقوق والعقود. ووسع أصحاب العمل مذ ذاك مواجهة العمال الذكور بعاملات منافسات وأقل شروطاً من أقرانهن.

ويبرز تاريخ انخراط العاملات في سوق العمل التباس الرأسمالية. فمن ناحية، يبدو هذا الانخراط نتيجة رغبة أصحاب العمل في تخفيض الأجور، ومن مترتبات تردي دولة الرعاية واضطراره الأسر إلى تحصيل دخل ثان. ولكنه، من ناحية أخرى، وعلى القدر نفسه من الإقناع، ثمرة تحرر النساء من تسلط الرجال وقيود الزواج. ومن المفارقة أن يؤدي التحرر الذي تعد به الرأسمالية إلى إضعاف الديموقراطية. ويزعم علم الاقتصاد الرائج أن منطق السوق وحده يحتكم إلى العقلانية، على خلاف الحياة السياسية التي تلزم أهلها وأصحابها المنتخبين بمسايرة رغبات الناخبين، وتبديد الموارد. وهذا يخالف الوقائع الثابتة: فتعقب مسار الإجراءات التي أدت في 2008 إلى انفجار أفدح أزمة مديونية منذ الحرب الثانية يظهر على نحو جلي أن تعاظم المطاليب الديموقراطية لم يضطلع بأي دور في الأزمة، فهي ثمرة ابتزاز المصارف التي ألفت نفسها في حال حرجة، وأقنعت الدول بأنها «أكبر من أن تفلس» ودعتها إلى تمويلها وإنقاذها لتعود إلى سيرتها السابقة.

* أستاذ شرف في معهد ماكس بلانك بكولون الألمانية، عن «بوكس» الفرنسية، 1-2/2017، إعداد منال نحاس.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى