صفحات سوريةغازي دحمان

نهاية مشرق معذّب/ غازي دحمان

 

 

لم تعد العملية السلمية الخاصة بسورية موضع اهتمام القوى الكبرى الراعية لها، فقد أوضح مؤتمر فيينا هذه الحقيقة. لكن، في المقابل، استمرت عمليات التنسيق والتواصل بين هذه الأطراف، ما يعني أن أولوية الدول الراعية انتقلت إلى موضع آخر، وصناعة عملية مختلفة لسورية والمنطقة كلها.

تؤشر جملة الاستعدادات الجارية، وكذا التسريبات المتناثرة، وكان آخرها ما أشير إلى الصياغة الروسية للدستور السوري، إلى أن الأطراف الدولية في طور درس الفروض والخيارات، ومعرفة مدى إمكانية تفريغها على شكل وقائع جغرافية وديمغرافية، وأطر دستورية وهياكل سياسية قابلة للحياة والاستمرار.

الغريب أن هذا الحراك الدولي تجاه المنطقة لم تتم مقابلته على الجانب العربي سوى بالحدس، وتوقّع أن هناك شيئاً ما يطبخ للمنطقة العربية، والاكتفاء بالقلق والانتظار، بل إن بعض المهتمين في العالم العربي، وخصوصاً في المشرق، أراح نفسه من وجع التفكير بما لا يحب، بالاتكاء على وهم الرهان بأن المنطقة لن تتفكّك، وأن بقاءها موحّدة مصلحة عالمية، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بأن القوى الكبرى أصلاً تحبّذ العالم كياناتٍ كبرى يسهل التعامل معها، ولا تحبذ فوضى الكيانات، وكأن العالم لم يشهد إعادة رسم خرائط كاملة لمناطق وسط أوروبا وجنوب شرقها، وجنوب آسيا وجنوب شرقها. وفي القارة الأفريقية، جنوب الصحراء الكبرى، والاتحاد السوفيتي والدول التي قامت على أنقاضه، وذلك كله في مدىً زمني قصير وقريب من تاريخنا هذا.

لكن، لماذا يتم حصر القوى الدافعة للتفكك بالعنصر الخارجي، والعوامل الجيوسياسية، والتي، على الرغم من أهميتها، لا تشكل سوى محركٍ من ضمن ماكينة المحركات الدافعة إلى لتفكّك في منطقتنا، فالأمر أعمق وأبعد من أسطورة المؤامرة، بقدر ما هو نتاج ديناميات داخلية، ولّدتها أصلاً انحرافات متراكمة لممارسة السياسة في بلادنا على مدار عقود. والواقع أنه لا تستقيم الثورات مع بقاء الأطر الدستورية والهياكل السياسية نفسها على حالها، بعد أن وصلت إلى ذروة عجزها وانعدام فعاليتها.

أثبت الربيع العربي عدم قدرة المنظومات العربية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، على

“تتحمل البنى السلطوية القدر الأكبر من المسؤولية على ما آلت إليه الأمور من تفسخات جغرافية” استقبال (وتنظيم) المتغيرات الحادثة من داخلها ومن خارجها، وأن هذه المنظومات مصممة للعمل ضمن بيئةٍ وشروطٍ معينةٍ وظرف تاريخي محدّد، ما يعني أنها غير صالحة على الدوام بدون إجراء التحديثات المناسبة على أطرها وهياكلها التشغيلية، وهو أمر لم يحصل، بل طالما جرى قمع أي محاولةٍ في هذا الاتجاه، سواء بالسلم أو بالعنف.

على ذلك، تتحمل البنى السلطوية في العالم العربي القدر الأكبر من المسؤولية على ما آلت إليه الأمور من تفسخات جغرافية، وتهتّك في النسائج الاجتماعية، ذلك أنها لم تعمل سوى على مراكمة المشكلات، وتأجيل إيجاد الحلول اللازمة لها، في وقتٍ شهدت أغلب الكيانات العربية انفجاراً سكانياً هائلاً، نتجت عنه زيادة في عدد الشباب، بالتزامن مع تناقص قاعدة الموارد والفرص. وما حصل أن تلك البنى السلطوية رفضت إجراء التكيفات المناسبة للتحوّل إلى كياناتٍ عصريةٍ، تعمل وفق منطق الحوكمة والرشادة في الحكم، وتستخدم الآليات المناسبة لتحقيق ذلك، عبر الديمقراطية التمثيلية الضامنة توسيع قاعدة المشاركة السياسية، والسيطرة على الفساد والهدر اللذيْن كانا المحرك الأول للثورات العربية.

شكّل رفض النخب السلطوية إجراء أي تعديلٍ على سلوكها السياسي، مع استحالة قبول الشعوب التعايش مع المنطق القديم مزيجاً من حالة غير قابلةٍ للاستمرار ولا الاستقرار في الوقت نفسه، وقد وضعت تلك النخب مستقبل المنطقة أمام أحد خيارين، الاستمرار بتسيير الأمور وفق أليات الحكم والعقود الاجتماعية السابقة أو التهديد بتدمير البنية برمتها، مع إعدام البدائل الأخرى. وقد تسلّحت تلك النخب بصمت وخوف جزء من الشرائح الاجتماعية، لإثبات مدى صحة توجهاتها، واعتبار ذلك مؤشراً كافياً على شرعيتها، كما تلطّت خلف الصراعات الجيوسياسية، الإقليمية والدولية، للبرهنة على أن الأزمة في بلادها من صنع الخارج وتدبيره، غير أن استخدام العنف ومحاولة إدامة الأشكال السلطوية الماضية واستمرار الشعوب في البحث عن بدائل سياسية خارج حسابات القوى السلطوية أوجد حالة الأزمة المستفحلة، والتي دفعت قوى الخارج إلى التدخل، بذريعة السيطرة على التداعيات التي تجاوزت مساحة وحدود منشئها، وبالتالي، أصبح هذا الخارج شريكاً في الحل، انطلاقاً من شراكته بالضرر الواقع عليه، نتيجة تفاعلات الأزمة وتعاظم احتمالات الخطر، وتحوّلها إلى مصادر تهديد مؤكدة، وخصوصاً بعد قيام “داعش” بتفجيرات في أوروبا، وتهديده باستهداف مزيد من المناطق.

لم تخف تصريحات مسؤولي الدول الكبرى القناعة باستحالة عودة دول المشرق العربي إلى سابق ما كانت عليه، وأنه لا بد من إهادة هيكلة جديدة للخروج من هذا المأزق، ولن تخرج الهندسة التي تعمل هذه الدول على تصميمها عن تلك القناعة. وتدل كل المؤشرات على أننا ماضون في هذا الاتجاه، كما أن القوى الداعمة له، السلطوية والمتطرفة والخارج، هي صاحبة اليد العليا في الصراع.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى