نهاية نظام إقليميّ
حازم صاغيّة
رسمت حرب تشرين (أكتوبر) 1973، ومن بعدها الحرب اللبنانيّة في 1975، لوحة لنظام المشرق الإقليميّ. واللوحة هذه سريعاً ما عزّزها توقيع مصر معاهدة كامب ديفيد ثمّ انخراط العراق في حرب مدمّرة مع إيران الخمينيّة.
في قلب اللوحة المذكورة قامت مركزيّةٌ سوريّةٌ مستفيدة من الغيابين المصريّ والعراقيّ، وناهضة على ما يشبه الفلسفة التي تحفز على مبدأ تأجيل الحياة الوطنيّة. فما دام أنّ لسوريّة أرضاً محتلّة، وما دام أنّ تحريرها، أكان بالقوّة أم بالسلام، غير وارد، غدا طلب الحياة الوطنيّة في منطقة المشرق أمراً غير «وطنيّ».
طُبّقت هذه الفلسفة على السوريّين أوّلاً وأساساً، بحيث باتت أدنى مطالبة بالحياة العاديّة تتعارض مع متطلّبات اللاحرب واللاسلم الاستراتيجيّة وتهدّد التركيبة الحاكمة التي تحرس المعادلة تلك.
صحيحٌ أنّ المصادرة هذه كانت واقع الحال منذ 1963، تاريخ وصول البعث إلى السلطة في دمشق، بيد أنّ الخطّ الجيوبوليتيكيّ كان الأكفأ في تطبيقها، قياساً بالخطّ الإيديولوجيّ الذي أطاحه حافظ الأسد في 1970، ثمّ كرّسه، بُعيد حرب تشرين، بـ «عبادة الشخصيّة» التي غدت عنصراً تكوينيّاً من عناصر النظام.
لقد ترتّب على ذلك تأميم الحياة الوطنيّة في منطقة المشرق. ففلسطينيّاً بات المطلوب تجميد القضيّة وإحكام ربطها باستراتيجيّة اللاحرب واللاسلم السوريّة. ولم تنجُ منظّمة التحرير الفلسطينيّة من هذا الأسر إلاّ بانتقالها إلى تونس على أثر اجتياح 1982 الاسرائيليّ. لكنْ، مع هذا، وعلى ما دلّت حربا طرابلس والمخيّمات، وشقّ منظّمة التحرير، ظلّ مطلوباً إبقاء فلسطينيّي المشرق في ذاك الأسر الخانق.
أمّا لبنانيّاً، ومنذ حروب بيروت والضاحية والجبل ضدّ الحكم المركزيّ في عهد أمين الجميّل، فلم يعد ثمّة أمل بقيام سلطة ركزيّة. ومن هذا الرحم ولد «حزب الله» وتمّ تعظيم حجمه بحيث غدا أقوى من الدولة ومن جيشها، فيما أمّن التحالف مع إيران الحضن الدافئ للحزب ولدمشق في آن معاً.
هكذا ارتسمت معادلة لبنانيّة تقول: عليكم القبول بتجميد الحياة الوطنيّة والعيش، إلى ما شاء الله، في ظلّ «تسوية» تشلّ إمكانيّة الدولة الواحدة. فحينما أريد قلب المعادلة هذه في 2005، على أثر اغتيال رفيق الحريري، جنّ جنون النظام السوريّ وأتباعه واستُقدمت الحرب الاسرائيليّة لقمع الارتداد نحو الداخل الوطنيّ والتركيز على مسائله.
في موازاة هذه السيرورة، استكمل الاستراتيجيّ والجيوبوليتيكيّ طغيانهما على السياسيّ والمجتمعيّ، من دون أن يتحقّق أيّ إنجاز ملموس استراتيجيّ وجيوبوليتيكيّ، ما خلا نفخ «انتصارات حزب الله وحماس». فـ «المقاومة» ارتقت إلى سويّة الجوهر بذاته وإلى معطى قدريّ لا نهاية له، لا في حلّ سياسيّ ولا في التاريخ عموماً.
وفي هذه الغضون تغذّت تلك العمليّة على المصير الذي آل إليه العراق، كما على امتناع التسوية الفلسطينيّة – الاسرائيليّة وانفصال غزّة العمليّ عن الضفّة الغربيّة. هكذا تكاملت عناصر الحكمة الجديدة ونظامها: إمّا المقاومة، التي تستأنف تعطيل الحياة الوطنيّة، أو الطريق المسدود.
الآن ينكسر التجميد، تجميد عمليّة الالتفات إلى الحياة الوطنيّة، وربّما بناء الدول الوطنيّة. فانكسار الوضع السوريّ الناشئ في السبعينات مؤهّل أن يجعل الأمور تتحرّك على إيقاع طبيعيّ، أي على إيقاع العالم، بعدما بدت حركات الممانعة ودولها أشبه بقوى خارجة على كلّ قانون.
هذا واقع ينكسر أمام أعيننا. لكنْ ما الذي سينكسر أيضاً؟
الحياة