صفحات العالم

هل يمكن تقسيم سوريا؟


د. وحيد عبد المجيد

أصبح الحديث عن تقسيم سوريا وإقامة دولة علوية، إذا أيقن نظام بشار الأسد باستحالة استعادة سيطرته على البلاد كاملة، رائجاً في أوساط سياسية وإعلامية عربية ودولية كما لو أنه احتمال راجح. وبين هذا الحديث، وكلام آخر يناقضه ويجزم بعدم إمكان التقسيم تحت أي ظرف، يبدو السؤال عن مستقبل سوريا تائهاً بين تصورين مختلفين ومتعارضين يرى أنصار كل منهما أنه الأكثر صواباً.

ويرتبط هذا السؤال، جغرافياً، بوجود تركز نسبي للطائفة العلوية التي يستند عليها النظام في منطقة الساحل والجبال (جبال العلويين الممتدة من عكار جنوباً إلى طوروس شمالاً) حيث مدن اللاذقية وطرطوس والأرياف والجبال المتاخمة لها، فضلاً عن وجود أعداد كبيرة من هذه الطائفة في ريف حمص وحماة.

كما يقترن السؤال، تاريخياً، بالظلم الذي تعرض له العلويون في مرحلة الحكم العثماني ومحاولة فرنسا إقامة كيان لهم في بداية الانتداب على سوريا عندما منحتهم حكماً ذاتياً عام 1923. لكن للتاريخ أوجهاً عدة في هذه الحالة، كما في كثير من الحالات. فالتاريخ يُنظر إليه عادة من أكثر من زاوية، ويُقرأ ومن ثم يُكتب بأكثر من منهج. والحال أن العلويين لم يكونوا استثناء في الظلم الذي أصابهم تحت الحكم العثماني، لكن نصيبهم من ذلك الظلم الذي طال الجميع تقريباً كان أكبرَ، وارتبط بتهميش استثنائي، ربما لأنهم الأقلية الوحيدة التي لم تحظ بحماية خارجية.

غير أنه إذا كان عدم تمتعهم بأية حماية من دولة أجنبية كبرى جعلهم أكثر تعرضاً للظلم، فقد دفعَ تياراً رئيسياً في أوساطهم إلى تفضيل الاندماج في الكيان السوري ورفضِ النزعةِ الاستقلالية التي حاول الانتداب الفرنسي خلقها لديهم عبر إقامة “حكومة اللاذقية” التي عُرفت باسم “دولة العلويين” عام 1923. ويختلف المؤرخون في دلالة تلك التجربة التاريخية، إذ يعتبرها بعضهم مؤشراً على وجود أساس لدولة علوية بينما يرى آخرون أن قصر الفترة التي استغرقتها (من 1923 إلى 1936) يمكن أن يكون دليلاً على فشلها واضطرار فرنسا للتراجع عنها تحت ضغط التيار الوحدوي في هذه المنطقة. وقد لقي ذلك التيار دعماً قوياً من الرأسمالية الوطنية الناشئة حينئذ في دمشق وحلب والتي كان بعض أقطابها من العلويين.

ويعني ذلك أن التاريخ لا يقدم إجابةً حاسمةً على السؤال عن إمكان إقامة دولة علوية. وقل مثل ذلك عن واقع سوريا اليوم، حيث تختلف التقديرات بشأن قابلية هذا البلد للتقسيم وحول مدى توفّر الشروط الأساسية اللازمة لاستقلال المنطقة المرشحة لأن تكون دولة علوية. فهناك اتجاهان مختلفان، لكل منهما أسانيده. ويستند الاتجاه الذي يرجح إمكان إقامة دولة علوية يتمترس فيها أركان نظام الأسد على ثلاث ركائز أساسية، أولاها وجود أغلبية علوية في منطقة الساحل والجبال على نحو يجعلها ملاذاً لأبناء الطائفة الذين سيفرّون من باقي أنحاء سوريا خوفاً من الانتقام في حال سقوط دمشق بيد “الجيش الحر”. والمتوقع، من وجهة النظر هذه، أن يتفاقم تأثير “فزاّعة” الانتقام التي يستخدمها النظام السوري منذ بداية الانتفاضة لضمان ولاء العلويين له.

وثمة ركيزة ثانية للاتجاه الذي يتوقع إمكان تقسيم سوريا، وهي أن المنطقة المرشحة لإقامة دولة علوية ليست جدباء اقتصادياً، بل ثرية زراعياً وقابلة للتطور صناعياً ومفتوحة على العالم عبر مرافئ كبيرة، ومن ثم فهي تمثل قاعدةً معقولةً لمشروع الدولة، خصوصاً في ظل امتلاك أركان النظام الحالي أموالاً طائلةً تكفي للصمود إلى أن يتم إكمال مقومات هذا المشروع، فضلاً عن الدعم القوي الذي يمكن أن تلقاه من روسيا وقاعدتها العسكرية التي ستكون ضمن “حدود” الدولة الجديدة.

وترتبط الركيزة الثالثة التي يقوم عليها سيناريو الدولة العلوية بإمكان حدوث توافق دولي عليه، تكون روسيا طرفاً رئيسياً فيه إذا استحال التوصل إلى حل سياسي أو عسكري للأزمة. فيذهب بعض من يرون الدولة العلوية ممكنةً إلى أن تقسيم سوريا قد يصبح هو “أفضل الممكن” أو “أقل الخيارات سوءاً” إذا تُركت الأزمة لتفاعلاتها الداخلية التي لا يمكن أن تنتج حلاً آخر. وعندئذ يصير هذا التقسيم هو السبيل الوحيد لحقن الدماء المتدفقة بغزارة ولوقف سيولة العنف في إطار “حدود طائفية” قد تجد لها شرعية نتيجة الإنهاك الذي سيصيب الجميع ذات يوم.

غير أن الاتجاه الثاني الذي يستبعد احتمال تقسيم سوريا ويؤكد انعدام أساس لقيام دولة علوية، يستند بدوره على ركائز لا تقل قوةً، بل ربما تزيد إذا أخرجنا احتمال التوافق الدولي على تقسيم اضطراري من دائرة التحليل، لأن هذا الاحتمال هو السند الأقوى لسيناريو التقسيم وإقامة دولة علوية.

ولعل أهم ما يستند عليه الاتجاه الذي يستبعد سيناريو التقسيم هو هشاشة الوضع الاقتصادي في المنطقة المرشحة لإقامة دولة علوية فيها، فقد تراجع النشاط الاقتصادي الرئيسي، وهو الزراعة، نتيجة رداءة السياسات الزراعية في العقدين الأخيرين وارتفاع مستوى التلوث الذي أضر بمساحات هائلة من كروم الزيتون ودفع آلاف الزراعيين إلى سوق العمل اليدوي ضعيف المردود في المدن. ولا توجد في الوقت نفسه صناعة يمكن الاعتماد عليها. فباستثناء معمل أسمنت طرطوس ومحطة بانياس الحرارية، ليست هناك مشاريع صناعية كبيرة أو متوسطة.

كما يجادل المعترضون على سيناريو التقسيم بأن الحديث عن تجانس التكوين الطائفي في هذه المنطقة مبالغ فيه، فطرطوس هي المدينة الوحيدة التي توجد فيها أغلبية علوية، لكنها لا تتجاوز 60 في المائة مقابل 30 للسنة و10 في المئة للمسيحيين. كما أن الأغلبية العلوية في الأرياف والجبال تتخللها أقليات متفاوتة من المسيحيين والسُنة والإسماعيليين.

كما يستند استبعاد سيناريو التقسيم على اعتقاد قوي بأن معظم العلويين في مدن الساحل وأريافه وجباله لن يقبلوه رغم “فزاّعة الانتقام”. فلا مصلحة لهم في أن يظلوا أسرى حكم أفقرهم إذا اطمأنوا إلى أن تغييره لن يمثل تهديداً لهم. وفضلاً عن تاريخ الاندماج العلوي في الكيان السوري، لم يستفد معظم العلويين شيئاً من نظام الأسد الأب والابن.

وهكذا تفيد المقارنة بين حجج من يرجحون سيناريو التقسيم ومن يستبعدونه بأن العامل الدولي الإقليمي قد يكون هو العامل المُرجح، لأن المقومات الداخلية لهذا السيناريو تبدو ضعيفة ولا تكفي لحمل مشروع إقامة دولة طائفية بدون توافق بين القوى الأساسية في المنطقة والعالم على أنه لا سبيل آخر لوقف مسلسل العنف وحمامات الدم.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى