“نيويورك تايمز” تنشر آلاف الوثائق التي تفسرّ صمود “داعش” في الموصل
لقد اكتشفنا آلاف الوثائق الداخلية التي تساعد على تفسير أسباب تمكّن نظام الدولة الإسلامية من البقاء في السلطة لفترة طويلة، فخلال خمس رحلاتٍ إلى العراق الممزق بآثار الحرب، قام صحافيون يعملون في “نيويورك تايمز” بتمشيط مكاتب تنظيم الدولة الإسلامية القديمة، ما مكّنهم من جمع آلاف الملفات التي هجرها المسلحون مع انهيار “خلافتهم”.
فبعد أسابيع من سيطرة المسلحين على المدينة، وبينما كان المقاتلون يجوبون الشوارع والمتطرفون المتدينون يدبّجون القوانين الجديدة، صدر أمرٌ إلى سكان المدينة، بلغهم صداه من طريق مكبرات الصوت المنطلقة من صوامع المساجد المحلية. وحث صوت المتحدث المنطلق من مكبرات الصوت، الموظفين العموميين، على تقديم تقاريرهم إلى مكاتبهم السابقة.
وللتأكد من بلوغ الرسالة إلى كل موظف حكومي، اتبع المسلحون هذا النداء بإجراء مكالمات هاتفية مع المشرفين في شتى القطاعات، وعندما حاول أحد الموظفين التنصل من المهمة، متحجّجاً بإصابته في الظهر، قيل له، “إذا لم تأتِ مثلما هو مطلوبٌ منك، سنأتي إليك ونكسر ظهرك بأنفسنا”.
كان محمد ناصر حمود، أحد العاملين القدامى في مديرية الزراعة العراقية لمدة 19 سنة، محصناً خلف بوابة منزله المغلقة، حيث كان مختبئاً مع عائلته، عندما وصلته مكالمة هاتفية أثارت الرعب في نفسه، لكنه لم يعرف ما العمل وكيف عليه أن يتصرف، فلم يجد بداً من أن يتوجه، هو وزملاؤه من جديد نحو مجمع مكاتبهم المؤلف من ستة طبقات، المزين بملصقات هجن البذور.عندما وصلوا عين المكان، وجدوا كراسي مرتبة في صفوف منتظمة، كما لو كانت معدة لإلقاء محاضرة.
دخل القائد إلى القاعة بخطوات ثابتة، فجلس يواجه الحضور في الغرفة، تاركاً ساقيه منفصلتين عن بعضهما، ليبدو من خلالهما أمام الجميع، المسدس المثبت إلى فخذه. وللحظة، لم تكن تسمع سوى أصوات الصلوات المتعجلة للموظفين العموميين وهم يغمغمون بصعوبة.لكن مخاوفهم لم تكن في محلها، فعلى رغم نبرة القائد التهديدية، إلا أن طلبه إليهم كان معتدلاً على نحو مفاجئ، إذ توجهإليهم بالقول “استأنفوا عملكم فوراً”. مضيفاً، “ستوضعُ ورقة توقيع الدخول عند مدخل كل قسم، وكل من يتغيب عن الحضور سيعاقب”. وعُقدت اجتماعات كهذه في جميع أنحاء الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية عام 2014. وسرعان ما عمد موظفو البلدية إلى إصلاح الحفر المتناثرة في الشوارع، ووضع طلاء ممرات المشاة، وإصلاح خطوط الكهرباء والإشراف على كشوف المرتبات.
قال السيد حمود، “لم يكن أمامنا خيارٌ سوى العودة إلى العمل، كنا نقوم بالعمل ذاته الذي قمنا به من قبل، إلا أننا الآن نخدم جماعةً إرهابيةً”.
أسس المقاتلون الذين أتوا من الصحراء بمظهرهم الأشعث، منذ أكثر من ثلاث سنوات، دولة لم يعترف بها أحد سواهم، وعلى رغم ذلك، سيطر تنظيم الدولة الإسلامية على مدى ما يقرب من ثلاث سنواتٍ، على جزءٍ من الأرض، وصلت مساحتها في وقت من الأوقات مساحة بريطانيا، ويقدر عدد سكانها بحوالى 12 مليون نسمة. وفي ذروة تحكّمها، شملت الأراضي التي سيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية، خطاً طوله 100 ميل في ليبيا، وقسماً من غابات نيجيريا التي تحكمها الفوضى العارمة، ومدينة في الفليبين، فضلاً عن مستوطنات في 13 بلداً آخر على الأقل. وكانت مدينة الموصل أكبر مدينة تحت حكمهم.
إلى أي مدى انتشر نفوذ “داعش” في أنحاء العراق وسوريا وما هي المناطق التي لا يزال يتحكم فيها؟
منذ إعلان الخلافة عام 2014، سيطر تنظيم الدولة الإسلامية على مساحاتٍ واسعةٍ من الأراضي في العراق وسوريا، لكن بعد انسحاب المجموعة من الموصل والرقة عام 2017، فقدت تقريباً جميع أراضيها. فقد التنظيم الآن تقريباً كل تلك الأراضي التي كان يسيطر عليها، غير أن ما تركه المسلحون خلفهم، يساعد على تقديم الإجابة عن السؤال المقلق حول سر طول مكوثهم وتحكمهم: كيف تمكنت مجموعةٌ، تسببت مشاهد أعمالها الوحشية في حشد العالم ضدها، في السيطرة على كل تلك الأراضي ولفترة طويلة؟
يمكن العثور على جزءٍ من الإجابة عن هذا السؤال في أكثر من 15000 صفحة من الوثائق الداخلية لتنظيم الدولة الإسلامية، تمكنتُ من جمعها خلال خمس رحلاتٍ إلى العراق على مدار أكثر من عامٍ.
تم سحب الوثائق من أدراج المكاتب التي جلس خلفها يوماً عناصر التنظيم، ومن رفوف مراكز الشرطة الخاصة بهم، ومن طبقات محاكمهم، ومن خزائن معسكراتهم التدريبية، ومن منازل أمرائهم، بما في ذلك هذا السجل، الذي يقدم تفاصيل حبس صبي في الرابعة عشرة من عمره بسبب تسكعه في الشارع أثناء وقت الصلاة.
يخص سجل الاعتقال أدناه، حالة صبي من ضمن ثلاثة أطفال اتهموا بـ:
أ) التهاون والتلكؤ أثناء وقت الصلاة.
ب) ألقي القبض على إبراهيم محمد خليل، البالغ من العمر 14 عاماً، في الثالثة عصراً، في 21 ديسمبر/ كانون الأول عام 2015، من قبل ضابط شرطة “داعش” الذي احتجزه بتهمة “الضحك أثناء الصلاة”.
وقد تمت استعادة دفتر المخالفات في أوائل عام 2017 شمال الموصل في بلدة تل كايف، في منزل حوَله “داعش” إلى مركزٍ للشرطة.
ج) “يطلب منكم نقل السجين المبينة معلوماته أعلاه إلى… وزارة الحسبة، محافظة نينوى، قطاع تل كيف… وذلك بأقصى سرعة ممكنة، مع تسليم جميع التقارير والملاحظات والملفات الخاصة به، إضافة إلى جميع أماناته ومتعلقاته الشخصية، إلى الجهة المنقول إليها”.
د) سبب الاعتقال “نشر الفضيلة ومنع الرذيلة”.
عملت “نيويورك تايمز” مع خبراء خارجيين للتحقق من صحة الوثائق التي عثر عليها، وقضى فريقٌ من الصحافيين 15 شهراً في ترجمتها وتحليلها صفحة تلو الأخرى. تمت معاينة تلك الوثائق، بشكل فردي، كل ورقة من تلك الوثائق تتعلق بحادث روتيني على حدة، من قبيل، نقل ملكية الأرض بين الجيران؛ بيع طن من القمح؛ غرامة مفروضة على لباس غير لائق. لكن إذا نظرنا إليها مجتمعة، فإن ذلك الكنز من الوثائق التي وقعت بين أيدي المحققين، يكشف طريقة العمل الداخلي لنظام حكومي معقدٍ. تُظهر هذه الوثائق، أن المجموعة، ولو لفترة محدودة من الزمن، حققت حلمها، المتمثل في إقامة دولتها الخاصة، دولة دينية تعتبرها خلافة، تعمل وفق تفسيرها الصارم للإسلام.
يعرف العالم الكثير عن وحشية تنظيم الدولة الإسلامية، لكن المتشددين في هذا النظام لم يحكموا بالسيف وحده. لقد استخدموا السلطة من خلال أداتين تكميليتين: الوحشية والبيروقراطية معاً.
بلغ تنظيم الدولة الإسلامية مستوى من الكفاءة الإدارية مكنه من جمع الضرائب والتقاط القمامة. كما أدار مكتب الزواج الذي أشرف على عملية الفحوص الطبية، التي تضمن للأزواج إنجاب الأطفال. وأصدر شهادات ميلاد- مطبوعة على وثائق موقعة باسم الدولة الإسلامية- للأطفال المولودين تحت علم الخلافة الأسود، وقد أدار حتى قسم السيارات D.M.V، الخاصة به. وتُظهر الوثائق والمقابلات التي أجريت مع عشرات الأشخاص الذين عاشوا تحت حكمهم، أن المجموعة قدمت في بعض الأحيان خدمات أفضل وأثبتت كفاءتها، أكثر من الحكومة التي حلت محلها. وأشارت هذه الشهادات أيضاً إلى أن عناصر “داعش” استفادوا من الأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة عام 2003 بعد غزوها العراق، بما في ذلك قرار طرد أعضاء حزب صدام حسين الحاكم من مناصبهم ومنعهم من تولي مناصب عمل في المستقبل. وقد نجح ذلكالمرسوم في محو الدولة البعثية، لكنه أدى أيضاً إلى تدمير المؤسسات المدنية في البلاد، وتسبب في خلق فراغ في السلطة، سارعت جماعات مثل “داعش” إلى ملئه.
وبعد مرور أكثر من عقد بقليل، والاستيلاء على مساحات شاسعة من العراق وسوريا، حاول تنظيم الدولة الإسلامية تطبيق تكتيك مختلف. فقاموا ببناء دولتهم على أنقاض الدولة التي كانت موجودة من قبل، من خلال استيعاب المهارات الإدارية لمئات الكوادر الحكومية، وتكشف عملية فحص الطريقة التي حكمت بها المجموعة، وجود نمط من التعاون بين المسلحين والمدنيين الخاضعين لسيطرتهم.
تتمثل أحد مفاتيح نجاحهم، في مدى تنوع مصادر عائداتهم. استمدت المجموعة دخلها من شتى فروع الاقتصاد، إذ لم تتمكن الضربات الجوية وحدها من القضاء عليها وشل حركتها.
تصف دفاتر الحسابات وكتب الاستلام والميزانيات الشهرية، كيف استطاع مسلحو “داعش” تحويل كل شبر من الأرض التي قاموا بغزوها، إلى سيولة نقدية، من خلال فرض ضرائب على كل بوشل من القمح، وكل لتر من حليب الأغنام، وكل بطيخة تباع في الأسواق التي يسيطرون عليها. وبذلك فقد جنوا من الزراعة وحدها، مئات الملايين من الدولارات. وعلى عكس ما كان شائعاً على نطاقٍ واسعٍ، كانت المجموعة ممولة ذاتياً، ولا تعتمد على مانحين خارجيين. والأكثر غرابة في الأمر، أن الوثائق المتوفرة تقدم دليلاً آخر على أن إيرادات الضرائب التي حصلت عليها الدولة الإسلامية كانت أعلى بكثير من إيرادات مبيعات النفط، وكانت التجارة والزراعة اليومية-وليس النفط- هما اللتين دعمتا اقتصاد الخلافة.
حاول الائتلاف الذي تقوده الولايات المتحدة، سعياً منه إلى طرد تنظيم الدولة الإسلامية من المنطقة، خنق المجموعة من خلال قصف منشآتها النفطية. لكن، من الصعب جداً قصف حقول الشعير. وفي نهاية المطاف لم يتخل تنظيم “داعش” عن الموصل إلا في الصيف الماضي، بعد معركةٍ شديدة الضراوة، قورنت بأسوأ قتالٍ دار أثناء الحرب العالمية الثانية. وحتى مع انهيار دولة “داعش” ومقاتليها في نهاية المطاف، إلا أن مخططها يبقى قائماً ويمكن استخدامه من قبل أطراف أخرى.
يقول فواز جرجس، مؤلف كتاب “تاريخ داعش”، “إننا نرفض تنظيم الدولة الإسلامية لما ارتكبته من وحشية. إنه نظام همجي، ونرفضه لاعتباره همجياً، وهو بالفعل نظام بربري، لكن في الوقت نفسه أدرك هؤلاء الناس الحاجة إلى الحفاظ على المؤسسات”. ويضيف: “إن قدرة الدولة الإسلامية على الحكم هي في الواقع، في مثل خطورة مقاتليها”.
أراضٍ للحيازة
عاد حمود، المسلم السني، بعد يوم من الاجتماع ليجد أن القسم الذي يعمل فيه صار العاملون فيه من السُنّة بنسبة مئة في المائة، وهو المذهب الذي تتبعه الجماعة المسلحة. أما الشيعة والمسيحيون من زملائه الذين شاركوه مكتبه في الماضي، فقد فرّوا جميعاً.
استمر حمود والعاملون الذين أشرف عليهم في قسم الزراعة في العمل لفترة من الزمن بالطريقة ذاتها التي ساروا عليها من قبل. حتى أن المستندات والقرطاسية كانت مثل التي استخدموها من قبل، وإن كانت الإرشادات الآتية من الجماعة تملي عليهم أن يستخدموا قلماً لإخفاء شعار الحكومة العراقية.
مشاركة السجلات: تعمل صحيفة “نيويورك تايمز” من أجل الكشف عن مكنون وثائق “داعش” وجعلها متاحة للجمهور من أجل الباحثين، والأكاديميين، والمسؤولين العراقيين وأي شخص يتطلع للوصول إلى استيعاب أفضل لتنظيم الدولة الإسلامية. لكن الرجال ذوي اللحى الكثة الذين يشرفون الآن على القسم الذي يعمل فيه حمود، توصلوا إلى خطة سيبدأون تفعيلها رويداً رويداً.
حلم الجهاديون منذ أجيال بتأسيس خلافة. إذ تحدث أسامة بن لادن مراراً وتكراراً عنها، كما كان لفروعه تجربة لهذه الخلافة عندما حكمت في صحاري مالي وأراضي اليمن الوعرة وجيوب العراق. كان هدفهم إعادة إحياء المجتمع الذي وُجد منذ أكثر من 1000 عام خلال عهد النبي محمد.
وما كان يحمل اسم “مديرية الزراعة” في الموصل، أُعيدت تسميته ليصبح “ديوان الزراعة”، الذي يمكن ترجمته إلى وزارة الزراعة. إذ يعود مصطلح “ديوان” بالذاكرة إلى فترة حكم القرن السابع التي شهدت حكم واحد من أوائل الخلفاء.
طبع “داعش” ترويسة جديدة أظهرت أنها أعادت تسمية 14 مكتباً إدارياً على أقل تقدير، لتصبح “ديوان”، وشمل ذلك إعادة تسمية مديريات معروفة على شاكلة التعليم والصحة. ثم فتحت دواوين لأشياء لم يسمع عنها الشعب، مثل ما يسمى بـ”الحسبة” التي علموا بعد فترة قصيرة أنها تمثل الشرطة الأخلاقية المخيفة، وديوان آخر مسؤول عن نهب الآثار وسرقتها، بل وديوان آخر مُكرس لـ “الغنائم والفيء”. وما بدأ بتغيير جماليّ في مكتب حمود، تحول بعد فترة قصيرة إلىتحولٍ كلي.
أقالت الجماعة المسلحة جميع الموظفات الإناث إلى الأبد، وأغلقت مركز الرعاية الذي يعمل نهاراً. كما أغلقت القسم القانوني التابع للمكتب، وقالت إن المنازعات سوف يتم التعامل معها بحسب الشرع فقط. كما تخلصت الدولة الإسلامية من أحد المهمات اليومية للقسم- فقد أوقفوا جهازاً يوضع في الخارج لقياس الترسب. وقالوا إن الأمطار نعمة من الله- فمن يكونون هم ليُحصوا نعم الله؟
أُخبر الموظفون أيضاً بأنه لا يمكنهم أن يحلقوا لحاهم بعد الآن، وبأن عليهم التأكد من أن سراويلهم لا تصل إلى كاحل القدم. حددت منشورات براقة، مثل تلك الموجودة في هذه الصورة، النقطة الموجودة على الكعب حيث كان صحابة الرسول يجعلون الثياب لا تتعداها قبل نحو 1400 سنة.
وفي نهاية المطاف، لم يجد حمود البالغ من العمر 57 عاماً، والذي يحافظ على تسريحة شعره ويفتخر بنفسه في هيئته المهنية، بُداً من التوقف عن شراء شفرات الحلاقة. انتزع الرجل السروال الذي يرتديه للعمل وطلب من زوجته أن تقص منه خمسة سنتيمترات. لكن التغيير الأكبر جاء بعد خمسة أشهر من حكم الجماعة، وحول مئات الموظفين، الذين عادوا كرهاً للعمل، إلى الدخول في شراكة مباشرة مع تنظيم الدولة. تضمن التغيير القسم الذي ترأسه حمود، والذي كان مسؤولاً عن تأجير الأراضي المملوكة للحكومة إلىالفلاحين.
أمر المسلحون ديوان الزراعة بتسريع عملية تأجير الأراضي، وتبسيط الطلبات التي كانت تستغرق أسبوعاً لتصبح شيئاً يمكن إنجازه قبل نهاية الظهيرة، وذلك لزيادة الإيرادات.
كانت تلك مجرد البداية.
تلقى الموظفون الحكوميون بعد ذلك خبراً يفيد بأنه ينبغي عليهم أن يبدأوا تأجير الممتلكات التي لم تكن مملوكة للحكومة على الإطلاق. كانت التعليمات مدونة في دليل إرشادي يتكون من 27 صفحة ممهورة بعبارة تقول “خلافة على منهاج النبوة”. لخّص الكتيب خطط الجماعة للاستيلاء على الممتلكات من الجماعات الدينية التي طردتها، واستخدامها لتكون رأس المال الأول للخلافة.
يقول الدليل الإرشادي إن عملية “الاستيلاء” سوف تُطبَّق على ممتلكات كل “شيعي، ومرتد، ومسيحي، ونصيري، ويزيدي، استناداً إلى أمر قضائي يصدر مباشرة من ديوان القضاء والمظالم”.
ينتمي جميع أعضاء تنظيم الدولة الإسلامية إلى المذهب السُنّي حصراً، ويعتقدون أنهم المؤمنون الحقيقيون دون سواهم. صدرت أوامر إلى مكتب حمود لإعداد قائمة شاملة بالممتلكات التي كانت مملوكة لغير السُنَّة، وللاستيلاء عليها من أجل إعادة توزيعها.
لم تتوقف عملية الاستيلاء على أراضي ومنازل العائلات التي طاردوها، إذ كان ديوان بأكمله مؤسساً لجمع الأسرّة والمناضد وأرفف الكتب وإعادة توزيعها، بل وحتى الشوك التي جمعها المسلحون من المنازل التي استولوا عليها. أطلق التنظيم على هذه الإدارة اسم “ديوان الغنائم والفيء”.
كان الديوان يتخذ من مبنى ذات وجهة حجرية مقراً له، ويقع هذا المبنى غرب الموصل التي تعرضت للقصف الجوي خلال معركة استعادة المدينة. استنزفت النيران المتتالية المبنى وتسببت في تفحم جدرانه. لكن الأشكال المتفحمة التي خلّفها القصف لا تزال تروي حكاية ما. كانت كل غرفة في المبنى تؤدي دورها في تخزين الأغراض المنزلية الاعتيادية التي ضمت: غرفة لسخانات تعمل بالكيروسين، وأخرى لمواقد الطبخ، وثالثة لمجموعة من مكيفات الهواء وخزانات المياه.
أوضحت الأوراق القليلة التي لم تتعرض للحرق كيفية توزيع الأغراض التي اسولت عليها الجماعات الدينية التي لاحقوها، كمكافأة لمقاتلي التنظيم.
وجاء في خطاب مكتوب على ترويسة هيئة شؤون الأسرى والشهداء:”يطلب إليكم الموافقة على طلب عائلة الفقيد الأخ دريد صالح خلف”. كان الطلب المُقدَّم من أجل الحصول على موقد وغسالة. وكتبت ملاحظة في نهاية الخطاب تقول: “سوف يتم إمدادهم بشاشة (بلازما) وموقد فقط”.
كما تقدمت استمارة أخرى من هيئة الاتصالات العامة بطلب شماعات ملابس، إضافةً إلى أشياء أخرى.
في يناير/ كانون الثاني، تقدمت هيئة الاتصالات العامة التابعة لـ “داعش” باستمارة طلب مقدمة إلى ديوان الغنائم والحرب. وحصلت الهيئة على 16 نوعاً من الأغراض المنزلية. استُعيدت هذه الوثيقة بعد العثور عليها داخل مبنى تعرض للقصف في غرب الموصل التي ضمت مقار ديوان الغنائم والفي. وقد صاحب الرسالة شكر حار يقول: “نحن ممتنون لتعاونكم معنا، سائلين الله تعالى أن يرفع درجاتكم ويمنحكم السداد والتوفيق لخدمة الإسلام والمسلمين”، (لم تظهر هذه العبارة في الصورة المعروضة في التقرير).
تُدرَج في الجدول الأغراض التي أرادتها هيئة الاتصالات العامة، بما في ذلك كراسٍ ثماني، وخمس ستائر، وشماعة ملابس. تحمل كل هيئة أو ديوان خاتمه الخاص الذي يُظهر اسم الديوان أو الهيئة وأحياناً اسم المسؤول.
يمكن إلقاء نظرة عن كثب على الوثائق عبر هذا الرابط.
كان تعهد تنظيم الدولة برعاية مواطنيه، بما في ذلك الإسكان المجاني للمقاتلين الأجانب، أحد الأشياء التي جذبتهم إلى دولة الخلافة. فقد كتبت شابة فرنسية، تدعى كاهنة الهدرة، انضمت إلى التنظيم عام 2015 رسالة بريد إلكتروني في ذلك العام وأرسلتها إلى معلمتها في المرحلة الثانوية، قالت فيها: “إنني في الموصل، والأحوال هنا هي الأفضل حقاً”، وذلك وفقاً لنسخة طبق الأصل كانت موجودة في تقرير لوحدة الجرائم في باريس وحصلت عليها “التايمز”. واصلت الهدرة بحماسة في رسالتها: “لدي هنا شقة تحتوي على جميع أنواع الأثاث. ولا أدفع أي إيجار أو (فواتير) كهرباء أو ماء. إنها حياة جيدة! لم أبتَع حتى شوكة واحدة”. وعندما ردت عليها معلمتها القلقة وقالت إن الشقة ربما تكون مسروقة من عائلة أخرى، صعقتها برد قالت فيه: “إنهم يستحقون ذلك، الشيعة السفلة”.
تشير السجلات الشرطية إلى أن الهدرة كانت حبلى من أحد الانتحاريين الذين فجروا أنفسهم في مسرح “باتاكلان” خلال هجمات باريس التي وقعت في 2015.
السجلات الورقية
صارت لدي عادة التفتيش بين أكوام القمامة التي خلّفها الإرهابيون في 2013، عندما كنت أغطي موضوعات القاعدة في مالي. أشار السكان المحليون إلى الأبنية التي احتلتها المجموعة في صحراء تمبكتو. وأسفل قطع الأثاث المقلوبة وخزائن الملفات المهجورة، وجدت خطابات حملها المسلحون بأيديهم عبر الكثبان الرملية، إذ نطقت هذه الخطابات بالرؤية التي يحملونها للجهاد.
أفصحت هذه الوثائق عن الأعمال الداخلية للقاعدة، ثم أردت بعد أعوام أن أجري تحقيقاً حول تنظيم الدولة الإسلامية بالطريقة ذاتها.
عندما تحركت قوات الائتلاف لاستعادة الموصل من أيدي المسلحين في أواخر عام 2016، هرعت إلى العراق. حاولت لثلاثة أسابيع، وفشلت، في أن أعثر على أي وثائق. وبمرور الأيام، تفاوض فريق العمل الخاص بي لدخول الأبنية التي نُقش عليها شعار تنظيم الدولة الإسلامية، بهدف وحيد يرمي إلى العثور على أدراج مكتبية مفتوحة وأقراص صلبة منتزعة.
وقبل يوم من رحلة عودتي، قابلنا رجلاً يذكر أنه رأى أكواماً من الأوراق داخل مقار المحافظة لديوان الزراعة التابع لتنظيم الدولة الإسلامية في قرية صغيرة تسمى عمر خان، وتبعد 25 ميلاً جنوب المدينة. سافرنا في اليوم التالي إلى القرية، التي لا تمثل أكثر من نقطة صغيرة على خريطة نينوى، ودخلنا المنزل رقم 47.
وجل قلبي عندما دفعنا الباب وهممنا بالدخول لنرى أبواب الخزانات مفتوحة على مصراعيها، ما يدل على أن المكان تم تطهيره بالفعل. بيد أنني توقفت أثناء خروجي عند شيء يشبه مبنى خارجي. وعندما فتحنا الأبواب، رأينا أكواماً من حافظات الأوراق الصفراء تم تجميعها سوياً بإحكام بفتيلٍ وتكديسها على الأرض. سحبنا واحدة منها، وتركناها مفتوحة في الشمس، وكانت تحتوي على الراية السوداء لتنظيم الدولة الإسلامية الذي لا تخطئه عين، وهي الراية التي يزعمون أن النبي نفسه كان يرفعها. وبعد فتح الملفات الواحد تلو الأخرى، إذ وصل عددها الإجمالي إلى 273 حافظة، وجدنا أنها تحدد قطع الأرض التي كانت مملوكة للفلاحين المنتمين إلى عقيدة أو مذهب تحظره الجماعة. احتوى كل غلاف أصفر على طلب مكتوب بخط اليد من سُنّي تقدم به لمصادرة الممتلكات.
كانت هذه الوثيقة واحدة من عقود الإيجار البالغة 273 عقداً للأراضي التي سرقها “داعش” من أبناء المذاهب والطوائف الدينية الأخرى التي لاحقها. وكان تمّ تأجير هذه القطعة البالغة مساحتها 20 دونماً، إلى غانم خلف أحمد مقابل 100,000 دينار، ما يساوي 83 دولاراً تقريباً.
عثر صحافيو “نيويورك تايمز” على عقود الإيجار في قرية عمر خان شمال العراق في ديسمبر/ كانون الأول 2016. بالنظر إلى هذه النسخة، سنجد أن مالكي الأرض التي استُولي عليها كانوا من الشيعة. إذ كُتب بجوار أسمائهم “الحالة”، التي وصفتهم بـ “روافض”، وهو وصف مهين للشيعة. جاء في الشروط الخاصة بالعقد: لا يجوز للمستخدم أن يسلم العقار لغيره كونه ذمة مالية، نظافة العقار والحفاظ عليه، عدم إحداث أي تغيير بالعقار إلا بعد موافقة ديوان الزراعة.
يمكن إلقاء نظرة عن كثب على الوثائق عبر هذا الرابط.
ضمانات القيام بهذا عملية تتم خطوة بخطوة، بدءاً من تقرير من مسّاح الأراضي، الذي يرسم خريطة لقطعة الأرض، ويذكر التضاريس الطبوغرافية ويبحث في ملكية الأراضي والممتلكات. وبمجرد تقرير أن الأرض كانت مملوكة لإحدى الجماعات المستهدفة، يتم تصنيفها باعتبارها ممتلكات للدولة الإسلامية المزعومة. ثم يُصاغ عقد يذكر فيه أن المستأجر لا يمكنه تسليمها إلى غيره أو تغييرها إلا بموافقة الجماعة.
علّمني اكتشاف المبنى الخارجي أن أبقى بعيداً من المسار المألوف. تعلمت قراءة المشهد من أجل الأدلة، بدءاً من كلمة “باقية”، وهي أول كلمة من شعار التنظيم الذي ميز المباني التي احتلتها الجماعة، والتي تستحضر زعمها بأن الدولة الإسلامية المزعومة سوف تصمد.
بمجرد أن تأكدنا من أن المبنى احتلته الجماعة، رفعنا مراتب الأسرّة وسحبنا الألواح الأمامية لها. فتشنا في الخزانات، وفتحنا خزانات المطابخ، وتتبعنا درجات المبنى حتى وصلنا إلى الأسطح، وتفحصنا الأرضيات. وقد علقت في أذهان فريقنا مخاطر الألغام والفخاخ المتفجرة. ووجدنا في “فيلا” مجموعة من السجلات، لكننا استطعنا أن نبحث في مجموعة غرف واحدة بعد أن اكتشفت قوات الأمن قنبلة غير متفجرة. ونظراً إلى أن الأبنية اقتربت من الخطوط الأمامية، كان عناصر قوات الأمن العراقية يصاحبون فريقنا دائماً. إذ كانوا يقودوننا في الطريق ويعطوننا الإذن بالحصول على الوثائق. في هذا الوقت، أصبحت القوات التي ترافقنا ذاتها المصادر التي نعتمد عليها، وشاركونا بدورهم في الأشياء التي عثروا عليها، ليعززوا خبيئتنا بمئات السجلات.
سألت الصحيفة ستة محللين ليفحصوا جزءاً من هذه الكومة، بمن فيهم أيمن جواد التميمي، الذي يُبقي على أرشيفه الخاص من وثائق تنظيم الدولة الإسلامية والذي ألَّف كتاباً تمهيدياً حول كيفية تحديد الوثائق المزيفة؛ ومارا ريفكين، وهي باحثة في “جامعة ييل” كانت زارت الموصل أكثر من مرة لدراسة إدارة الجماعة، إضافة إلى فريق محللين من مركز تابع للأكاديمية العسكرية الأميركية يسمى “مركز مكافحة الإرهاب”، الذين حللوا السجلات الموجودة في مخبأ بن لادن في باكستان. واعتبروا السجلات أصلية، بناءً على العلامات والشعارات والأختام، وكذلك أسماء المكاتب الحكومية. واتسقت المصطلحات والتصميمات مع تلك المستخدمة في الوثائق التي أصدرتها الجماعة في أجزاء أخرى من الخلافة، بما في ذلك مناطق بعيدة مثل ليبيا. ومع ترجمة عقود الإيجار الواحد تلو الآخر في نيويورك، ظل يظهر التوقيع ذاته في أسفل العديد منها: “المشرف الفني الرئيسي، محمود إسماعيل سالم، المشرف على الأرض”.
في رحلتي الأولى إلى العراق مرة أخرى، عرضت عقود الإيجار على ضابط شرطة محلي. وتعرف إلى التوقيع الزاوي وعرض علي مرافقتي إلى منزل البيروقراطي التابع لـ”داعش”.
استهجن الضابط سؤالي حول سبب عدم القبض على رجل شارك في السرقة المنظمة للأراضي لمصلحة الجماعة. وقال إن رجاله استغرقهم التحقيق مع أولئك الذين قاتلوا وقتلوا نيابة عن الجماعة الإرهابية. لم يكن لديهم الوقت لملاحقة المئات من موظفي الخدمة المدنية الذين عملوا في إدارة تنظيم الدولة الإسلامية. وبعد ساعات عدة، سمح لنا الرجل الذي ظهر توقيعه على إيجار أرض زراعية استولي عليها من قس مسيحي، وعلى عقد البساتين المأخوذة من الدير، وعلى صك الأرض التي سُرقت من عائلة شيعية، بمقابلته في منزله المتواضع.
كانت الزينة الوحيدة في غرفة جلوسه عبارة عن ساعة مكسورة يتأرجح عقربها بين الساعة 10:43 و10:44.
كان سليم البالغ من العمر 63 سنة، وهو رجل منحنٍ ذو نظارات سميكة، عصبي بشكل واضح. أوضح أنه أمضى سنوات يشرف على المكتب الإقليمي في مديرية الزراعة في الحكومة العراقية، إذ كان يرفع عمله للسيد حمود، الذي اتصلنا به للمرة الأولى بعد بضعة أيام.
اعترف السيد سالم أن التوقيع الذي على عقود الإيجار يخصه. لكنه ادعى، متلعثماً، أنه تم تجنيده قسراً في الإدارة البيروقراطية للدولة الإرهابية. وقال: “أخذوا ملفاتنا وبدأوا يطلعون عليها، بحثاً عن الممتلكات التي تعود إلى الشيعة، وأي منها يمتلكها المرتدون، وأي منها لهؤلاء الذين تركوا الخلافة”. وأشار إلى المرشدين الذين كانوا يبلّغون عن عناوين الشيعة والمسيحيين.
عُرض على السنة مدقعي الفقر، ممن ليس بوسعهم دفع الإيجار مقدماً، اتفاقية مشاركة مع الدولة الإسلامية، تسمح لهم بامتلاك الأراضي المسروقة مقابل ثلث الحصاد المستقبلي.
في الأيام المزدحمة، كان من المعتاد أن يلتف صف من المزارعين السنة حول مبنى مكتبه، العديد منهم مستاء من المعاملة التي يتلقونها على يد الحكومة العراقية ذات الغالبية الشيعية وفي المجمع ذاته حيث وجدنا أكواماً من المجلدات الصفراء، استقبل السيد سالم رجالاً يعرفهم، كان أطفالهم يلعبون مع أطفاله. جاؤوا لسرقة أرض رجال آخرين يعرفونهم جميعاً، رجال نشأ أطفالهم أيضاً مع أطفالهم.
بجرّة قلمه، خسر المزارعون أراضي أسلافهم الزراعية، وسُلِب أبناؤهم من ميراثهم وفنيت ثروة عائلات بأكملها بُنيت على مر أجيال. وقال سليم آملاً بتفسير أفعاله: “هذه علاقات بنيناها على مدى عقود، منذ عهد أبي، ووالد أبي، هؤلاء كانوا إخواني، لكننا أُجبرنا على القيام بذلك”.
سيطرة كاسحة
مع انتهاء عام 2014، والانتقال المشوش إلى عام 2015، ومساعدة السيد حمود وزملائه في الحفاظ على تشغيل الحكومة، شرع جنود الدولة الإسلامية في إعادة تشكيل كل جانب من جوانب الحياة في المدينة- بدءاً من دور المرأة. نُصبت اللوحات الإعلانية التي تظهر صورة لامرأة محجبة بالكامل. واستولى المسلحون على مصنع للنسيج بدأ بتصنيع بالات من الملابس النسائية الطويلة، المطابقة للمواصفات. وسرعان ما سُلمت الآلاف من مجموعات النقاب إلى السوق، وبدأ تغريم النساء اللواتي لم يغطين أنفسهن.
استسلم السيد حمود، المعروف باسم “أبو سارة”، أو “والد سارة” واشترى النقاب لابنته. وخلال سيره المتكرر من العمل وإليه، بدأ حمود يسلك الشوارع الجانبية لتفادي عمليات الإعدام المتكررة التي كانت تنفذ في دوائر المرور والساحات العامة. في إحدى المرات، أُخرجت فتاة في سن المراهقة متهمة بالزنا من حافلة صغيرة وأجبرت على الجلوس على ركبتيها. ثم أُسقطت بلاطة حجرية على رأسها. أما على الجسر، فتأرجحت جثث الأشخاص المتهمين بأنهم جواسيس، من على السور. ولكن على الطرقات ذاتها، لاحظ حمود شيئاً ملأه بالعار: كانت الشوارع أكثر نظافة مما كانت عليه تحت إدارة الحكومة العراقية.
عمر بلال يونس، سائق شاحنة يبلغ من العمر 42 سنة، سمحت له مهنته باجتياز مناطق الخلافة، لاحظ التحسن نفسه، وقال رافعاً الإبهام كعلامة ممتاز: “جمع القمامة كان رقم 1 في ظل داعش”. وقال ستة من موظفي الصرف الصحي الذين عملوا تحت إمرة “داعش” والذين تمت مقابلتهم في ثلاث بلدات بعد أن أجبرت الجماعة على الخروج منها: “لم يتغير عمال تنظيف الشوارع، ما تغير هو فرض المسلحين النظام المُفتقد”.
وقال سالم علي سلطان، الذي أشرف على جمع القمامة للحكومة العراقية ولاحقاً للدولة الإسلامية في بلدة تل كيف العراقية الشمالية: “الشيء الوحيد الذي كان بوسعي القيام به خلال فترة السلطة الحكومية هو إيقاف العامل عن العمل لمدة يوم واحد من دون أجر، أما في ظل تنظيم داعش، فيمكن أن يُسجَن”.
وقال السكان أيضاً إن صنابيرهم كانت أقل عرضة للجفاف، كما كان من غير المرجح أن تتدفق مياه الصرف الصحي كالمعتاد، وأُصلحت الحفر بسرعة أكبر تحت حكم المسلحين، على رغم الغارات الجوية شبه اليومية. وفي أحد الأيام، رأى سكان الموصل جرافتين متجهتين إلى حي يدعى المنطقة الصناعية في النصف الشرقي من المدينة. وشوهد العمال وهم يمهدون لطريق خرساني جديد سيمتد في نهاية المطاف لمسافة ميل واحد تقريباً، ليربط بين منطقتين في المدينة ويقلل من الازدحام. كان الطريق السريع الجديد يُسمى “طريق الخلافة”.
لم تهتم الحكومة الجديدة بالمسائل الإدارية فقط. فحتى بالنسبة إلى الفضيلة، كما في كل شيء آخر، كانت هناك بيروقراطية. أُمر المواطنون الذين أوقفوا في الشارع على يد الحسبة، أو الشرطة الأخلاقية، واتهموا بارتكاب جريمة بتسليم هوياتهم مقابل الحصول على “إيصال بالمصادرة”. وأُخذت الهوية إلى مكتب الجماعة، حيث أُجبر السكان على القدوم ومواجهة الحكم. كان الأخصائيون الدينيون يُقدِّرون الجريمة، عبر ملء إحدى الاستمارات.
بعد ذلك، يُدفع الجاني لتوقيع استمارة أخرى: “أتعهد، أنا الموقع أدناه، بعدم حلق أو قص لحيتي مرة أخرى”، وفق ما جاء في إحدى الاستمارات التي تابعت: “إذا قمت بذلك مرة أخرى، فسأخضع لجميع أنواع العقاب التي قد يتخذها مركز الحسبة ضدي”. وينعكس التعصب والحماسة، اللذان سيطرت بهما الدولة الإسلامية على السكان، من خلال سجلات نقل السجون البالغ عددها 87 سجلاً، هجروها في أحد مراكز الشرطة الخاصة بهم. ألقي المواطنون في السجن على إثر عدد من الجرائم الغامضة، بما في ذلك نتف الحاجب، وقص الشعر غير المناسب، وتربية الحمام، ولعب الدومينو، ولعب الورق، ولعب الموسيقى، وتدخين الشيشة.
في مطلع عام 2016، انطلقت ابنة السيد حمود، سارة، إلى مهمة سريعة من دون تغطية عينيها. تم رصدها من قبل ضابط من شرطة الأخلاق. وقبل أن تتمكن من التوضيح، ضربها بقبضته في عينها. ومنذ ذلك الحين، منعها والدها من مغادرة المنزل، باستثناء قيادة السيارة إلى المشفى لحضور مواعيد الكشف التي أعقبت الاعتداء، الذي أفقدها البصر، وفقاً للعائلة. ومع التغيير الذي يجتاح المنطقة، اضطر السكان إلى اتخاذ خيارات محفوفة بالمخاطر، من بينها: البقاء أو المغادرة، التمرد أو التأقلم.
قرّر حمود محاولة الهرب. وقد خصص هو وابنه الأكبر عمر، البالغ من العمر 28 سنة، أكثر من 30 ألف دولار لشراء منزل جديد. في صباح يوم رحيلهم المخطط له، سحب عمر كل المال ما عدا 1000 دولار من الحساب البنكي. وبعد مرور ساعتين فقط، اقتحمت وحدة من المقاتلين المقنعين الباب الأمامي للعائلة. واحد منهم كان يمسك بإيصال البنك الذي وقعه عمر. وحذر المسلحون قائلين: “جربوا ذلك مرة أخرى وسنقتل كل واحد منكم”.
ماكينة المال
على الضفة الغربية لنهر دجلة، في مبنى محطم، وجدت حقيبة مهجورة.
كشفت وثائق الحقيبة أن ملكيتها تعود إلى ياسر عيسى حسن، وهو شاب محترف يبدو من هويته الصورية أنه رجل أصلع ذو أنف كبير معقوف. كان مدير قسم التجارة داخل وزارة الزراعة في وزارة تنظيم الدولة الإسلامية.
كانت طموحات الجماعة الهائلة وبيروقراطيتها القوية تعتمد على قدرتها على توليد الأموال. ألقت الحقيبة، من خلال ما احتوت عليه من الاستمارات المحاسبية واستقراءات الميزانية والإيصالات، إضافة إلى قرصين مدمجين يحتويان على جداول بيانات، الضوء على حجم ماكينة إيرادات المنظمة وقدمت مخططاً لطريقة عملها. وأظهرت التقارير المالية معاملات بأكثر من 19 مليون دولار في مجال الزراعة وحدها.
تصف الوثائق كيف جُني المال في كل خطوة من سلسلة التوريد: على سبيل المثال، قبل أن تزرع بذرة واحدة من الحبوب، جمعت الجماعة الإيجار من الحقول التي صادرتها. بعد ذلك، عندما كانت المحاصيل جاهزة للحصاد، جمعت ضريبة حصاد. ولم تتوقف عند هذا الحد. دفعت الشاحنات التي نقلت الحبوب رسوم الطرقات السريعة. خُزنت الحبوب في الصوامع التي سيطر عليها المسلحون، وكسبت الجماعة المال أيضاً عندما بيعت الحبوب إلى المطاحن، التي كانت تسيطر عليها. حولت المطاحن الحبوب لطحين، وباعته إلى التجار.
بعد ذلك، تم تحميل أكياس الطحين على شاحنات، اجتازت مناطق الخلافة، لتدفع المزيد من الرسوم. وتم بيعها إلى المتاجر الكبرى والمحال التجارية، والتي تم فرض ضرائب عليها أيضاً. وكذلك على المستهلكين الذين اشتروا المنتج النهائي. أظهر أحد جداول البيانات الموجود في الحقيبة، أنه خلال 24 ساعة واحدة في عام 2015، جمعت الدولة الإسلامية 1.9 مليون دولار من بيع الشعير والقمح. ويظهر جدول آخر أن الميليشيات كسبت أكثر من ثلاثة ملايين دولار في ثلاثة أشهر من مبيعات الدقيق الإجمالية في ثلاثة مواقع فقط في الموصل. بدا أن المنظمة عازمة على جني المال من كل حبة- حتى المحاصيل التي تضررت.
في يوم واحد فقط، وفقاً لبيان آخر، حصلوا على ما يزيد على 14000 دولار من قمح وصف بأنه احترق في تفجير، و2300 دولار من بيع العدس والحمص الفاسد. ووفقاً لجدول بياني آخر، حصلوا كذلك على ما يزيد على 23 ألف دولار من حبوب كشطت من قاع خزان.
وصلت ذراع الضرائب لتنظيم الدولة الإسلامية إلى كل أوجه الحياة في الموصل. فُرضت ضرائب على العائلات في العراق تصل إلى2000 دينار شهرياً (أقل من دولارين) لجمع القمامة، و10000 دينار (8 دولارات تقريباً) لكل 10 أمبير من الكهرباء، و10000 أخرى لمياه البلدية.
دفعت الشركات الراغبة في تركيب خط أرضي رسوم تركيب تصل إلى15000 دينار (12 دولاراً تقريباً) إلى مكتب اتصالات الجماعة، تليها رسوم صيانة شهرية بقيمة 5000 دينار.
كما حصَّلت مكاتب البلدية رسوماً مقابل تراخيص الزواج وشهادات الميلاد.
شهادة الميلاد هذه لفتاة تدعى شهد. كانت تزن 4 كيلوغرامات عند ولادتها في 26 أغسطس/ آب 2016، في منطقة إدارية أنشأها تنظيم داعش، تسمى مقاطعة الجزيرة. تم العثور على الشهادة من قبل صحفيي “التايمز” في تل عطا، وهي قرية في شمال العراق، في يوليو/ تموز 2017 في مبنى يستخدمه مقاتلو “داعش”. “ولدت شهد في منزل لـ ب. وضحة منصور عبيد، 20 عاماً، ومحمود محمد موسى، وعمره 35 عاماً. لم يكن هناك طبيب أو ممرضة أو قابلة موثقة عند الولادة”. أصدر تنظيم الدولة الإسلامية، “داعش”، شهادات ميلاد مرقمة على قرطاسية كُتب عليها “الدولة الإسلامية، وزارة الصحة” للأطفال المولودين تحت ظل علمهم الأسود.
يمكن إلقاء نظرة عن كثب على الوثائق عبر هذا الرابط.
لكن ربما كانت الضريبة الأكثر ربحاً هي الضريبة الدينية المعروفة باسم الزكاة، والتي تعتبر واحدة من أركان الإسلام الخمسة. وتبلغ نحو 2.5 في المئة من أصول الفرد، وما يصل إلى 10 في المئة للإنتاج الزراعي، وفقاً للسيدة ريفكين، الباحثة في “جامعة ييل”. وفي حين أن الحكومتين العراقية والسورية فرضتا بعض هذه الرسوم، فإن الضريبة الإلزامية على الأصول مثَّلّت تطوراً جديداً.
بحسب الشريعة الإسلامية، الزكاة هي ضريبة عشرية تستخدم لمساعدة الفقراء. أما بحسب تفسير الدولة الإسلامية، فقد أصبح العمل الخيري دفعاً إلزامياً، وبينما استخدمت بعض الأموال التي تم جمعها لمساعدة العائلات المحتاجة، عملت وزارة الزكاة والجمعيات الخيرية كنسخة من دائرة الإيرادات الداخلية.
تركزت معظم الشهادات التي وصفت كيف أصبح تنظيم الدولة الإسلامية أغنى مجموعة إرهابية في العالم، على مبيعات الجماعة من النفط في السوق السوداء، والذي جلب في وقت من الأوقات ما يصل إلى مليوني دولار في الأسبوع، وفقاً لبعض التقديرات. ومع ذلك، فإن السجلات التي عثر عليها التميمي في سوريا وحللتها السيدة ريفكين تبين أن نسبة الأموال المكتسبة من الضرائب مقارنة بالنفط بلغت 6:1.
وعلى رغم مئات الضربات الجوية التي ملأت رقعة الخلافة الإسلامية بالثقوب، استمر اقتصاد التنظيم في العمل، مسيّراً عبر مصدر إيرادات لا يمكن قصفه بموجب المعايير الدولية، وهم المدنيون الخاضعون لحكمه، ونشاطاتهم التجارية والتراب الذي يقفون عليه.
وفقًا لتقديرات “منظمة الأغذية والزراعة” (الفاو) التابعة للأمم المتحدة، كانت الأرض التي استولى عليها المسلحون من أكثر مناطق خصوبة في العراق، وفي أكثر فترات التنظيم ازدهاراً، شكلت الحقول التي تم حصادها نسبة 40 في المئة من إنتاج القمح السنوي للبلاد وأكثر من نصف محصول الشعير. سيطرت المجموعة في سوريا في وقت ما على 80 في المئة من محصول القطن في البلاد وذلك وفقاً لدراسة أجراها مركز تحليل الإرهاب في باريس.
وفقاً للدراسة أدرت كل هذه المحاصيل دخلاً صادماً يقدر بـ800 مليون دولار، من الضرائب المفروضة على الأرباح.
ومع ذلك، فقد قابل طموح المجموعة في إدارة الدولة، تحمّلها نفقات كثيرة.
في يوم واحد في صيف عام 2016، سلم مالك الحقيبة أكثر من 150000 دولار إلى أحد محاسبي المجموعة لدفع تكاليف نقل القمح من بلدة إلى أخرى، وذلك وفقاً لأحد التقارير المالية.
خلال فترة أسبوعين من العام ذاته، دفع أكثر من 16000 دولار إلىديوان التجارة بالدولة الإسلامية في ولاية دجلة و14000 دولار إلىفرع كركوك. قدم دفعة نقدية بـ8400 دولار إلى مكتب مجموعة حويجة، و16800 دولار إلى دائرة الأراضي و8400 دولار إلىولاية الدولة الإسلامية الواقعة على جانبي نهر الفرات.
استمر تحصيل الضرائب حتى النهاية. كان يوجد ما لا يقل عن 100 وثيقة تحمل عنوان “إجمالي الإيراد اليومي” والتي تبين الإيراد النقدي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 بعد شهر من بدء حملة التحالف لاستعادة المدينة.
وعلى رغم دخول الدبابات إلى المدينة وسيطرتها على الأحياء المحاصرة، استمر ديوان التجارة في كسب المال، إذ حصل على 70000 دولار في صفقة بيع واحدة.
ما بعد داعش
في أحد الأيام في أواخر عام 2016 سقطت ورقة إعلانية مُزينة بالعلم العراقي على منزل عائلة حمود.
يتذكر حمود الذي كان مسؤولاً في ديوان الزراعة، ذلك الوقت حين احتمى هو وعائلته في غرفة المعيشة مُلتصقين كتفاً بكتف على أريكة على شكل حرف L، في ذلك الوقت كان التنظيم قد حظر أجهزة الاتصال الخليوية وأطباق الأقمار الصناعية. كانوا معزولين عن العالم تماماً.
كانت الورقة الإعلانية واحدة من الملايين التي تسقط على الموصل لحث سكان المدينة على الاختباء. كان الهجوم العسكري على المدينة وشيكاً.
سأل حمود: “هل يحدث ذلك حقاً؟”. ثم استخدم ولاعة لحرق الورقة الإعلانية.
أثبت المقاتلون الذين قوبلت خططهم ببناء دولة بكثير من السخرية كفاءتهم في تنفيذها. استغرق الأمر ما يقرب من تسعة أشهر لانتزاع الموصل من بين أيديهم، كان مجهوداً شاقاً إلى درجة دفعت جنرالاً أميركياً كبيراً إلى القول إنها أصعب معركة شهدها خلال 35 عاماً.
ومنذ ذلك الحين، فقد تنظيم الدولة الإسلامية كل الأراضي التي استولى عليها في العراق والشام ما عدا 3 في المئة منها فقط. ولكنهم متمسكون بخلافتهم إلى درجة أدت إلى هدم حي تلو الآخر أثناء معارك استرداد المدن والبلدات منهم. فقد الآلاف بيوتهم وتُكتشف المقابر الجماعية شهرياً. تحتوي إحداها على رفات أربعة من أبناء عمومة حمود.
ترتدي ابنته سارة الآن نظارات ذات زجاج سميك بعد أن أصبح بصرها مشوشاً منذ ذلك اليوم الذي لكمت فيه من قبل الحسبة. وعلى رغم ضعف بصرها، إلا أنها تستطيع رؤية جبل القمامة المكوم أمام ساحة منزل عائلتها.
قليلون من يجدون شيئاً إيجابياً يذكرون به حكامهم السابقين، ما لم يطلب منهم الحديث عن الخدمات التي قدموها. يقول حمود: “يجب أن نكون منصفين، كانت النظافة أفضل بكثير في وجود “داعش”. وعلى رغم رحيل “داعش”، تظل هناك أثار تذكر بدولتهم وطريقتهم في الحكم.
على سبيل المثال، يتذكر المقيمون في شمال حي تل كيف، كيف استطاع “داعش” تجنيد لجنة من مهندسي الكهرباء لإصلاح أعطال الأحمال الزائدة في الشبكة. وقاموا بتركيب قواطع كهربائية جديدة، وللمرة الأولى استطاع السكان استخدام الكهرباء على مدار اليوم بعد أن كانوا يستخدمونها ما لا يزيد على 6 ساعات يومياً فقط.
في بداية عام 2017، استعاد الجنود العراقيون البلدة، ولاقوا ترحيب الأبطال، ولكنهم أزالوا القواطع الكهربائية التي قام “داعش” بتركيبها، وعادت انقطاعات الكهرباء. يقول يونس، سائق شاحنة، عن فترة “داعش”: “لو أن أعضاء الحكومة يعودون إلى نظام حكم داعش، لقبّلنا رؤوسهم”. وبالفعل خلال أشهر قليلة، نفذت الحكومة ذلك تماماً. ولم يفت مواطنو المدينة ملاحظة المفارقة الكامنة في أن الأمر تطلب سيطرة مجموعة من الإرهابيين على البلدة لحل إحدى مظالمها التي دامت مدة طويلة.
يقول أحمد رمزي سالم، مالك أحد المتاجر، “على رغم عدم الاعتراف بهم كولاية أو دولة، إلا أنهم تصرفوا على هذا الأساس”.
*روكميني كاليماتشي
هذا الموضوع تم اعداده وترجمته عن موقع New York Times لمراجعة المقال الاصلي زوروا الرابط التالي.
درج