هارا وفرزات اقلقا الجنرالات: لماذا يجب تهشيم اصابع الموسيقي والرسام
باسل علي
ليلة الجريمة النكراء، حشر في ستاد سانتياغو دي تشيلي ألوف الشبان الذين جمعهم جنود الجنرال بينوشيه، كان من بينهم شاب في الثلاثين من عمره، اشتهر بعزفه الشجي على الغيتار، وانتصاره للتجربة الديمقراطية التي أوصلت الرئيس سلفادور الليندي إلى سدة الحكم، تقدم منه أحد ضباط الانقلاب، الذي قاده الدكتاتور بينوشيه، وأمر جنوده بإحضار الغيتار، وقدمه للشاب فيكتور هارا، طالبا منه العزف، إلا أن الشاب هارا رفض قائلا إن موسيقاه خلقت للحياة وليس للموت، فما كان من الضابط إلا أن قطع أصابع يدي هارا العشرة، قائلا له: أصبح بوسعك الآن أن تعزف موسيقى الموت.
صباح الجريمة النكراء ذاتها، حشرت مجموعة ملثمة من شبيحة الجنرال الصغير رجلا خمسينيا في سيارة سوداء قاتمة وانهالوا عليه بالضرب بأكعاب البنادق ذاتها، كان ذلك الرجل فنان ذاع صيته برسوماته الكاريكاتورية اللاذعة، وانتصاره لثورة الحرية في بلاده التي هزت مضجع الجنرال وسدة حكمه، تقدم منه أحد الملثمين وقال له: أهذه هي الأصابع التي ترسم وتتطاول بها على أسيادك، وانهالت عليه الضربات واللكمات والرفسات وأعقاب البنادق والمسدسات من كل الجهات قبل أن تلفظه السيارة على طريق عام سريع لما كانت قطرات الندى تتسرب بين ثنايا بياض الياسمين.
بين فصلي الجريمة ذاتها ثمة فاصل زمني يمتد لنحو 35 عاما، لكنه فاصل لا يغير في صورة وجه القاتل شيئا، فعند هذا المستوى الرفيع من الجريمة تتشابه وجوه القتلة بكل ما فيها من ندوبات خلفتها رعونة ذلك الإصرار على الإيغال في ممارسة القتل والتعذيب والبطش.
بعد أن انقضت عقود من الزمن على الفصل الأول من الجريمة النكراء، أعاد قاض تشيلي فتح القضية المتعلقة بجريمة قتل الموسيقي والمغني والشاعر والمخرج المسرحي التشيلي فيكتور هارا، الذي اغتيل في 16 ايلول/سبتمبر 1973 في ملعب لكرة القدم في العاصمة سانتياغو، حيث زج به مع خمسة آلاف شخص آخر على يد القوات القمعية التابعة للنظام الديكتاتوري الذي كان يقوده الجنرال أوغستو بينوشيه والتي لم يكن قد مضى على اطاحتها بحكومة الرئيس الراحل سلفادور دالي المنتخبة بصورة ديمقراطية سوى خمسة أيام.
لم تمض سوى ساعات قليلة على الفصل الثاني من الجريمة النكراء ذاتها، حتى تنادت الأصوات من داخل سورية ومن جميع أنحاء الوطن العربي والعالم لإدانة الاعتداء على الفنان والمثقف والمناضل السوري علي فرزات وباستنكارها وبالمطالبة بمحاسبة المجرمين الذين اقترفوها والمعروفة أسماءهم وعناوينهم وأرقام قيودهم، بينما وثقت أصابع بيضاء لكل هذه التفاصيل المكونة للجريمة والمحيطة بها في دفتر أوراقه غير قابلة للتلف وحبره لا يذوب ولمن دونها ذاكرة من حديد لا تنسى.
في الفصل الأول من الجريمة، قال بعض الجنود إن ضابطا من الجيش يطلقون عليه لقب الأمير، كان قد عذب هارا حتى الموت بما في ذلك قيامه بتهشيم وتقطيع أصابع يديه العشرة بعد أن رفض المغني العزف على قيثارته نزولا عند طلب ذلك الضابط الذي لم يرق له رد الثائر التشيلي على طلبه حين قال له: ‘أنا لا أغني للموت، أنا أغني للحياة فقط’.
في الفصل الثاني من الجريمة، قال الجنرال للرسام: كفى، رسوماتك بدأت تزعجني وتقضّ مضجعي وتهز عرشي وتثير حفيظة أتباعي، وإذا أردت أن تنجو بنفسك، فعليك التوقف عن الرسم والتخلي عن (صبيانيتك) السياسية، فرد الفنان في رسالة تحذير شديدة للنظام، بأنه إذا كان يريد أن يخرج من الحفرة التي هو فيها حاليا فعليه أن يوقف الحفر، مشككا بإمكانية خروجه بعد سقوط أعداد كبيرة من القتلى والضحايا منذ بداية الانتفاضة السورية ضد النظام.
في الوقت الذي يصعب فيه تحديد هوية الجنود شبه العسكريين الذين شاركوا في المجزرة الانسانية الوحشية في تشيلي، يدرك جميع التشيليين في يومنا هذا، بلا أدنى شك، أن الاسم الحالي لملعب كرة القدم ذاك هو اسم من كان رمزا موسيقيا للمقاومة ضد الانقلاب العسكري الدموي الذي قاده الجنرال المجرم، الذي مات خلف القضبان قبل أن يسدل الستار على محاكمته، وقبل أن يصدر حكما قضائيا في حقه طالبت به أمهات وزوجات وآباء وأزواج وشقيقات وأشقاء وصديقات وأصدقاء وجيران وجارات فقدوا أحبة لهم بفعل آلة القمع ذاتها المستخدمة في هذين الفصلين من الجريمة ذاتها.
في الوقت الذي لا حاجة فيه لأن يرفع اللثام عن أسماء الملثمين الذين اعتدوا على رسام الكاريكاتير، فوجه المعتدي الأكبر عليه معروف للجميع، لا حاجة أيضا لأن يطلق اسم من لا يزال رمزا فنيا للمقاومة ضد الاستبداد والقهر والقتل على ملعب كرة قدم مماثل أو حتى شارع من شوارع دمشق أو حمص أو درعا، لأن صاحب الرمز سيظل يرسم وسيواصل مسيرته الكفاحية التي كان يدرك منذ البداية أن دربها ليس مفروشا إلا بورود حرية منشودة طال انتظارها.
يدا الموسيقار تحولتا إلى اسطورة منذ لحظة اغتياله، فهناك روايتان بهذا الخصوص. الأولى يرويها من يؤكدون أنه بعد تلقيه ضربات شديدة والتعرض لأساليب متعددة ومتنوعة من التعذيب، فإن هاتين اليدين، اللتين طوعتا القيثارة لإلهاء الخوف وابعاد شبح الموت وترسيخ روح المقاومة، تعرضتا للتعذيب بأعقاب البنادق القاسية بطريقة وحشية أدت إلى إعطابهما تماما قبل أن يطلق الملثمون أنفسهم رشقة من الرصاص كانت اكثر من كافية لإغتياله. أما الرواية الأخرى فتقول إن كلتا يديه قد تم بترهما، بينما تم رمي جثته على الفور بعد التعذيب الذي تعرض له ورفاقه في ملعب كرة القدم في حرج قريب من مقبرة العاصمة.
يتذكر التشيليون فيكتور هارا في هذه اللحظة على طريقتهم، حيث يقف محبوه ومؤيدوه على النظرة الجديدة التي تكنها العدالة التشيلية لهذا العملاق الفني والوطني والانساني وذلك لجهة الدور الذي تلعبه في عدم ترك الجريمة تمر دون معاقبة مرتكبيها.
ينظر السوريون إلى علي فرزات بالطريقة ذاتها حتى لو كان يتعين عليهم الإنتظار قليلا حتى يرى محبوه العدالة السورية وهي تقاضي من حاولوا تهشيم أصابعه وشلها عن الحركة في محاولة بائسة منهم لاسكات صوت لم يقترف صاحبه أي ذنب آخر سوى أنه طالب برفع راية الحرية في بلد هو أحوج ما يكون لها.
كل تشيلي بشيوخها برجالها بنسائها بصبيانها وصباياها ولا سيما أطفالها ومعهم أطفال امريكا اللاتينية والعالم يحتفظون بهذه القامة العالية في أعز ركن من وجداناتهم وأفئدتهم وتفكيرهم، الجميع هناك في الوطن، في امريكا الأصيلة يبتهجون لحضور وجه هارا بين ظهرانيهم حتى بعد رحيله رغم ضخامة الخسارة واتساع مساحة الحزن في قلوبهم .
لا يدرك الذين هشموا اصابع علي فرزات وضعضعوا جسده دون فكره أن ملايين الاصابع سترتفع إلى أعالي السماء وتبقى تنادي بالحرية، حرية التعبير والعيش الكريم بلا هواجس ولا حواجز ولا كواتم صوت ولا غرف معتمة تحت الأرض ولا فرق للموت، لا يدرك هؤلاء الذين أعمتهم السلطة واستمرأوا لون الدم أن اصبع رسام يرتعش في يد مبدع انسان سيولد في البلاد ملايين الأصابع والحناجر.
القدس العربي