هجرة الأسماء إلى المعاني
إسمح لي يا قارىء هذه السطور أن أبدأ مساحة البوح هذه ببقعة حزن شديدة السواد. أن أبدأها بلحظة حداد على كل من ســُـفح دمه على التراب السوري وهو يهتف باســـم الحرية والسلام. لابل إسمح لبقعتي السوداء هذه، ياسيدي، أن تتفشى بالاتجاهات الأربعة لتغطي كل من سقط على تراب الوطن سواء هتف باسم الحرية أم لم يهتف… فقد اختلطت الأوراق ودخلنا جميعا ً في النفق المظلم الذي طالما خشينا وتوجسنا وذعرنا من مجرد فكرة وجوده والذي وصلنا إليه بسبب غباء وجهل وتشبيح قياداتنا الحكيمة!
لقد بات من المعروف أن أحد أهم العقبات في وجه الحراك الوطني القائم حاليا ً في سوريا الذي أستطيع، وبكل ثقة بالنفس، أن أصفه بالثورة هو تردد شرائح واسعة من الشعب السوري في الانخراط فيه. فمازال الكثير من الناس يرون في النظام منقذهم من الطوفان الإسلامي الأكثروي المتطرف منطلقين بذلك من فضاءات الخوف الطائفي والمناطقي والعرقي إلخ… وأنا هنا لن أناقش هذه المخاوف ولن أحاول أن أفندها وسأكتفي بالقول إنها خاطئة ولن تؤدي إلا لردم الفجوة بيننا وبين الكارثة السياسية المجتمعية التي لايتمنى أي عاقــل حصولها على الأرض السورية الغالية. لكني سأتوقف عند تبرير ٍ مــُحبــِط ٍ سوداوي عبثي لهذا التردد. تبريرٌ سمعته مرارا ً وتكرارا ً من أناس ٍ مختلفي المشارب والجذور. يتلخص هذا الأمر في مقولة أن لافائدة من كل هذا الحراك! ســوريا كانت هكذا وستبقى هكذا فلماذا تحمل مشاق التحرك ولماذا تعريض البلاد والعباد لمخاطر الانقسام والتشظي؟ سيذهب بشار وسيأتينا رئيس بشار ٌ جديد وستبقى الأمور كما هي!! سيبقى الظلم والفساد والمتاجرة بالقضية إلى آخر ماهنالك من موبقات اعتدنا على وجودها منذ مايزيد على النصف قرن من الزمن. يقولون إن سوريا كانت هكذا قبل سوريا الأسد وستبقى كذلك بعد زوال هذا اللقب عنها.
يحزنني دوما ً أن أرى أناسا ً يجعلهم خوفهم من المستقبل المجهول شركاء سلبيين في الإجرام الدموي الواقع على شعب سوريا الطيب. كما يؤلمني أن أرى أناسا ً مازالوا مقتنعين بلعبة المقاومة والممانعة التي لعبها النظام بذكاء منذ البدايات الأولى على الرغم من عشرات الأدلة الدامغة على متاجرته بالقضية الفلسطينية واللبنانية والكردية والعراقية وسواها!
لكن مقولة أن سوريا كانت وستبقى مرتعا ً للفساد والفاسدين تجعلني أحبط فعلا ً لأن التاريخ موجود ومازالت الحقائق متوافرة بسهولة نسبية لكل من يريد أن يعرف. ومن هذه الحقائق الدامغة مايلي:
– روى لي أحد الضباط المهندسين القدامى في الجيش العربي السوري أنه في أواخر الخمسينيات كان عائدا ً من الجبهة بعد القيام بأعمال تسليح حقول الألغام. وصادف أن مر بسيارته العسكرية الصغيرة المغبرة المتسخة من أمام مبنى جامعة دمشق في الحلبوني. وكانت هناك مظاهرة اشتبك فيها مئات المتظاهرين الطلاب مع الشرطة بالحجارة. فخشي الضابط من أن يصاب بحجر طائش يكسر زجاج سيارته. وكان أن صاح أحد المتظاهرين وطلب من زملاءه التوقف عن ضرب الحجارة لأن السيارة سيارة جيش وليست سيارة شرطة!!! فتوقف الجمع عن الضرب إلى أن مر ضابطنا بسلام ومن ثم عاودوا الاشتباك مع الشرطة.
– في عدد كانون الثاني من العام 1925 نشرت جريدة الفيحاء الدمشقية مقالا ً يــُقال إنه كان لصاحبها قاسم الهيماني وفيه يعترض على ترشيح الشيخ الجليل تاج الدين الحسيني ابن محمد بدر الدين الحسيني لمنصب رئيس الدولة لا لشيء إلا لأنه رجل دين. وفيما يلي نص المقال: لاتزال رياسة الدولة السورية موضع أخذ ورد بين فخامة المسيو ديجوفينيل المفوض السامي والمُرشــحين لهذا المنصب من السوريين، وقد كان أول المرشحين تاج الدين الحسيني قاضي دمشق ونجل الأستاذ الشيخ بدر الدين الحسيني المحدث الشهير فاجتمع بفخامة المفوض السامي عدة اجتماعات تباحثا فيها على ما روته الصحف في شرائط قبول الرياسة والخطة التي يجب السير عليها غير أن بعض الصحف الدمشقية فاجأتنا بعد ذلك بخبر ترشيح مصطفى بك برمدا ونستنتج من هذا أن الشيخ تاج الدين لم يوفق للوصول إلى ذلك المقام ولا ندري أيكون فشله هذا نهائيا أم يكون عارضا ًيمكن زواله؟ إننا نحترم الشيخ تاج الدين ونــُجلّ مقام أبيه ولكننا لا نرى من مصلحة هذه الأمة إسناد رياسة الدولة إليه فقد ذهب العهد الذي كان رجال الدين فيه يتولون السلطة السياسية والمدنية بسبب أنهم من رجال الدين، وليس في البلاد من يود رجوع ذلك العهد المظلم ونحن إن كنا لا نريد محاربة الشيوخ ولا نتمنى القضاء عليهم في سورية كما حوربوا وقضي عليهم في تركيا إلا إننا مع ذلك لا نرضى أن يتدخلوا في شؤون البلاد السياسية والإدارية ونود أن يظلوا ضمن دائرة وظائفهم الدينية والروحية. ولسنا نرى من مصلحة الشيخ تاج الدين نفسه إسناد رياسة الدولة إليه لأنه ليس من رجال سلك الحطام فقد يكون الشيخ عالما منفصلا أو إماما يقتدى به أو غير ذلك، ويكون في الوقت نفسه غير مستعد لقيادة جيش أو إقامة جسر أو ترأس دولة وقد رأينا العام الماضي، ورأى الشيخ تاج الدين نفسه ما حل ببعض الرجال الذين انتدبوا لتدريس بعض العلوم في مدرسة حقوق دمشق فقبلوا تلك المهمة وهم ليسوا من أهلها فلما بدأوا بالتدريس ظهر عجزهم للطلاب ففضحوا فضيحة فاحشة واستقال بعضهم وأقيل البعض الآخر. وليس من ينكر أن رياسة الدولة عمل إداري سياسي لا يقوم به إلا من أعد نفسه له إما بالدراسة الخاصة وإما بالتدرج في الوظائف الإدارية تدرجا قانونيا كاملا. ولا نظن أن الشيخ تاج الدين، ونعيدها هنا الاعتراف باحترامنا لحضرته وإجلالنا لحضرة والده، قد درس علوم الإدارة والسياسة في مدرستها الخاصة أو تولج الوظائف الإدارية وتدرج فيها تدرجا يوصله لرياسة الدولة. ولو كانت رياسة الدولة عبارة عن ركوب السيارة ذات العـَـلـَم وحضور المآدب وإتقان أعمال التشريفات لكان في قدرة كل فرد من هذه الأمة أن يقوم بذلك المنصب وان يتمتع بامتيازاته ومخصصاته الوافرة، ولكن الرياسة عمل كما قلنا وأقل ما يتطلبه العمل الاختصاص والخبرة وقد رأينا بأم العين كيف كانت عاقبة الذين تولوا ذلك المنصب من غير أهله.
– مع نهايات العقد الخامس وبداية العقد السادس من القرن الماضي، كانت سوريا قد بدأت تدخل في مهب رياح الإيديولوجيات الشمولية وطقوسها القمعية التي لم تــَعــَْتَدْ عليها لا في زمن الاستعمار الفرنسي ولا في زمن الحكم البرجوازي بعد الاستقلال. وفي العام 1959 تحديدا ً عين الأستاذ صلاح الدين الزعبلاوي مديراً لثانوية جودت الهاشمي. وكان أن وزع بيان من الحزب الشيوعي السوري في شهر شباط من ذلك العام بمناسبة استشهاد المناضل سعد الدروبي تحت التعذيب في أقبية المباحث في حمص. وبالفعل فقد وجد في دروج مقاعد الطلاب وفي صفوف مختلفة نسخ من هذا البيان. بعد حوالي نصف الساعة استدعت الإدارة بعض الطلاب الشيوعيين الذين حامت حولهم الشكوك وأجرى المدير تحقيقاً معهم حول موضوع البيان الموزع في الصفوف. نفى الطلاب آنذاك مسؤوليتهم عن توزيع البيان فطلب المدير منهم أن يعودوا إلى صفوفهم، وفي صباح اليوم التالي عادوا إلى مدرستهم بسلام. ولقد سمع من بعض الأساتذة في ذلك الزمان القريب نسبيا ً أن المرحوم صلاح الدين الزعبلاوي، حينما جاءت مجموعة من رجال المباحث إلى الثانوية بهدف اعتقال بعض الأساتذة الشيوعيين من صفوفهم، رفض ذلك رفضاً باتاً واعتبر ذلك تقليداً غريباً على الحياة المدرسية في سوريا، ولم يكتف بذلك بل تحيَّن الفرصةَ في تلك اللحظة ليطلبَ من معاون المدير، وهو الشخصية التربوية المشهورة والمعروفة من قبل الكثيرين من طلاب مدينة دمشق المرحوم شفيق السادات، تبليغَ الأساتذة المطلوبين من المباحث كي يخرجوا من الباب الشمالي للمدرسة. لقد فعل المدير ذلك على الرغم من أنه لم يعْرَفْ عنه أي تعاطفٍ سابق مع الماركسيين.
– أثناء زيارة خالد العظم رئيس وزراء سوريا الأسبق إلى مدينة درعا عام 1962 اعترض موكبه بعض المحتجين ورموه بالبندورة والبيض الفاسد، حتى تلطخت بذلته البيضاء واصطبغت باللون الأحمر، فيما كان المتظاهرون ينددون بسياساته ويطالبون بإسقاط وزارته. وفي طريق عودته إلى دمشق، عــرف أن الشرطة اعتقلت المحتجين، فطالب على الفور بإطلاق سراحهم وقال: – إن الرد على ما ارتكبوه ليس بالقمع بل بالمزيد من الديمقراطية، المزيد من الديمقراطية . السيد خالد العظم كان سياسياً محترفاً، وكان له رأي قاسي بالجهل، وهو يقول إنه وبسبب هذا الجهل تصفق الشعوب العربية دائما لحكامها من عهد جمال باشا السفاح إلى عبد الناصر.
– في عهد العقيد أديب الشيشكلي، وفي حفل تسليم الشهادات لخريجي كلية الحقوق، رفض أحد الطلاب وهو راغب هاني الســباعي استلام شهادته وقال على رؤوس الأشهاد إنه يرفض استلام شهادة الحقوق في بلد لاتحترم فيها الحقوق. كانت نتيجة ذلك أن أمضى الطالب المذكور أسبوعا ً في مخفر الشرطة وسرعان ماخرج !
لقد عدتُ بساعة الزمن إلى الوراء بضعة عقود من الزمن فقط لأبين لمن يظن أن سوريا كانت هكذا وأن شيئا ً لم يتغير أوأن شيئا ً لن يتغير جراء ثورة الكرامة التي نعيشها فصولا ً دموية الواحد تلو الآخر. عدت بساعة الزمن لأبين له أن سوريا لم تكن هكذا وأنها يستحيل أن تبقى على هذه الحال.
بعد قرابة نصف قرن من الطوفان الإيديولوجي البعثي والممارســـة العشوائية حتى لمبادئ وأسس هذا الطوفان نفسه وجدنا أنفسنا أمام ظاهرة اجتماعية غاية في الغرابة. هي ظاهرة هجرة الأسماء عن معانيها. فقد أجبرت الأسماء والصفات على ترك المعاني قسرا ً.
– في سوريا الأسد بات اســم ضابط الجمارك الشريف مرادفا ً لصفة الغباء والبلادة كونه لايعرف كيف يستفيد من مركزه.
– في سوريا الأسد لم يعد لمجلس الشعب أي علاقة أو صلة بالشعب الذي يفترض أن يمثله ويدافع عن قضاياه.
– في سوريا الأسد بات الجيش العربي السوري مصدر خوف ورعب للمواطن السوري عوضا ً عن أن يكون حامي الديار والأعراض والأموال.
– في سوريا الأسد باتت الجامعة السورية عملا ً تجاريا ً قذرا ً رابحا ً لأنصاف المتعلمين وأنصاف الدكاترة وأرباعهم.
– في سوريا الأسد بات ضابط الأمن هو الاســـم الأكثر بعدا ً عن معنى الأمن والأمان.
– في سوريا الأسد لم يعد الاقتصاد علما ً بل شطارة ومحسوبيات ومخلوفيات. لم يعد للحرية معنى… لم يعد للوحدة معنى. هاجرت المعاني قسرا ً عن مسمياتها. تركـَـتها مبهمة ً يتيمة ً خاوية.
– في سوريا الأسد باتت سوريا بلد الأشباه والظلال وأنصاف الأشياء وأرباعها.
مايحدث اليوم هو وبكل بساطــــة عودة الأسماء لمعانيها. يجب أن يعود للجيش معناه. ولابد أن يعود للقضاء استقلاله ومغزاه. ولابد من عودة الحياة الجامعية إلى رحاب الحرية والفكر والإبداع والاستقلالية. لابد للصحافة والنقابات من أن تعاود مزاولة عملها بمنتهى الحرية بعد أن غمرها الطوفان. لابد من أن يعاود مجلس الشعب تمثيل الشعب عبر انتخابات حرة نزيهة بعيدا ً عن شطارة وتشاطر المخالفة والأسود وضباعهم. باختصار لابد من عودة الأسماء إلى معانيها… وهذا مايحصل اليوم على أرض سوريا الأبية …
نزار حمود