هذا الإدمان بين الشباب السوري/ هيفاء بيطار
لم يعد ممكناً السكوت على ظاهرة إدمان المخدرات لدى الشباب السوريين وتجاهلها، وهي ظاهرة تتفاقم بسرعة، وتنتشر كالنار في الهشيم، وتهدد حياة آلاف الشبان السوريين ومستقبلهم، ولا نحتاج لإمعان التفكير لمعرفة أسباب انتشار الإدمان على المخدرات، بكل أنواعها، لدى الشبان السوريين، فانسداد أفق المستقبل وانعدام الأمل بإيجاد فرص عمل، أو حياة آمنة، خصوصاً أن معظم الأسر السورية تضررت مادياً “ومعنوياً” بشكل كبير، بسبب الأزمة السورية الفائقة الصعوبة، واضطر قسم كبير من الشبان إلى ترك دراستهم، أو خسارة عملهم والنزوح، ووجد شبان سوريون عديدون أقرانهم يموتون بالبساطة التي تموت فيها الفراشات المحترقة بالنور.
لكن، هؤلاء الشباب يُقدمون كأضاحي العيد في حرب قذرة، وكان لي الحظ، بحكم عملي طبيبة، أن ألتقي بشبانٍ عديدين، أدمنوا المخدرات، وكثيرون منهم ينتسبون إلى أسر أحسنت تربية أولادها، وإلى أهل يتمتعون بالثقافة، ويفهمون العملية التربوية الناجحة، غير أن تلك المعطيات تتبخر أمام وحشية الظروف التي يمر بها شباب سورية. وقال لي أحد الشبان المدمنين، الذي انتهى في السجن، بتهمة التعاطي والاتجار بالمخدرات: سبعة من أصدقائي ماتوا، وأخرج رزمة ورقية من جيبه، وعرض أمامي أوراق نعيهم، وقد تحولوا برمشة عين إلى الشهداء الأبطال. أية متانة نفسية خارقة، يجب أن يمتلك هذا الشاب، لكيلا يسقط في مطب تخدير آلام الروح بالمخدرات، ولكي يتحمل عضات الألم التي لا ترحم بفقدانه سبعة من أصدقائه! لعله يشعر أن دوره قادم لا محالة، وأن المستقبل المؤكد في بلد القتل اليومي، سورية، هو الموت.
شاب آخر التقيته، بعد أن تسبب إدمانه على المخدرات بانهيار “عصبي” لأمه التي كانت تلطم وجهها، وتقول: أفنيت عمري في تربيته تربية صالحة، فكيف أدمن المخدرات؟ وحين تحدثت إليه، باح لي بوجعه، فهو في سنته الجامعية الأخيرة، ويتعمد أن يُرسب نفسه في الامتحانات الجامعية. لديه فوبيا من التخرج، لديه ذعر نفسي من حمل شهادة جامعية، بدل أن يفخر بنفسه، وتفخر به أسرته، لأنه حصل على الشهادة الجامعية، لأنه يعلم أن الخطوة التالية هي أن يُطلب إلى الجندية، أي أن يتحول، بعد أيام أو أسابيع، إلى شهيد بطل يلحق بطابور الشبان الذين استشهدوا من دون أن يعرفوا الغاية من موتهم! لأنهم صُعقوا ورُوعوا، حين وجدوا أن مفهومهم للحياة وحب الحياة، والعيش والحب والعمل والنجاح والزواج والإنجاب والخطط المستقبلية لبناء أسرة ووطن، ذلك كله نُسف، وتم استبداله بالموت. أراد هذا الشاب، ومثله آلاف يتشاركون معه ظروفه، أن يهرب من واقعه ويأسه، وانعدام الأمل باللجوء إلى المخدرات.
أصبحت هناك مقاه معروفة في اللاذقية، وغيرها من المحافظات السورية، يتجمع فيها الشباب السوريون، ويتعاطون المخدرات، وقد نبّه إلى هذه الظاهرة رجال دين عديدون، طلبوا من الأهالي مراقبة أولادهم، ومحاولة وقايتهم من الانجراف في هاوية الإدمان. لا يمكنني أن أنسى أبداً ذلك المشهد، حين دخلت بيروت، قبل أسابيع، وتعلق نظري بجسرٍ كبير يكتظ بأجساد مئات الشبان السوريين، وقد كُتبت لافتة كبيرة (تجمع الشبان السوريين). كم هو مُخزٍ ومُهين أن يكتظ الجسر عند مدخل بيروت بمئات من الشبان السوريين، اضطروا للنزوح من سورية، بسبب الجحيم السوري، ليجدوا أنفسهم على هامش الحياة، لا يملكون سوى قوتهم الجسدية، يعرضونها كي يؤمنوا لقمة عيشهم ويسدوا جوع المعدة الذي هو جوع الذل أيضاً.
لا أبرر ظاهرة إدمان المخدرات لدى الشباب السوريين أبداً. كنت أتمنى أن يكونوا جبابرة، وألا تهزمهم الحياة ووحشية الواقع وقسوة الظروف وسخاء الموت، السخاء الوحيد المُتوفر في سورية. لكن، للأسف، الإنسان ليس جباراً، وطاقة الشباب تحتاج من يتعهدها، ويؤمن لها فرص النمو والإبداع والعطاء، فرص الاستمرار، وليس أن يُقصف العمر برصاصة، وأن تموت الأحلام وسط مهرجان موت الشبان، وهم لا يزالون براعم. ولا يمكنني إلا أن أحمل الجهات الرسمية في سورية مسؤولية إدمان الشباب السوريين على المخدرات، لأن الدولة هي من يجب أن تؤمن فرص الحياة والأمان والأمن لأبنائها، ولأن مستقبل سورية سوف يصنعه شبانها الذين أمعنت الظروف الوحشية في إذلالهم، وكسر مقاومتهم في التشبث بالحياة الحقة.
العربي الجديد