صفحات الناس

في يوم شهداء الصحافة اللبنانية.. فلنتحدث عن سوريا/ رشا الأطرش

 

أكثر من ستين إعلامياً، بين مصوّر وكاتب ومراسل وناشط ومدوّن، رجالاً ونساء، سوريين وعرباً وأجانب، قتلوا في سوريا منذ بدء الثورة في آذار/مارس 2011، بحسب توثيق منظمة “مراسلون بلا حدود”.

بعض هؤلاء لبناني. واليوم، عيد شهداء الصحافة اللبنانية، قد يكون مناسبة لتفكير يتجاوز العواطف المحصورة في الموت، المؤلم والمستنكر دوماً وكيفما أتى.

الشهداء الصحافيون – بالتعريف – مدنيون، يؤدون مهنتهم في ساحة حرب لا ينخرطون فيها بأي شكل. أو هم مدافعون عن قضية، ليس من خارجها بالضرورة، لكن بالتأكيد ليس من داخل آلتها الدعائية، وإلا ما عادوا شهداء الصحافة، بل ربما شهداء حزب أو عقيدة.

قد يوجب العيد اليوم رؤية أخرى. ليس بداعي الاستشهاد وحده. فالأخير تتويج لممارسة مهنية، هي أساس الكلام، وإن كان أيضاً نتيجةً تزيدُها تلك الممارسة أرجحيةً وضبابية. والحال، أنه لا حرب معلنة/تقليدية، في لبنان اليوم، يُقتل في ساحتها صحافيون. ولا قضية واضحة وداهمة يموت في سبيلها زملاء. الحرب الآن في سوريا، وكذلك القضية التي باتت أيضاً لبنانية، وإقليمية. حتى الأحداث الأمنية والمعارك اللبنانية المتفرقة مرتبطة الآن بالحدث السوري.

هناك، قُتل إعلاميون رافقوا جيشاً نظامياً يدكّ شعبه، تسانده ميليشيات حزب الله وغيرها. وهناك أيضاً، سقط إعلاميون زرعوا أنفسهم بين ميليشيات المعارضة، التي قضم بعضها منطلقات الثورة الوطنية ونُبلها.

في عيد شهداء الصحافة اللبنانية، قد لا يكون التساؤل السجالي هو الطريقة الاحتفائية الأكثر شعبية. لكن لا بد، في وقت ما، من طرح لبناني لإشكالية “الصحافة المرافقة لقوى عسكرية”، طالما أن لبنانيين يمارسونها، ويُقتلون.

صحافيون embedded. كان المصطلح نجم الأوساط الإعلامية (والسياسية والثقافية)، اللبنانية والعالمية، إبان الحرب الأميركية على العراق. ومثلهم الآن في سوريا. لا فرق من حيث المبدأ. لكن الفرق، كل الفرق، في مسوغات النقاش العام، والمهنة، وتالياً في النتيجة: موت صحافيين لبنانيين في سوريا.. إلى جانب مقاتلين. وفي الوسط الصحافي اللبناني، المُبتلى ببعض اللاصحافيين، قد يكون للنقاش ثمن معركة ليست دائماً نظيفة، فيُنحى جانباً كي لا يضاف إلى المعارك السياسية والأمنية الدائرة.. رغم أنه الوسط الصحافي نفسه الذي أرغى وأزبد في إشكالية “مرافقة العسكر” قبل 11 عاماً.

لنتذكر ملامح النقاش الأول…

إبان غزو العراق العام 2003، تجاوبت المؤسسة العسكرية الأميركية مع امتعاض الإعلام الأميركي، الذي لم يحظ بتغطية من قرب لحرب الخليج الثانية (1991) أو غزو أفغانستان (2001). اصطحب الجيش إلى العراق، صحافيين، أميركيين وغير أميركيين. لم يخترع العسكر الأميركي جديداً. فتاريخ “الصحافة المرافقة” يعود إلى الحرب العالمية الأولى، بل ربما إلى حرب القرم (1854-1856). لكن دوائر النقد والوعي والتعبير، مطلع الألفية الثالثة، غيرها قبل قرن ونيف. فدار سجال “الصحافة المرافقة” في أميركا نفسها والغرب، قبل العالمين العربي والإسلامي، حول نقاط أساسية ثلاث:

أولاً، الموضوعية والحيادية التي تهددها الصيغة هذه، في مقابل ضرورة لوجستية أمنية وجغرافية. ثانياً: مدنيّة الصحافي التي يقوضها وجوده في ثكنة أو آليه عسكرية، وبالتالي يماهيه مع قوة مسلحة هي، بطبيعة الحرب، هدف، وفي مرمى النيران، فيعرّضه للموت، وعمله للثغرات. ثالثاً: المنافسة التي سعّرتها، آنذاك، ظاهرة انتشار الفضائيات والإعلام الإلكتروني، والتي سعّرت بدورها ظاهرة إعلامي يعرف جمهوره ويخاطبه، فيؤكد منظومته القيمية والمفاهيمية ويغذيها بأجوبة أكثر من الأسئلة، ما وسّع هامش الميديا الإيديولوجية.

.. وسال حبر كثير. ارتفعت أصوات ناقدة حول العالم. باحثون وصحافيون محترفون ومثقفون. ثم ظهرت المراجعات الذاتية، وبينها اعتذارات.

أما في سوريا، فقد منعت السلطات دخول الصحافيين، أو قننته لصالح الإعلام الحليف. وأحياناً، حتى الحليف مقيّد بشروط، وإلا..

لذا، يدخل الصحافيون من إحدى بوابتين: إما بوابة النظام وجيشه والميليشيات المساندة، أو بوابة المعارضة وميليشياتها. البوابتان مفتوحتان على نقاش “الصحافة المرافقة” ذاته. في الحالتين، يتعرّض الصحافي للخطف والاعتقال والموت، ورؤيته تتعرض للاجتزاء والانحياز (عن قصد أو عن غير قصد). إلا أن حدة الإشكالية لا تبدو نفسها في المقلبين.

الصحافي الداخل إلى سوريا بمساعدة المعارضة المسلحة (من دون أن يرافق المسلحين بالضرورة، وإن تواجد في مناطق نفوذهم) يحتمل تأويل أدائه احتمالات أكثر، منها الاضطرار قبل “المناصرة”. فهذه طريقه الوحيدة الممكنة لإطلالة ميدانية أقرب إلى استيفاء الحقائق، خصوصاً إذا كانت هذه نيّته في الأصل وإذا عرف بحنكة مهنية كيف يتملّص من ضغوط من يرافقهم (فينقل الوضع الإنساني في اليرموك مثلاً، أو يسجل قصصاً ميدانية في حمص أو ريف دمشق)… في حين أن الصحافي سيكون حتماً أبعد من الصورة الوافية، إن سعى إليها عبر قنوات النظام مكافح “الإرهاب”. فَهمُ مدخله هذا لا احتمالات عديدة له.

الصحافي الداخل مع قوات “الجيش العربي السوري” والميليشيات الداعمة، غالباً يرافقها بكل ما للكلمة من معنى، يكون هذا خياره وخيار مؤسسته، عن وعي، وفي معظم الأحيان ليس لاضطرار لوجستي.

الصحافي المرافق لجيوش/ميليشيات منظمة، تتمتع بالتفوق التنظيمي والعسكري، أرضاً وجواً، وحصيلة ضحاياها عشرات أضعاف من يسقط من صفوفها أو في مناطق سيطرتها.. ليس كمن يرافق واحدة من قوى الأمر الواقع المشرذمة، المتناحرة، متعددة العقائد، الأقل عتاداً وعديداً، والتي قد “تحتضن” إقامته بالكامل، أو قد تكتفي عصابات صغيرة محسوبة عليها بتهريبه إلى الداخل وربما مقابل أجر مالي.. (ماري كولفين وريمي أوشليك، مثلاً، قتلا بقصف النظام على حمص، حيث كانا يغطيان أوضاع المدنيين، وقُصف مقرهما الإعلامي الذي كان في مبنى سكني).

الأرجح أن الإيديولوجيا الإعلامية التي شكّلت في عراق 2003، ثالث أركان نقاش الـembedded، ليست نتيجة لـ”صحافة المرافقة” في السياق السوري الآن. بل هي، خصوصاً في ما يتعلق بمرافقي الجيش النظامي وروافده، سابقة على العمل الإعلامي الميداني، بل منبعه ومحفّزه. وطبعاً، غني عن البيان، والحال هذه، البحث في ما تبقى من أركان النقاش الأصلي.. أي مدنية صحافيين مرافقين لقوات النظام وحلفائها المسلحين، أو موضوعية تغطيتهم.

اليوم، عيد شهداء الصحافة اللبنانية. كل قتلٍ حزين وظالم ومحلّ شجب.. وكذلك كل انحراف عن طريق قد تؤدي إلى قصة أصدق، يسقط، من أجلها أيضاً، شهداء.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى